رمضان وصل إلى نصفه، النصف الأول مر كالبرق، والنصف الثاني سيتبعه بلا شك، الفرصة مازالت أمام المتهاونين والمقصرين والمفرطين للثواب والعودة إلى الله عز وجل في هذا الشهر الفضيل، والوقت مازال سانحا للذين استغلوا النصف الأول أحسن استغلال لمضاعفة الأجر والثواب، يبقى السؤال إذا حصد المجتهدون الأجر والثواب في نهاية الشهر هل تقبل أعذار المقصرين؟ هل راعت هذه الفريضة أحوال كل المسلمين وأوضاعهم وقدراتهم لنيل الأجر والثواب؟، أم أن فئة يسهل عليها حصد الأجر في حين يصعب عن الأخرى؟ هل الفريضة في الأصل ميسرة أم أنها معسرة؟ أسئلة وغيرها أجاب عنها العلامة محمد عزالدين توفيق في محاضرة بعنوان "واجبات الفرد المسلم الرسالي" نظمتها حركة التوحيد والإصلاح في مقرها المركزي بالرباط السبت المنصرم، في إطار الدروس الرمضانية، و"التجديد" تنقل أهم ما جاء في المحاضرة. موسم محدود قال العلامة محمد عز الدين توفيق لقد ودعنا العشر الأولى من رمضان، ونحن في العشر الثانية، ورمضان كله أيام معدودات، إن شئت أن تعدها بالأيام فهي 29 أو 30 يوما، وإن شئت أن تعدها بالأسابيع فهي أربعة، وإن شئت أن تعدها بالعشريات فهي ثلاث عشريات، ولو شئت أن تعدها بالساعات فهي قليلة أيضا حوالي 720 ساعة، مبرزا أننا في موسم محدود وضيق، يمر بنا بسرعة، مضيفا وها نحن نرى كيف مرت عشرة أيام تتسارع ساعتها، والهمة الآن معقودة بالذي بقي، أما الذي مضى فقد طوي، والعبد عندما يطوي جزءا من عمره فقد أخذ صيغته وتشكل بالطريقة التي اختارها. و أشار توفيق إلى أن كل واحد منا أخذ الآن فكرة عن طريقته في قضاء رمضان، ولاشك أن كل واحد منا قد أخذ فكرة واضحة عن طريقته في إنفاق أيام هذا الشهر ولياليه، فمرور عشرة أيام فرصة ليقوم بمراجعة هذا الأسلوب وهذه الطريقة، ويطرح على نفسه سؤالا وهو هل بالإمكان أن يزيد؟ هل بالإمكان أن يجعل هذه العشر الثانية أفضل أو أحسن؟ أو أن الذي يستطيعه ويقدر عليه لا مطمع في الزيادة عليه، مؤكدا أنه عندما يطرح أحدنا هذا السؤال ويجيب عليه، سيجد بالفعل أن بإمكانه أن يدخل تعديلات وتصحيحات بما يجعل العشر الثانية أفضل، قائلا "ما أظن أحدا يقول أن اجتهاده قد بلغ قمته وذروته بما لا مزيد عليه، ما من أحد منا إلا ويسجل على نفسه أن كثيرا مما ينبغي عمله وإضافته وفعله، لم يفعله في العشر الأولى"، مضيفا هذه فرصته للمرة الثانية ليتدارك، حتى نكون في صعود، فتكون العشر الثانية أفضل من الأولى، وتكون الثالثة أفضل من الثانية، وإذا مر رمضان بهذه الكيفية فهذا هو الوضع الطبيعي. المرتبة الأفضل الناس ثلاث مراتب، المرتبة الأولى يبدأ أفرادها بالحماس، ولا يزال حماس أحدهم يفتر وعمله ينقص، حتى يودع الشهر في أخر درجات الاجتهاد، وهذا شأن كثير من المسلمين، والفئة الثانية يمضي أفرادها الشهر على وتيرة واحدة، أوله كآخره، يثبت أحدهم على مستوى لا يتغير ولا يتبدل حتى يودع الشهر، وهذا أفضل من الأول، والمنتمي للفئة الثالثة هو الذي يترقى ويرتفع فيكون آخر الشهر أفضل من أوله، والإسلام يدعونا للانخراط والانتساب إلى المرتبة الثالثة"، مفسرا أنه لعل هذا بعض الحكمة أن الله تعالى لم يجعل ليلة القدر في أول الشهر، وجعلها في أخره، حتى تكون حسب توفيق تتويجا لهذا الصعود، فيأتي رمضان ويزداد اجتهاد المسلم مقارنة بما كان في شعبان ورجب، وبقية الشهور، وتأتي العشر الثانية فتشهد قدرا من التقدم والتحسن والزيادة، مقارنة بالتي قبلها، تم يبلغ هذا الاجتهاد أعلاه، عندما تأتي العشر الثالثة، يضيف توفيق، قائلا "هذا ما ينبغي أن نتواصى به ونحن في العشر الثانية من هذا الشهر المبارك". وأوضح عزالدين توفيق أن كل يوم من أيام رمضان وحدة زمنية مستقلة، قائلا "فكل يوم هو وحدة زمنية مستقلة عن الذي قبله وعن الذي بعده، ولهذا لا أحد