هناك ملاحظة جديرة بالاعتبار عن مزاج النخب السياسية في دول الربيع العربي حول الديمقراطية، فقد برز توجه أصبح يطرح الديمقراطية التوافقية أو التشاركية كبديل عن الديمقراطية الانتخابية، وبدأ يترسخ بشكل متدرج تقليد التلويح بالشارع والحشود أو ب"الشرعية الشعبية" ل"التصحيح" أو "الإنقاذ" أو "التمرد" وما يقابلها من الدفاع عن الشرعية الدستورية والإرادة الشعبية، وغيرها من المفردات السياسية التي أخذت تتعمم وتحتل القاموس السياسي. أين المشكلة إذن؟ هل تكمن في الطبيعة الانتقالية التي تمر بها هذه البلدان والتي لم تنضج فيها الشروط بعد لتكون الديمقراطية الانتخابية محددا أساسيا لصناعة الخريطة السياسية وترتيب العلاقة بين النخب؟ أم أن الأمر يرجع إلى النخب السياسية نفسها التي لم تعش الثورة الديمقراطية الداخلية التي تؤهلها لمواجهة تحدي المساهمة في تحقيق النقلة الديمقراطية في العالم العربي؟ أم أن الأمر يتعلق بمخاض تشكل نموذج ديمقراطي عربي مختلف، وأن ما يظهر هو مجرد مضاعفات ما قبل الولادة؟ مهما يكن التشخيص والتحليل، فإن تقييم حالات الانتقال الديمقراطي في مجموع دول الربيع العربي، تؤشر على وجود أزمة علاقات بين النخب، وأن الأمر لا يتلخص فقط في تصارع إرادات الإصلاح والإرادات التي تعاكسها، ولا في حرب الوجود بين نخب الموجة الديمقراطية ونخب "الفلول" أو النخب المستفيدة من الوضع السابق، وإنما هناك، إلى جانب ذلك، أزمة ثقة عميقة بين النخب السياسية ولدتها الحاجة إلى ملأ فراغ السلطة أو على الأقل الحاجة إلى ملأ مواقع فيها، وأن ما نراه من اتهامات متبادلة بين النخب، ومن تخوين وتخوين مضاد، مرجعه بالأساس أزمة الثقة هذه التي تم تعميقها بشكل كبير من طرف الإرادات التي تعاكس الإصلاح. ضمن هذا السياق بالذات، يمكن أن نفهم الدعوات المراجعة لمفهوم الديمقراطية وإحلال التوافق والشراكة محل العملية الانتخابية، بل حتى الدعوات التي صارت تبرر تأجيل الديمقراطية حتى يتم هزم "خصومها" المزعومين، كما هو الطرح الذي انتهى إليه تقييم بعض النخب السياسية في الوطن العربي ومنها للأسف نخب داخل المغرب، وضمن هذا السياق نفسه، يمكن أن نفهم حالة الاضطراب التي تلبستها عند قراءتها الأوضاع في مصر وانزياحها عن المواقع الديمقراطية في التوصيف والتحليل. في المغرب، الحالة مختلفة، لكنها ليست بعيدة عن استقبال آثار هذه الأجواء، فحركة "تمرد" ومقابلتها "صامدون" على الأقل في العالم الافتراضي تكشف وجود قابلية لخلق التقاطب المجتمعي وإحداث شرخ داخل المجتمع، ونزوع بعض القوى السياسية إلى التشبيه وإلحاق الحالة المغربية بما يقع في مصر ومحاولة تصوير لحظة التعديل الحكومي كلحظة انهيار للمسار بأكمله الذي انطلق مع دستور فاتح يوليوز، ومواكبة بعض النخب السياسية والإعلامية بنقد عدمي لمسار تنزيل الدستور، كل ذلك يكشف بشكل أو بآخر بأن المغرب، مع كل الفرادة التي تتميز به تجربته، ومع كل العناصر التي تجعله على مسافة بعيدة من التجارب الأخرى، يبقى في حاجة إلى تحصين نموذجه بإنتاج مفاهيم سياسية جديدة تجسد تميزه واختلافه. والتقدير أن أولوية الأولويات في هذه اللحظة، أن تجتهد جميع النخب السياسية والثقافية والإعلامية والدعوية أيضا في توسيع دائرة المشترك وبناء ثقافة التعايش المجتمعي والسياسي وتجسير العلاقة بين مختلف النخب، وخلق تقاليد في الحوار المجتمعي في كل القضايا الخلافية، حتى تستأنس جميع النخب بالبيئة السياسية وتحترم قواعدها، وحتى تترسخ الديمقراطية ويصير القبول بنتائجها جزءا لا يتجزأ من الممارسة السياسية. بكلمة، إن النخب اليوم، بجميع مستوياتها وأطيافها، مدعوة إلى لحظة تأمل عميقة فيما يجري هنا وهناك، تنطلق فيها من الإقرار بضرورة التعاطي مع الواقع كما هو، بما يعنيه ذلك التعايش مع النخب الموجودة مهما اختلف تقييمنا لها، وصناعة المستقبل السياسي للمغرب معها وإلى جانبها، والتفكير في توسيع قاعدة المشاركة السياسية بضم كل النخب التي توجد اليوم على هامش العملية السياسية، وتحريك فعالية الحوار السياسي والمدني والارتفاع به إلى مستوى التقاليد الراسخة التي تعمل على تقوية التوافق وتنمية القبول بالاختلاف داخل الحقل السياسي والمدني.