يوما إثر آخر, يسفر الانقلاب العسكري في مصر عن وجهه البشع، إذ يكشف عن دولة أمنية بالغة الشراسة, أين منها دولة حسني مبارك، بل أين منها دولة عبد الناصر نفسه؟! والمصيبة أن ذلك يحدث (كما لم يحدث من قبل) وسط تهليل قطاع عريض من الفنانين والمثقفين، وحتى السياسيين الذين أخرجوا أسوأ ما في داخلهم خلال الأسابيع الأخيرة، كما لو أنهم طوفان من الحقد شرع في الهدير ولا يوقفه شيء. صحيح أن قمع الإخوان أيام عبد الناصر قد تم وسط أجواء من الشيطنة والتطبيل من قبل قطاع عريض من الناس، لكن المستوى الحالي من التطبيل ليس مسبوقا على الإطلاق، ربما لأن المرحلة تبدو مختلفة من حيث استخدام وسائل الإعلام بشكل كبير وفاعل. عبدالناصر لم يغلق المساجد مثلا، بينما يحدث أن يغلق حوالي 5500 مسجد أمام الناس في صلاة الجمعة لعدم توفر خطباء وفق المقاس الذي تريده سلطة الانقلاب, ولا تسأل عن الاعتقال بتهم جنائية لسياسيين، فضلا عن اعتقال النساء. سيرد الانقلابيون وأبواقهم بالحديث عن خريطة الطريق التي ستعيد ثورة يناير إلى مسارها، بينما يتابع الجميع كيف ستشطب الإشارة إلى تلك الثورة من ديباجة الدستور المعدل، لكأنها رجس يُراد التبرؤ منه. والحال أن قصة خريطة الطريق هذه تبدو بلا قيمة أبدا، فتونس في ظل بن علي كانت ترزح تحت حكم فردي دكتاتوري فاسد، لكنها كانت تتمتع بانتخابات على كل المستويات، وفيها من الناحية النظرية جميع مفردات الحالة الديمقراطية، من دون أن تمت إلى الديمقراطية بأدنى صلة، وهو ما ينطبق على حكم الجزائر الحالي, وحكم مبارك, وعلي عبدالله صالح. لن يكون من الصعب على الانقلابيين في ظل دستور يُصاغ بعناية، وفي ظل قوانين وإجراءات أمنية وسياسية معينة أن يقيموا ديمقراطية لا تمت إلى الديمقراطية بصلة إلا في الشكل الخارجي، ومن يتجرأ على الانتقاد فسيكون برسم الشيطنة، وما قصة البرادعي الذي كان جزءا من الانقلاب عنا ببعيد. كثيرة هي المعالم التي تؤكد طبيعة ما يُبنى ممثلا في دولة أمنية ليس فيها من الحريات والتعددية سوى الرائحة، بينما يسيطر العسكر والأمن على كل شيء فيها، بالتعاون مع رجال الأعمال الفاسدين، ومن ورائهم بعض النخب السياسية التي باعت ضميرها للشيطان، وسيطر الحقد عليها حتى أعمى أبصارها وطبع بالسواد قلوبها. ما ينبغي أن يقال ابتداء هو أن ما يجري يبدو طبيعيا، بصرف النظر عن لون الانقلابيين، فعندما يعمل أي نظام على تغييب أكبر قوة سياسية في البلاد (حازت هنا في مصر ثقة ما يقرب من نصف المجتمع في انتخابات شهد العالم بنزاهتها)، فلا يمكن أن يتم ذلك إلا بوضع المجتمع برمته أسير القمع والترهيب. في مصر يريد الانقلابيون تغييب أكبر قوة سياسية في البلاد ممثلة في جماعة الإخوان، ولن يتم ذلك دون استهداف المجتمع برمته، ومن ورائه حركة التدين التي يرونها مصدر مدد للجماعة، ولا بد لذلك من تغييبها حتى يستقر الوضع للانقلاب ودولته الأمنية. تبدو مسألة الدستور هي الأكثر وضوحا على هذا الصعيد، إذ لن يُكتفى بمنع ما يسمى الأحزاب الدينية التي ستكون تهمة تلصق بكل الإسلاميين، بل سيتم العدوان على هوية المجتمع. وحين يحشر حضور الإسلاميين في لجنة تعديل الدستور بشخصين من أصل خمسين؛ أحدهما حاز الثقة لأنه كان من الإخوان وانقلب عليهم، وإلى جانبهما أربعة من الأزهر "مفصلون" على مقاس السلطة، حين يحدث ذلك، فلك أن تتوقع طبيعة الدستور الذي يُراد إقراره، مع دستور سويسرياً لن يغير الكثير، لأن الدولة الأمنية لا تعترف أصلا بالدساتير، بل تهيمن على المجتمع بسطوة القوة والقمع. آلاف المعتقلين إلى الآن (زادوا عن 10 آلاف)، وقبلهم آلاف الشهداء والجرحي سقطوا في رحلة تثبيت الانقلاب، فيما تستمر ملاحقة كل الأطر الاجتماعية والمواقع العمومية، بما فيها الجامعات التي منح أمنها في سابقة فريدة حق الضبطية القضائية. وحين يتبجح وزير داخلية بعلاقته مع زعيم عصابة بلطجة، بحيث يرسل له رسائل من سجنه، فهذا يدل على المستوى الذي بلغه القوم، وحين يضيف إلى ذلك استعادة ضباط أمن الدولة المتقاعدين، والذين ولغوا في دماء المصريين خلال عقود من القمع، فضلا عن استقطاب من ذهبوا منهم إلى الدول العربية كي يبيعوا خبراتهم، حين يحدث ذلك، فلك أن تتخيل طبيعة الدولة التي يجري بناؤها الآن. أما الإعلام فهو القصة الكبرى في دولة الأمن والعسكر، إذ عثر هؤلاء على إعلام رديء يُمول من جيوب الفاسدين من رجال الأعمال، وهو يعمل ليل نهار في خدمة الدولة الأمنية ويبرر كل جرائمها دون أن يرفَّ له جفن. أما الأسوأ من ذلك كله، فيتمثل في القضاء الذي رضي بأن يكون خادما أيضا للدولة الأمنية, يلفق التهم ويمرر المحاكمات بحسب المطلوب، بل أسوأ أحيانا. هذه هي مصر ثورة 30 يونيو، مصر الانقلاب، مصر التابعة لأنظمة تكره الثورات وسيرة الديمقراطية من أصلها. هذه مصر السيسي الذي بدأ رحلة التأليه على يد أبواقه، وبالطبع لكي يكون الرئيس الجديد المتوج. هذا ما يريده الانقلابيون، لكن ما يريده الشعب شيء آخر. وهو شعب ذاق طعم الحرية وسيبقى يناضل حتى استعادتها من جديد، في رحلة لا يُستبعد أن تطول، لكن نتيجتها هي الانتصار بإذن الله.