ليس هناك خلاف كبير بين مختلف المشتغلين في قضايا حقوق الإنسان بأن آليات منظومة حقوق الإنسان ليست بريئة كلية من التوظيف السياسوي، وأن الدول المهيمنة تحرص على أن تبقي المغرب وغيره من الدول النامية كموضوع للملاحظة الحقوقية، وتستعين في ذلك بالديناميات المدنية المحلية لإيجاد سند للضغوط التي تمارسها ضده، بل وتجعل بعض المقتضيات الحقوقية بوابة لإحداث شروخ في المرجعية الوطنية وتشظي في المنظومة القيمية للمغاربة. طبقا للاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان للدورة الثالثة عشر بجنيف، وافق المغرب على 140 توصية من أصل 148 ، والتزم بشكل طوعي بأن يقدم حصيلته كل سنة عوض أربع سنوات، ولم يتحفظ إلا على ثمانية توصيات: تحفظ على الفقرة 2 و 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واللتان تخصان ذكورة ولاية العهد والمساواة في الحقوق المدنية (الإرث)، وتحفظ على قضية تعدد الزوجات وإبقاء الاستثناء في تزويج القاصرات والإرث فيما يخص مدونة الأسرة، وتحفظ على رفع عقوبة الإعدام، بالإضافة إلى تحفظه على توسيع صلاحية المينورسو... من زاوية الأجندة الوطنية، المفترض أن يتجه الفعل الحقوقي إلى تتبع التزام المغرب بتنفيذ تلك التوصيات الغزيرة التي التزم بها بشكل طوعي، وأن ينتهج في التعامل مع المقتضيات الحقوقية ذات الحمولة القيمية والمرجعية نفس الأسلوب الذي تعامل به فيما يخص التوصيات التي ترتبط بالقضية الوطنية، وأن يجنب المغرب الضغط الدولي الذي يستثمر لأغراض أخرى غير النهوض بثقافة حقوق الإنسان. لكن للأسف، هناك من لا تهمه كثيرا تلك التوصيات الغزيرة، ولا يهتم في فعله سوى بالتركيز على التوصيات التي تم التحفظ عليها، ظنا منه أن الاستقواء بالضغط الدولي يمكن أن يساعد على جعل القرار السياسي ينحني للعاصفة ويرفع التحفظات جميعا. والواقع أن هذه الإمكانية كانت منعدمة في الوقت الذي كان المغرب في لحظة ضعف دولي، إذ استطاع المغرب في المراحل السابقة، رغم بطء إصلاحاته السياسية أن يحافظ على قدر كبير من التماسك في رفضه الالتزام بتلك التوصيات لأنه يعلم أنها تشكل مدخلا لهزة اجتماعية خطيرة، أما اليوم، وبعد أن أحرز المغرب تقدما كبيرا على مستوى الإصلاحات السياسية، ونجح كخيار ثالث في تأكيد تجربته الإصلاحية في العالم العربي، وبعد جملة المكتسبات الحقوقية التي راكمها، فقد صارت إمكانية الاستقواء بالضغط الدولي ضعيفة المفعول، إن لم نقل معدومة التأثير. والحقيقة أن جانبي القوة اللذين يتمتع بهما المغرب (التزامه الطوعي ب 140 توصية، وقوة تجربته الإصلاحية التي تؤهله لامتصاص الضغط الدولي) لا يعني الاستغناء عن الدور المدني في التدافع المجتمعي والحقوقي، فمع كل هذه الاعتبارات، تبقى هناك حاجة إلى الاشتغال على واجهتين: واجهة تسعى لتطوير وظيفة النضال الحقوقي بربطها بالأجندة الوطنية، والسعي لتوسيع هذا الأفق بتكثيف الملاحظة والمواكبة الحقوقية للالتزامات الحقوقية التي تعهد بها المغرب أمام جلس حقوق الإنسان. واجهة رفع سقف المدافعة المدنية لتحصين الموقف المغربي وإسناده في تحفظاته حتى ولو اقتضى الأمر رفع تحدي الاستفتاء الشعبي، ما دام الدستور يتيح هذه الفرصة، وما دامت العديد من الدول مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية تلجأ إلى هذه الآلية للحسم في هذه القضايا الحساسة. بكلمة، لا ينبغي أن تزايد علينا الدول المهيمنة في وضعية حقوق الإنسان، فأمريكا نفسها لا تفعل شيئا يذكر فيما يخص حقوق الشعوب (السكان الأصليون) وملف غوانتنامو لا يزال إلى اليوم مفتوحا رغم وعود باراك أوراما بحله، وكثير من الدول التي ترفع توصياتها ضدنا تتحفظ على بعض المواد في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وغيرها، فهل سنتجه إلى تحكيم الأجندة الوطنية في حقوق الإنسان أم سنتجه إلى إحداث زلزال مجتمعي عنيف يهدد مرجعيتنا الدينية والثوابت المعيارية للمجتمع فقط لأن هذه الدول ترفع في وجهنا توصيات بهذا الشأن.