أن تنجو بحياتك فارا من دائرة الموت بسوريا فتلك لحظة لا تقدر بثمن، لكنها في المقابل لا تعني النجاة من المحنة التي تتربص بك خارج الوطن، منذ أن تكل رجلاك وتبذل ما تملك في سبيل الوصول. في أسواق وتجمعات ومساجد الرباط والبيضاء وفاس وطنجة وغيرها؛ ليس من الصعوبة أن تلاقي العشرات من السوريين تعرفهم بسيماهم.. بعضهم لا يتردد عن بث شكواه لإخوانه «المسلمين»، وبعضهم لا يسألون الناس إلحافا، شباب وأطفال يقفون على أبواب المساجد، ونساء وفتيات يمشين في الأسواق بعباءاتهن السوداء مطرقات إلى الأرض أو يتأملن المعروضات والملابس على أبواب المحلات والمتاجر. وحين تبلغ عضات الجوع مداها يمددن أيديهن على استحياء أو يطلبن عصيرا لأبنائهن الصغار الذين يصحبونهن في الحل والترحال. لو أن رغيف الخبز وحده هو المسألة لهان الأمر، لكن للهَمّ منافذ كثيرة إلى أبواب السوريين، ليس أقساها مشكل المأوى، فأغلبهم يتكدسون في فنادق رديئة، يعلو فيها الصراخ وتتراكم في شرفاتها وممراتها الكثير من الأفرشة والأمتعة، وعليهم قبل حلول الظلام أن يوفروا ثمن المبيت لصاحب الفندق ما بين 120 إلى 150 درهما يوميا. هذا للمحظوظين الذين نجوا من المبيت في الشارع وأما غير المحظوظين فتلك قصة أخرى.. ** منذ سنة تقريبا اعتاد المصلون في المساجد سماع جملة بلكنة شامية عادة ما ترتفع بمجرد أن ينتهي الإمام من نطق السلام للخروج من الصلاة «تقبل الله يا إخوان.. عائلة سورية محتاجة مساعدة» ينطقها صاحبها على استحياء ويرجع القهقرى نحو الباب أو إلى مؤخرة المسجد ينتظر معونات المصلين. أما المصلون فليس عصيا عليهم أن يستجيبوا، فالقصة مفهومة والجميع يتابع فصولها على شاشات التلفزة.. «السيف قد وقع في الرأس» والطالبون للمساعدة فارون من الموت، قطعوا آلاف الكيلومترات من مناطق متفرقة في سوريا عبر لبنان ثم الجزائر التي دخلوا منها إلى المغرب. لماذا المغرب بالضبط؟ يقول «عادل» الذي أمضى حوالي سنة في المغرب بين الرباط وفاس (ضاحكا) «لأنه نهاية السير». قبل أن يستطرد «المغرب بلد يتمتع بالأمن والاستقرار والمعاملة الحسنة، لم نتعرض لأي مضايقات منذ وصولنا، عكس بلدان أخرى قد لا تجد فيها حتى فندقا يقبل أن تمضي فيه ليلة واحدة وأنت بدون أوراق رسمية. «عادل» من عائلة حمصية ألجأتها ظروف الحرب إلى الخروج من البلد التي قال إنها صارت «واديا للذئاب.. القوي يأكل الضعيف»، يتحدث الآن بلكنة أقرب إلى الدارجة المغربية ويعرف الكثير من الأصدقاء والمحسنين المغاربة الذين قدموا له مساعدات. ولأن له مدة مقدرة في المغرب فقد أجرى العديد من المحاولات لتسوية وضعية السوريين والتقى الكثير من الأشخاص، قبل أن يدخل بيتا قال عنه إنه عادي جدا ومتواضع ويجلس إلى شخص يبثه مشاكله، سيعرف فيما بعد أنه عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة المغربية. لكن آخرين من أمثاله لا يعرفون الدارجة المغربية بعد ولا رئيس الحكومة.. بعضهم يرى شمس المغرب للمرة الثانية أو الثالثة فقط.. التقتهم «التجديد» أحير من غيرهم وبالكاد ينفضون تعب الوصول عن أجسادهم.. إحداهم وصلت للمغرب مع ابنها يومين بعد عيد الأضحى، والناس منشغلون بالأكل والفرح، ودماء الأضاحي لم تجف من الشوارع بعد. كانت تجلس متربعة أمام باب أحد المساجد في وسط الرباط، وبعباءتها السوداء يعلق تراب المسافات. حين خفتت حركة الأرجل الخارجة من باب المسجد؛ لملمت جسدها المتهالك وقامت لتبدأ حصة أخرى، هذه المرة باستجداء أصحاب السيارات وفي يدها جواز سفرها السوري الذي يغني عن أي شرح. قالت ل»التجديد» إنها تبيت في الشارع قرب الحديقة المجاورة للمسجد. وحسن سؤالها عن الغد؟ قالت إن الغد بعيد ولذلك فهي تفكر في المساء فقط وفي ابنها الذي تركته في باب أحد المساجد القريبة. «كابوس» الايواء بعد أن غادر الطرامواي محطة «باب الأحد» بالرباط وفرغت سكته الحديد تقافز أطفال صغار يتصايحون بلكنة شامية يعبرون السكة نحو فندق بالمنطقة الذي تبدو فيه حركة دؤوبة وتنشر في شرفاته أغطية وأمتعة مختلفة توحي بأن نزلاء غير عاديين مقيمون فيه. أزيد من 20 عائلة سورية -حسب ما صرح أحد السوريين اللاجئين- تقيم في الفندق البعيد عن التصنيف والذي يشبه عمارة سكنية بغرف صغيرة. المتحدث يحجز له غرفة رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة، وانضاف إليهم أحد الأفراد القادمين قبل أيام من سوريا. قال إنه لليوم السابع لم يدفع إيجار الغرفة والتي تبلغ 120 درهما لليوم. أما صديقه فله من الأبناء سبعة بالإضافة إلى زوجته، ولحسن الحظ فصاحب الفندق يسمح لهم بإضافة أي شخص في الغرفة مادام أنهم يحتملون ذلك. هكذا يصبح مشكل الإيواء أكثر كابوس يقلق السوريين اللاجئين والذين على كل منهم أن يدفع 120 درهما على الأقل لصاحب الفندق الذي قالوا إنه يقبل من باب المساعدة أن يؤجل استخلاص واجب المبيت منهم لأيام في حال تعذر جمعها في وقتها. على هذه الكيفية يمضي السوريون اللاجئون أيامهم في غرف الفنادق الرخيصة، فيما أقلية منهم تنجح في اكتراء بيت ليس من السهولة الحصول عليه. في هذا الصدد، قالت إحدى الفاعلات الجمعويات بالرباط والتي أخذت على عاتقها التكفل بعائلات سورية إن هناك مشكلا يواجه السوريين وهو تخوف الناس من استئجار بيوتهم للاجئين لعدة أسباب من أهمها عدم توفرهم على أوراق رسمية تجعلهم مصدر ثقة ومسؤولية. ولهذا السبب فقد حاولت توفير بيوت لهم خاصة للأسر، إلا أنهم حسب ما صرحت ل»التجديد» يتنقلون كثيرا ولا يستقرون، وقد تقصد البيت الذي تركتهم فيهم لزيارتهم فتجدهم قد غادروا دون أي إبلاغ، فيما القلة منهم يمكن أن يستقروا مع أبنائهم لمدة معينة. فرارا من فراغ اليد! يتنقل السوريون عادة بين بعض المدن المغربية خاصة بين الرباط والبيضاء وفاس ومراكش وطنجة وذلك بحثا عن ظروف عيش أفضل، وطمعا في شغل قد يقيهم طلب المساعدة والعيش على إكراميات المحسنين. إحدى الزوجات صادفتها «التجديد» تطلب عصيرا لابنتها من أحد محلات العصائر والذي خرجت منه خاوية الوفاض، قالت إن «المساعدات قليلة والناس ملوا من كثرة السوريين الذين تكاثروا هذه الأيام.. صاحب الفندق الذي أنا فيه طيب لكنه يريد «فلوس»..وحتى الحمّام يطلبوا منا «فلوس» ونحن لا نملك أي شيء ولدي ستة أطفال ونحتاج للأكل واللباس والغطاء..» وفي سبيل ذلك فزوجها الذي كان صاحب محل للألبسة بسوريا يعمل اليوم حمّالا في انتظار أن يجد عملا، وإلا عليهم أن يغادروا إلى مكان آخر. حالة لاجئة سورية أخرى ليس بأفضل منها، فعلى الرغم من أنها من القلائل الذين استطاعوا أن يجدوا لهم عملا في أحد مطاعم الأكل الشامي، إلا أن العمل لا يبقى له عندها إلا الإسم، فهي تحصل من عملها على 800 درهم في الشهر وتكتري بيتا يبعد عن مكان عملها كثيرا وعليها أن تتنقل إليه يوميا ذهابا وإيابا في سيارة الأجرة، وما تجمعه يتبخر قبل متم الشهر. في المقابل هناك البعض ممن لم تفلح الحرب في أن تأخذ منهم كل شيء، إذ غادروا ناجين بأرواحهم وبخبرة أو حرفة تتقنها اليد وقد تنفع في وقت الشدة، بعض اللاجئين احترفوا «صناعة الأسنان» التي يبرع فيها