الحركية التي يعرفها النقاش حول بعض القضايا القيمية في أوربا والولاياتالمتحدةالأمريكية، تؤشر على أن المنحى نحو توسيع الإجهاض وقبول زواج المثليين وإلغاء عقوبة الإعدام ليس بالضرورة تصاعديا، وأن العكس أحيانا هو الخلاصة المستنتجة كما هو الحال بالنسبة إلى موضوع الإجهاض والاعتراف بزواج المثليين، وأن هذه القضايا لا تزال تمثل بؤرة النقاش المجتمعي بالنسبة لهذه الدول، وأن الخطوط متوجهة في منحنى النقاش بين الأطراف المتصارعة، وأن أطروحة موت أو تراجع التوجهات المحافظة صارت أبعد ما تكون عن توصيف حقيقة ما يجري. المثال الأول الأكثر محافظة يأتي من إيرلندا التي احتد فيها النقاش حول قانون الإباحة الجزئية للإجهاض في صيف سنة 2013، لمجرد أنه يبيحه في حالة ما إذا تعرضت حياة الأم لخطر، أي نفس الاستثناء الوارد في القانون الجنائي في المغرب، ومع ذلك أثار موجة غضب ساخطة من المعارضين. والمثال الثاني في نفس الموضوع يأتي هذه المرة من إسبانيا، وذلك بعد تعديل القانون الذي قدمه الاشتراكيون سنة 2010، وتقديم حكومة راخوي لقانون جديد يقيد الترخيص بالإجهاض ويحدده في حالات مخصوصة، أثارت غضب الاشتراكيين ورأوا فيه نكوصا إلى الوراء واسترضاء لأصوات اليمين المحافظ. المثال الثالث، يأتي من كرواتيا التي وصل بها الجدل إلى درجة الاستفتاء حول تعريف الزواج في الدستور بحصره في علاقة اتحاد بين زوج وزوجة بما يعني وضع الإطار الدستوري الدائم لرفض الاعتراف بزواج المثليين. المثال الرابع، يخص موضوع عقوبة الإعدام في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ لم يسجل تقرير حقوق الإنسان العالمي لسنة 2013 سوى 17 ولايات فقط من أصل 50 ولاية أقرت رفض عقوبة الإعدام، كما سجل الإعدام الفعلي ل 40 شخصا في الويلات المتحدةالأمريكية سنة 2012، فيما لم تقبل أغلب الولاياتالأمريكية زواج المثليين باستثناء 7 ولايات. هذه الأمثلة التي تخص النقاشات المجتمعية المختلفة في ترتيب حقوق الإنسان عند تعارضها، والحضور القوي للنزعة المحافظة في العالم، إذا انضافت إليها أمثلة أخرى تخص التراجع مثلا عن تقنين الدعارة كما هو الحال في فرنسا، التي صوت برلمانها على مشروع قانون بإلغاء البغاء وتجريم عملائه بهدف محاصرة الظاهرة، يسمح باستنتاج جملة من الخلاصات الضرورية: 1 أنه لا مزايدة حقوقية على المغرب في القضايا التي يتمسك فيها بثوابته المرجعية ويراعي فيها ثقافة المجتمع، وأنه طالما أن هناك نقاشا مجتمعيا قويا في المجتمعات الغربية نفسها يحسم هذه المرة لهذا الاتجاه، ويحسم في المرة الأخرى للاتجاه الآخر، بحسب السياقات وقوة حضور الدين في المجال العام، فإن خصوصية المغرب كبلد إسلامي منضبط لمرجعيته الإسلامية يجعله في منأى عن أي مزايدة أو ضغوط دولية. 2 أن عودة القيم أو الاحتماء بالهوية والانتماء إلى الذات ليست خاصية المجتمعات العربية فقط، ولا هي إفراز لهيمنة تيارات سياسية بعينها، وإنما هي سمة عامة تعرفها جميع المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء مع تفاوت في الدرجة والوتيرة، وأن تحويل النقاش في الموضوعات القيمية إلى معركة وصم بالرجعية أو العودة إلى الخلف أقل ما يقال عنه أنه ضعف في إدراك سوسيولوجيا تحولات القيم في المجتمع، وعدم الوعي بالبنى النفسية والثقافية العميقة التي تؤثر في تشكيل المجتمع وصناعة أفكاره وتوجهاته. 3 أنه لا يكفي لتعريف حقوق الإنسان الاستعانة بضغط اللوبيات، وأن الضغط الذي تمارسه المنظمات الدولية لمنع عقوبة الإعدام أو توسيع مجال الإجهاض وغيره من القضايا القيمية المثيرة للجدل، لا يمكن أن يرفع هذه المطالب إلى درجة «الحقوق الإنسانية الكونية» ما دامت هناك شرائح واسعة في مختلف بقاع العالم ترفض هذه المطالب بحجج حقوقية قوية لا يمكن أن تكون موضع استهانة أو استخفاف. 4 أن مدخل تقنين الظواهر المهددة للمجتمع وإخراجها للعلن لتسهيل مراقبتها والتحكم فيها، مثل تقنين الدعارة وما يشبه ذلك، أثبت فشله بدليل التجربة الفرنسية نفسها، وأنه لا مفر من تبني مقاربة محاصرة الظاهرة من جميع جوانبها وعدم تمتيعها بأي شرعية قانونية تستثمر في توسيع مخاطرها على المجتمع.