يسود اليوم خطاب سياسي مرتبك ومتناقض بخصوص المشروع الذي تعتزم الحكومة إطلاقه لإصلاح صندوق المقاصة، فمن جهة، يتكثف داخل هذا الخطاب النقد المؤطر بخلفية التخوف من المس بالقدرة الشرائية للمواطنين من جراء توقع ارتفاع الأسعار لحظة رفع الدعم عن المواد الأساسية، وفي الجهة المقابلة، يتم التخوف أيضا من أن يصبح إصلاح صندوق المقاصة ورقة انتخابية بيد الحكومة أو بيد أحزاب بعينها داخل الحكومة بما يتيحه هذا المشروع الإصلاحي من تقديم مساعدات مباشرة لشرائح واسعة من المواطنين. بل إن الارتباك في الخطاب يصل إلى مستوى أعلى من سابقه، وذلك حين تذهب بعض المكونات السياسية حد تعبئة الشارع السياسي بمضمون هذا الإصلاح وأثره البالغ على القدرة الشرائية للمواطنين، هذا في الوقت الذي تنتقد فيه الحكومة لعدم إشراكها في معرفة تفاصيل الأرضية الأولية التي أعدتها الحكومة في هذا السياق. هذا الاضطراب والتناقض والارتباك في الخطاب، يعكس حالة قلق سياسي لدى نخب المعارضة السياسية في البلاد، بعضه مشروع، والبعض الآخر، إنما يحركه الهاجس الانتخابي في التعاطي مع هذا الملف. والواقع، أنه لحد الساعة، لم ترتكب الحكومة في تدبيرها لهذا الملف ما يوجب هذا التشكك المبالغ فيه، فالمشروع الأولي، قبل أن ينضج داخل أروقة الوزارات المعنية، تم التمهيد له بيوم دراسي حاول أن يستعرض التجارب العالمية بهذا الخصوص، وينظر إمكانية الاستفادة منها في بلورة مشروع مغربي يناسب المعادلة الاجتماعية للمغاربة، ثم تحول إلى رئاسة الحكومة، وبدأ أولى خطوات المشاورة داخل الأغلبية الحكومة، ولا شك أن مساره سيكتمل بالانفتاح على بقية الطيف السياسي وإشراك المعارضة للتوصل إلى بلورة مشروع إصلاحي يحظى بقدر عال من التوافق داخل مختلف مكونات الطيف السياسي المغربي. المهم اليوم، أن هناك ثلاثة عناصر قوة يمكن أن يتم الاعتماد عليها لبلورة مشروع إصلاحي بهذه السمة، الأول، وهو أن هناك اتفاقا في التشخيص من كون صندوق المقاصة يلتهم ميزانية ضخمة للدولة، وأن الضعفاء الذين أحدث هذا الصندوق من أجلهم لا يستفيدون إلا بنسبة 47 في المائة، فيما يستفيد الأغنياء الذين لا يشكلون قلة قليلة في المجتمع من 53 في المائة منه، والثاني، أن الدعم ينبغي أن يتوجه إلى من يستحقه، والثالث، أنه ينبغي مراعاة القدرة الشرائية للطبقة الوسطى حتى لا تدفع هذه الفئة ثمن وكلفة هذا الإصلاح. وما عدا هذه النقط، فالتفاصيل مفتوحة للحوار، بما في ذلك معايير الاستهداف، والفئات التي ستستفيد، ومعايير تحديد الطبقة الوسطى، وكيفية حماية قدرتها الشرائية، ومنهجية تنزيل الإصلاح، وهل سيرفع الدعم بشكل نهائي أم تدريجي، وبأية مواد سيتم البدء، وغيرها من التفاصيل التي يمكن أن يثمر الحوار الواسع بشأنها أفكارا تحظى بقبول نخبة واسعة من الطيف السياسي. يبقى الهاجس الانتخابي، والذي يتطلب بالفعل جوابا مطمئنا. فمع قواعد اللعبة الديمقراطية المصممة بالطريقة التي تجعل أي إصلاح تقدم عليه الحكومة محكوما بمنطق الربح والخسارة الانتخابية، وبالشكل الذي يجعل المعارضة السياسية تقتنص أي فرصة للانقضاض على الحكومة عندما تقدم على إجراءات إصلاحية لا شعبية. مع ذلك، ولأن اللحظة لحظة تأسيسية، فإن هناك حاجة حقيقية لطمأنة الفرقاء السياسيين، بأن عائدات هذا الإصلاح لن يستأثر بها حزب أو تحالف حكومي لنفسه، وإنما سيكون الكاسب في المبتدأ والمنتهى هو الدولة والمجتمع معا. ولأجل ذلك، فإن هناك مهمتين مطروحتين على كل من الحكومة والمعارضة السياسية على السواء، فأما الحكومة، فمدعوة إلى فتح نقاش مستفيض حول هذا المشروع، وإشراك مختلف الطيف السياسي في إنضاجه وضمان شروط نجاح تنزيله، فيما يتطلب الأمر من المعارضة السياسية، أن تنتج خطابا وممارسة سياسية منجسمة، و ألا تجيز لنفسها ما تحرمه على الحكومة، لأن اللعب على الحبلين، حبل المطالبة من جهة بالإشراك، ومن جهة ثانية حبل الاستثمار الانتخابي للملف، يوقعها في أزمة أخلاقية، تحتاج إلى أن تتنزه عن الوقوع فيها. بكلمة، المطلوب اليوم، أن يتم الارتفاع إلى مستوى اللحظة التأسيسية، بما تعنيه من الترفع عن الاعتبارات الانتخابية، ووضع الإصلاحات الهيكلية الكبرى على السكة الصحيحة، وإسنادها سياسيا، والمساهمة في إشاعة خطاب سياسي متوازن من جهة الحكومة والمعارضة على السواء، عنوانه الشراكة في الإصلاحات، والمساهمة الجماعية في إنضاج شروط نجاح تنزيلها.