هناك مفارقة كبيرة تكشفها الخطابات السياسية التي تتفاعل داخل الحقل السياسي، لاسيما فيما يخص التعاطي مع قضية الإصلاحات المهيكلة. فمن جهة، تصرح الحكومة بأن هويتها إصلاحية، وأن الأزمة هي التي جاءت بها، وأن أولوياتها تتركز في تنزيل الإصلاحات، وأنها مستعدة للتضحية بشعبيتها في سبيل أن تجد هذه الإصلاحات طريقها إلى التنفيذ، ومن جهة ثانية، يظل الموضوع الرئيس الذي يؤثث خطاب المعارضة السياسية هو نقد تردد الحكومة في تنزيل هذه الإصلاحات. حجة الحكومة، أنها لما بدأت تشتغل على إصلاح صندوق المقاصة، وطرحت قضية الدعم المباشر للفقراء، واستدلت على ذلك بنجاح العديد من التجارب التي تبنت هذه الآلية، واجهت المعارضة هذا المشروع وتأرجح خطابها بين نقد هذا المشروع من زاوية الكسب الانتخابي الذي يمكن أن تحققه الحكومة من وراء توزيع الدعم على الشرائح الشعبية، وبين التمسك بحجة المس بالطبقة الوسطى وانهيار القدرة الشرائية. أما حجة المعارضة السياسية، فتتنوع اعتباراتها، مرة بنقد منهجية تدبير الإصلاح، ومرة باستحضار البعد الانتخابي، ومرة باستباق محاكمة المشروع الإصلاحي حتى قبل صدوره. والحقيقة أن مرجع هذه المفارقة هو كلفة الإصلاح وأثره على مواقع ومصالح بعض القوى والنخب، مما يجعل الإصلاح في المحصلة ثمرة حسن تدبير التدافع السياسي وإدارة موازين القوى. للأسف هناك من يتصور اليوم أن قضية الإصلاحات تلزمها فقط جرأة الحكومة وشجاعتها، كما ولو كان القرار السياسي يتم خارج الآليات الديمقراطية، وخارج قواعد اللعبة السياسية، وأنه بالإمكان القفز على مكونات الأغلبية، وعلى التوازنات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتمرير الإصلاح. هذا التصور الشعبوي لموضوع تدبير الإصلاح، الذي للأسف ترسخه بعض المواقف السياسية والإعلامية، يحاول أن يلغي من حسابه أنه كما أن للإصلاح كلفته، فإن له أيضا زمنه، وأن الأمر لا يتوقف عند بلورة المشاريع الإصلاحية ووضعها في سياق التنفيذ، وإنما يتطلب في الاعتبار الأول النظرة السياسية البعيدة التي تجعل من الإصلاح أمرا ضروريا وممكنا وواجبا. سيكون من الغباء السياسي أن نتصور أن الإصلاح الضريبي سيستقبل بالتصفيق الحار من قبل الذين عاشوا عقودا من الزمن على الإعفاء الضريبي، وسيكون أيضا من السخافة أن نتصور أن مجرد الاستناد إلى مقولة تحصين مستقبل الأجيال القادمة سيكون كافيا لتمرير مشروع إصلاح صندوق التقاعد الذي سيتضمن بالضرورة بعض الخيارات الصعبة المكلفة، وسيكون من السذاجة أن نتصور أن صندوق إصلاح المقاصة سيستقبل بالورود من الذين تعودوا على الاستفادة من الامتيازات التي كانت في الأصل موجهة للفقراء. نهاية الأسبوع الماضي، تم الكشف عن الخطوط العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2014، والتي ركزت على تسريع وتيرة الإصلاحات الكبرى المهيكلة، وتحفيز النمو ودعم الاستثمار والمقاولة وتطوير آليات التشغيل، وتدعيم آليات التماسك الاجتماعي، وضمان استقرار الموجودات الخارجية والتحكم في عجز الميزانية، وهو ما يعني أن للحكومة رؤيتها لتنزيل الإصلاح وأنها جادة في هذا الموضوع بدليل تحديدها لزمنه، لكن المشكلة، أنه قبل انطلاق الدخول السياسي الجديد، بدأت حرارة الحراك السياسي تشتد، وانطلقت بعض الديناميات السياسية المعارضة تراهن على تحريك شرائح من الشعب وبعض النخب ضد الإصلاحات: تحديدا ضد اعتماد نظام المقايسة الجزئي هذا مع أنه تضمن الإجراءات المصاحبة، وضد مشروع إصلاح منظومة العدالة، إذ عبرت جمعية المحامين عن رفضها لهذا المشروع. الخلاصة، أن هذا الموضوع هو جزء من إدارة ميزان القوى بين الإرادات التي تسند الإصلاح، وبين الإرادات التي ترى فيه مهددا لمصالحها السابقة، وأن الأمر لا يتعلق بنقص في الشجاعة والجرأة، ولا في والمزاج المتردد، وإنما يتعلق بالدرجة الأولى بالذكاء السياسي الذي يجعل الإصلاح ممكنا دون أن يخلخل التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. المطلوب اليوم من الحكومة، على قاعدة هذا الاستنتاج، أن تقدم، بالإضافة إلى الاجتهاد التدبيري في بلورة هذه الإصلاحات، وبالإضافة إلى الإصرار على أن يتم الإصلاح في زمنه، الاجتهاد السياسي في حسن تنزيله، وتحصين معادلة الإصلاح في ظل الاستقرار، وإعادة صياغة العلاقة مع المكونات السياسية الأخرى بالنحو الذي يتم فيه التخفيف من السجال السياسي والتركيز على التقدم في الإصلاحات.