يلزم المسلم أن يجعلها مثل الأخريات"، ويرى المتحدث أن كل ساعة من ساعات رمضان أيضا وحدة زمنية مستقلة، وينبغي حسبه أن تكون لنا طموحات، وأن يكون طموحنا هو أن نكون من السابقين المقربين، وأن نكون من المحسنين، إذا نزلنا إلى ساحة السباق والمنافسة يقول توفيق ، يجب أن نحرص على المراتب المتقدمة، فعندما ثبت هلال شهر رمضان فهو أشبه بالصفارة التي يعلن بها المكلف بانطلاق السباق، مفسرا هناك شخص يكلف بإعلان انطلاق سباق معين وترى عيون المتسابقين موجهة إليه، ينتظرون متى يعلن إشارة بدء السباق، فأول ما يشير لهم ينطلقون، فعندما ينطلقون يتفاوتون، فهناك من ينقطع ويتوقف، وهناك من يواصل، وهناك من يحرص ليس فقط أن يستمر ولكن أن يكون ضمن الأولين، فثبوت هلال شهر رمضان هو إعلان انطلاق هذه المسابقة وهذه المنافسة، فإذن السباق قائم ولم ننتهي منه بعد، وسوف يتم الإعلان عن انتهائه بثبوت هلال شوال، إذن نحن الآن فئة السباق وفي وسطه، بل ربما ما بقي من الشهر أكثر مما مضى منه، وهذا جيد بالنسبة للحظة التي نحن فيها، لأننا نتكلم عن شهر لا زال معظمه أمامنا. مطالبنا كثيرة ولفت الداعية الانتباه إلى أننا نريد من هذا الصيام أمورا عظيمة وكبيرة، ومقاصدنا وأهدافنا التي ننشدها والتي نريد تحقيقها من هذا الصيام كبيرة، "ويكفي أن نقول أننا نريد هذا الصوم للماضي وللمستقبل، نصوم شهرا نريد به محو ذنوبنا الماضية فيمحوها ويزيلها حتى نتخفف منها، ونريده للسنة القادمة شحنة من الخشية والإنابة والتقوى، ننفق منها حتى يدركنا رمضان جديد، هذه طموحاتنا وهذا الذي من أجله نصوم، نريد من هذا الصوم أن يحل مشكلة الماضي، ولهذا نريده سببا لمغفرة ما تقدم من ذنوبنا، وفي الحديث من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي الحديث الأخر الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما إن اجتنبت الكبائر، ونريده لسنة قادمة، نجمع فيه ماستطعنا من التقوى"، مستدلا بقوله تعالى "يأيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون" مضيفا فهذه التقوى للمستقبل أي أن الإنسان خلال السنة يتراخى ويتساهل وأحيانا يتراجع، فيأتي رمضان فيدرب الإرادة من جديد، ويعيد الثقة للمسلم، حتى يكون بإمكانه أن يمر بالشهوات، وبالمحرمات ولا يمسها ولا يقربها ولا يصل إليها، "أصبحت إرادته أقوى من هواه، وأصبحت عزيمته أقوى من شهواته، وهذا ليس أمرا هينا، ولهذا إذا صام المسلم صياما صحيحا، اجتمع فيه الصوم الحسي والمعنوي، لأنه يلحظ أن إرادته تتقوى مرة أخرى". فريضة ميسرة ما معنى ميسرة؟ يتساءل توفيق، قائلا "معنى ميسرة أنها لم تأت بتكليف ما لا يطاق وما لا يحتمل"، وذكر المتحدث بعض الأمثلة التي تعتبر علامات ودلائل أن هذه الفريضة حفت بالتيسير، أولها أن الله تبارك وتعالى جعله شهرا، وليس السنة كلها، كان يمكن أن تكون هذه الفريضة كالصلوات، كما نصلي كل يوم، نصوم كل يوم، كان يمكن أن تكون هذه الفريضة طيلة السنة، لكن الله سبحانه وتعالى لم يجعلها طيلة السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة، "وإنما هي شهر تأتي بعد إحدى عشر شهرا"، والعلامة الثانية حسب توفيق أن هذا الشهر نفسه الذي أمرنا الله تعالى بصيامه، نصوم النهار فقط ونفطر الليل، مشيرا إلى أننا في الحقيقة نصوم 15 يوما، مفسرا لأننا نصوم النهار ونفطر الليل، وكان يمكن أن نكلف بصيام ثلاثة أيام بثلاثة أيام، أو أربعة أيام بأربعة أيام أو يومين بيومين، أو تكون الفترة التي يؤذن فيها للناس بالفطر خمس دقائق أو عشر دقائق أو نصف ساعة، ولكن من الفجر إلى الغروب صيام ومن الغروب إلى الفجر إفطار، حتى أنك ترى الناس ينقلون وجباتهم في رمضان إلى الليل، وتلك الوجبات الثلاثة في النهار تتحول إلى الليل، ويجد المسلمون ساعة في أمرهم، يأكلون