السوريون. يشتغل بعضهم مساعدا لصانعي أسنان مغاربة، فيما البعض الآخر يتخذون من غرف سكنهم «عيادات» شعبية لمعالجة الزبائن ويبذلون جهدا في التعريف بأنفسهم وترويج بطاقات مهنية لهم، يشتغلون يوما ويتوقفون أيام ريثما تسمح الظروف للانتقال لوضع أحسن. الملاحظ أنه في الوقت الذي يعرض المهاجرون الأفارقة في شوارع أغلب المدن الألبسة والهواتف والعطور وغيرها للبيع، لا يحدث أن تصادف أيا من اللاجئين السوريين في عمل كهذا. في هذا السياق قالت الفاعلة الجمعوية ( ك. ر) التي تساعد عائلات سورية، إن بعض اللاجئين السوريين يفضلون العيش على طريقتهم الحالية ك «عابري سبيل» ومنهم من يتعلل بعدم توفر من يشغلهم نظرا لأنهم لا يمتلكون أوراقا رسمية، لكن لما سعى بعض المحسنين لتوفير جزء من المال لكي يبدوؤا مشاريع صغيرة لم نجد عندهم رغبة في ذلك. حشيش واغتصاب ما الذي تفعله طالبة كانت في سنتها الثانية في الهندسة قبل أن تنفجر الحرب في بلدها وتجد نفسها لاجئة في بلد آخر وبدون أية وثائق رسمية؟ (و.س) فتاة من دمشق لها الآن حوالي سنة على وصولها لكنها مرت بالنسبة لها كمائة عام. كانت في أول مجيء للمغرب تقضي مساءاتها قرب كلية باب الرواح تتابع الطلاب يقصدون الجامعة وتتساءل عن أي المداخل يمكن أن تلج منه الجامعة لتستعيد دراستها وتتدارك سنواتها الضائعة؟؟ حالة (و.س) ربما حالة استثنائية لكنها تحيل على واقع آخر من عالم الضياع الذي يمكن أن ينتعش إذا لم يتم تدارك الأمر وتدبير حياة مستقرة للاجئين السوريين. اليوم الفتاة السورية لا تلبس العباءة السوداء على عادة أغلب السوريات اللاجئات وزيها يختلف عنهم، ولا تقف أمام أبواب المساجد لأنها لم تعتد ذلك كما قالت، بل تحكي بمرارة كيف وقعت في مصيدة الحشيش، الذي أغراها به بعض الشباب الذين استقطبوها لمرافقتهم في صالة الألعاب مستغلين غربتها عن الأهل والوطن، حيث جاءت للمغرب بدون أم ولا أب اللهم إلا بعض أفراد العائلة وأقرباء الأم. «نترة واحدة تنسيك كل الهموم» نطقتها بالدارجة المغربية. وحتى تصف المشهد كاملا لا تخفي أنها تعرضت للعديد من محاولات الاغتصاب بسبب انجرارها وراء شبان غرباء لم تكن تعرف عنهم أي شيء. هي الآن لا تستطيع ترك الحشيش إلا عندما لا تجد ثمنه. تقضي يومها في تدبير مصروف اليوم، ولا تفكر الآن في طرق المطاعم والمقاهي ومحلات بيع الألبسة التي تقول إنها طافتها كلها طلبا لعمل دون أن تفلح في الحصول على موطئ قدم لها. كل حلمها الآن هو أن تجد مدخلا آخر لاستمرار دراستها. قبل أن تضيف أنها تعرف أنها لا تملك أي وثيقة تسمح لها بذلك. في انتظار التسوية من بين المشاكل التي تواجه اللاجئين السوريين هو دخول جلهم إلى المغرب بطريقة غير قانونية، صحيح أنهم لا يتعرضون لأي مشاكل في الدخول إلى المغرب، بل إن بعض المصالح الأمنية سهلت لهم عملية الإيواء عن طريق الاتصال ببعض الفنادق التي لا تشترط عليهم أي شيء إلا بعض المعلومات الشخصية للمبيت كما صرح بذلك بعضهم ل»التجديد». إلا أن عدم توفرهم على أوراق الإقامة يجعل معاناتهم لا تنتهي سواء في البحث عن عمل أو الدراسة أو مختلف المعاملات الإدراية. بل يصعب حتى عملية استفادتهم من المساعدات لأن بعض الفاعلين المدنيين يتحرجون من التعامل معهم بسبب وضعيتهم غير القانونية. محاولات كثيرة قام بها بعض اللاجئين عن طريق طرق أبواب المؤسسات والمكاتب المعنية حيث يعولون التعامل معهم باعتبارهم لاجئين لكن دون جدوى. وبذلك يبقى اللاجئون السوريون عابرون للمسافات.. وحتى عند الإقامة يقيمون في مناطق عبور..