شهد رحاب المقر المركزي لحركة التوحيد والإصلاح بالرباط، يوم السبت 23 نونبر 2013 ، محاضرة علمية أصولية مقاصدية حول «فقه المآلات وأهميته»، في إطار سلسلة دروس «سبيل الفلاح»، وكان ضيفها الوجه العلمي والسياسي الدكتور سعد الدين العثماني، الذي شرح وأفاض في فقه المآلات، وبين مفاهيمه وانبناءاته على القواعد الفقهية والأصولية. وفي نص المحاضرة ينتقد العثماني الدعاة الذين يقولون بفساد الزمان، ويجيب عن أسئلة مكانة المفتي الحقيقية داخل المجتمع، وتعامل الناس مع الفتوى. الديمقراطية والإنسانية واستيعاب المآلات أكد الدكتور سعد الدين العثماني، أن الخط الأصيل الذي يقتضيه فقه المآلات في مجال الإصلاح داخل المجتمع هو سلوك الطرق السلمية، مشيرا أنه وإن ظهر للبعض بادئ الرأي أن الطرق السلمية بطيئة، أو لا تؤدي إلى نتائج كاملة، أو لا تغدي الحماس الذي يكون داخل الصدور، فإن النظرة المتفحصة البعيدة المدى التي تنظر إلى النتائج على الواقع سترى بأن الالتزام المضبوط بالوسائل السلمية دائما هي الأجدى للبلاد والعباد، وأن يعيش الناس بشيء من أخطائهم خير من أن يعيشوا في فتن لا تذر ولا تبقي. ويرى العثماني أن هذا هو مشكل الحركات التي تحاول عن طريق العنف وعن طريق القوة القيام بعمل الإصلاح، قائلا لذلك ذهب العلماء قديما وحديثا إلى أن الإصلاح دائما في المجتمعات يجب أن يكون بالسلم وبالوسائل السلمية لا بالعنف الذي يعتبر خطا أحمرا، مشيرا إلى أن التوقع الحقيقي للعنف أنه يؤدي إلى الانفجارات والمفاسد. ويردف العثماني لذلك اهتدت البشرية –وهذه تجربة إنسانية- إلى وسائل لإدارة الخلاف بالطرق السلمية، وهي التي أنتجت الوسائل الديمقراطية لإدارة الخلاف، وذلك للخروج من دوامة الفتن الناتجة عن استعمال العنف في عملية الإصلاح، موضحا أن العملية الديمقراطية تفتح مسارات الإصلاح بطرق سلمية، ولكنها تحتاج إلى الصبر والاحترافية في الوسائل التي ستؤدي إلى الإصلاح على أرض الواقع. مفهوم فقه المآلات العثماني أورد تعريفا للمآل في اللغة على أنه المرجع والمصير والعاقبة، وفي الاصطلاح على أنه «مآلات الأفعال» ويستعمل بمعنى نتائج الأعمال وآثارها وما تنتهي إليه من عواقب في الواقع، ليخلص إلى أن فقه المآلات هو الفقه الذي ينظر إلى مآل الحكم الشرعي عند تنزيله في الواقع، ويأخذه بعين الاعتبار، إن كان الحكم سيؤدي إلى مقصده أمضي، وإن كان لا يؤدي إلى مقصده عدل أو غير بحسب طبيعة المآل. وأوضح العثماني أن مفهوم المآل قديما استعمل ودرس ضمن مباحث المصلحة الشرعية، ومقاصد الشريعة، وسد الذرائع، والاستحسان، والضرورة، والحاجة، ورفع الحرج، والعلاقة بين الوسائل والمقاصد... ثم استعملت عبارات: المآل أو أصل المآل أو اعتبار المآل أو فقه المآل أو اعتبار مآلات الأفعال، وبلغ المفهوم نضجه على يد أبي إسحاق الشاطبي، مشيرا إلى أن فقه المآلات يفيد في تلمس السبل قصد الارتقاء بالواقع بما يقربه من المراد الشرعي. أو في فرز الاجتهادات المناسبة لمنع تردي الواقع وازدياد المفاسد فيه، وأنه يؤسس لقواعد سابقة وعميقة من فقه إصلاح الواقع، ويؤكد قواعد تشريعة عامة: الأمور بعواقبها العبرة للمآل لا للحال المتوقع كالواقع الضرر في المآل ينزل منزلة الضرر الحال الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها. أدلة اعتبار المآلات ويسوق المتحدث أدلة اعتبار المآلات، كقوله تعالى «ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا عائشة رضي الله عنها «لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام»، وقول علي بن أبي طلب: «حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذب الله ورسوله»، وقول ابن تيمية: «مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم». وبين المحاضر أن مضمون فقه المآل ومراتبه تعبر عن ثلاث مقدمات جوهرية، أولها بناء الشريعة وأحكامها على مقاصد وغايات وبالتالي فلا يجوز أن يبتر الحكم عنها أو يبغى منه عكس ما قصده المشرع، ثانيا قصد المسلم في أعماله يجب أن ينسجم مع قصد