على مدى ساعات من الطعام والشراب، لأنهم يؤذن لهم على مدى ساعات أن يأخذوا حاجتهم من الطعام والشراب، ويحق للأزواج الرفث إلى نسائهم هذا تيسير عظيم، والإسلام نهى عن الوصال ، بل زاد الإسلام فأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور وذلك حتى تكون مدة الصوم أقصر مدة ممكنة، لا تزيد عن الذي أمرت في الإمساك فيه. الشعور بالاطمئنان والتيسير الثالث يقول عز الدين توفيق، هو أن هذه الفريضة عزيمة، ولكنها أتبعت بمجموعة من الرخص لأصحاب الأعذار، مفيدا أن أصحاب الأعذار هم المريض، المسافر، الشيخ الكبير، المرأة العجوز والذي يعمل العمل الشاق يعجز معه عن الصوم، إما أحيانا وإما طول الشهر ويلحق بهؤلاء الحامل والمرضع وغيرهم ممن ذكره الفقهاء ممن يجوز لهم الفطر ويجب عليهم القضاء أو تجب عليهم الفدية، مؤكدا أن لا حد لأهمية هذا التيسير، مبرزا أن كثيرا من المسلمين ليسوا من أصحاب الأعذار وبالتالي لا يقدرون هذا الترخيص قدره، "ولكن ولو لم تكن من أصحب الأعذار الذين يدركون حقيقة قيمة هذا الترخيص،فإن أهمية رخصة الفطر عند الحاجة هو الشعور بالاطمئنان "، مضيفا لو كان الصوم عزيمة بدون رخصة، سيصوم الناس وهم خائفون، كل واحد سيقول ربما سيعرض لي سبب لا أقدر معه على الصوم ومع ذلك لا رخصة. حصر المفطرات أما التيسير الرابع هو حصر المفطرات، وأوضح توفيق أن الإسلام حصر المفطرات في ثلاثة أشياء فقط وهي الأكل والشرب والجماع، قائلا "كان يمكن أن تكون عندنا قائمة من 20 مسألة أو 30 مسألة كلها تمنع على المسلم طيلة الصوم"، موضحا مثلا أن يقترن الصوم بالمكث في البيت، أو بالعكوف في المسجد، وأن يقترن الصوم بترك العمل والشغل..."، مضيفا "تأمل كيف أن المسلم يصوم ويمارس حياة عادية، يخرج إلى الأسواق، ويذهب لزيارة من يشاء، ويلتحق بالعمل، ويقص الشعر، ويقلم الأظفار، وعنده رخصة أن ينام بجانب زوجته، وعنده الحق أن يغتسل، وعنده رخصة أن يستعمل الدواء في العين والأنف والأذن، إلى أخره. ودعا توفيق المسلم إلى مقارنة هذا الترخيص وهذا التيسير بما لو كانت قائمة الممنوعات أوسع من هذه المفطرات الثلاث، قائلا "لهذا عدد من العلماء اليوم من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي وغيره، يقولون يجب أن نجدد فقه الصيام، ونحرره من التشديدات التي أثقلته في فقه المتأخرين وهذا صحيح، لأن الله تعالى يقول في ثنايا أية الصيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينة من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون". ثمرة التيسير وأفاد توفيق أن ثمرة هذا التيسير هي إكمال العدة، لقول الله عز وجل الله "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة"، أي أن يمر الشهر في ظروف مريحة، وفي ظروف حسنة، قائلا "إن حرفكم مختلفة وأعمالكم متنوعة، وان ظروف حياتكم غير متشابهة، ولكنكم تشتركون في إقامة هذه الفريضة، وتجتمعون على أداء هذا الركن، ويجد كل واحد منكم أن الظروف التي يؤدي فيها هذه الفريضة ظروف مساعدة وميسرة"، مبرزا أنه لو كانت هذه الفريضة مثقلة بالتشديدات، سيخرج الواحد من الشهر بنصفه قضاء أو بعشرة أيام قضاء. الاعتذار ممنوع وختم توفيق كلامه، بقوله "لا أحد يمكنه أن يعتذر في الشكل الذي جاءت عليه فريضة الصيام، للتهاون في واجباته في رمضان، وحتى لا يأتي بحجة عن تهاونه في وجباته لأنها حطت بهذا القدر من التيسير، مبرزا أن رفع الحرج هو من أجل أن ينصرف المسلم أثناء أداء هذه الفريضة بوجباته التي تليق بالشهر العظيم، ولا يمكنه أن يعتذر عن تهاونه، مضيفا تماما مثل الإنسان الذي لا يمكن أن يعتذر عن القيام بمهمة بعوامل لا دخل لها في تهاونه، نحن في شهر كريم فيه تحفيز عظيم، الحسنة بعشر أمثالها في غيره ويؤدي فريضة محفوفة بكثير من التيسيرات.