التشريع، وإذا تناقضا كان ذلك عملا على عكس مقصود الشرع، فيصبح باطلا، وثالثا أن الاجتهاد التقديري المتضمن تقييم المصلحة والمفسدة المترتبتان عن تنزيل الحكم في الواقع. تجربة صلح الحديبية وأكد العثماني أن صلح الحديبية تضمن شروطا أدخلت ضيما على المسلمين، ولكنها درأت مفسدة القتل عن المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات المقيمين بمكة حينئذ، مستدلا بقوله تعالى «ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم» (الفتح/25). وقال العثماني إن صلح الحديبية كان لتجنب صدام وحرب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تلك الشروط المجحفة ورجع عن الاعتمار الذي عزمه، مع ذلك سماه الله تعالى فتحا وهو فتح باعتبار مآلاته، ولذلك يقول كثير من العلماء إن هذا الفتح أدى إلى اتفاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قيادة قريش وهذا الاتفاق جعل العرب الذين لم يكونوا مع المسلمين ولا مع أعدائهم يرتاحون في فترة الهدنة التي أقبل فيها الناس على الدين لأنه لم يبق خوف من حرب، فكان هناك استقرر وأمن، وبدأ الناس يقبلون على المدينة ويزورونها جماعات وقبائل وكانوا ينصتون إلى القرآن والى تعاليم الإسلام ويتعاملون مع المسلمين، فدخل في الثلاث سنوات التي بعده في الإسلام أكثر مما دخل الإسلام منذ بدايته إلى صلح الحديبية (قرابة 19 سنة). واستخلص العثماني أن هذا يعني أن ذلك الاستقرار هو الذي أتى من بعد بالفتح، ولذلك سمى الإسلام المقدمات فتحا لأن منذ البداية ظهرت النتيجة، فإذن لا حاجة أن يظن الإنسان أن إثارة الفتن وشيء من الشدة هو الذي سيجعل الناس يقبلون على الدين، وبالعكس بقدر ما تكون هناك ليونة ورحمة ومراعاة حالة الناس ومراعاة مصالحهم الدينية والدنيوية هذا سيدفعهم أكثر للإقبال عليه. وأوضح المتحدث أنه عادة المقاصد الأصلية في الحكم الشرعي إما حفظ مصلحة أصلا موجودة، وإما تحصل مصلحة غير موجودة، وإما تدرأ مفسدة غير موجودة، وإما إزالة مفسدة موجودة، لكن هذه المسائل الأربعة إذا أردنا تطبيق الحكم الشرعي بمفهومه الأصلي الذي يهدف إلى حفظ مصلحة فقد يؤدي في الواقع إلى تفويت مصلحة أفضل. حروب بسب إهمال المآلات وقال العثماني إن كثير من العلماء أرادوا إصلاح واقعهم ومقاومة الظلم فرفعوا السلاح وشنوا حروبا، فكانت النتيجة في أغلبية الأحيان دخول الناس في فتن بدون نهاية، موضحا أن النهي عن المنكر في الأصل شيء معقول، ولكن إذا كان النهي عن المنكر سيؤدي إلى منكر أكبر منه فإنه النهي عنه لم يعد مشروعا، وهذا هو المآل، لذلك يقول العلماء إنكار المنكر له مراتب، مضيفا أن الغالب في الواقع أنه حينما تحاول أن تزيل المنكر فإما أنه يعقب عليه منكر أكبر منه، أو أحيانا منكر أصغر منه، فيجب على الإنسان أن يراعي الواقع حتى لا يؤدي إلى مفاسد أكبر من تلك التي كانت من قبل. وانتقد العثماني الدعاة الذين يضخمون من مسألة فساد الزمان، قائلا «في الحقيقة لكل زمان مفاسده ومصالحه، وأظن أنه بالعكس اليوم ازدادت المصالح على المفاسد». وفي إجابته عن أسئلة اختلاف المفتون في تقدير المصالح والمآلات قال العثماني إن الفتوى إخبار يأخذ به الإنسان وأنه ليس في الدين إجبار، وأن الناس يتبعون المفتي باقتناعهم، لأن هذا تعبير عن حكم الله، فإذا لم يقتنعوا أن ذلك حكم الدين، فلا يجب الالتفات إليه مع أن المفتي كالمتخصص في الفيزياء والمتخصص في الكيمياء وعلم النفس فإن قال رأيا نؤخذ برأيه باعتباره متخصصا وليس لأن فيه خاصية معينة، فإذا لم نقتنع بتخصصه قصدنا متخصصا يظهر أنه أحسن وأبسط في العلم واتقى أيضا ، مشددا أن الفتوى لا تخرج عن ميدان الرأي أبدا، مضيفا أن الناس في الواقع يأخذون بفقه المآل، قائلا فإذا أراد أي إنسان في واقعه أن يقوم بعمل معين مع أنه يظهر له أن فيه مصلحة فإنه ينظر إلى نتيجته. ورأى العثماني أنه إذا كان الأمر مرتبط بالشأن العام، فإن المستوى يرتفع، وآنذاك فإن المفتي يعبر فقط عن رأيه، ولكن هناك مؤسسات مختصة في اتخاذ القرار دستوريا وقانونيا.