الإنسان حينما يولد يولد حرا مزودا بفطرة محررة. وحتى نحرس هذه الواحة الحرة ارتضى الله لنا دين الإسلام لو تبعه الإنسان واستجاب لتعاليمه وتشريعه لعاش حياته حر القلب وحر العقل، حر الفعل، وفي تحرر هذا المخلوق نفع لذاته ومجتمعه وأمته. والأحرار من أمتنا هم صانعو الحياة والمقاومة لذلك كان الدعاء الخالد لأم مريم (إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم). محررا من كل سلطان، سلطان الهوى، سلطان النفس سلطان العادات والتقاليد، سلطان الطواغيت... ولو نظرنا بعين البصيرة لوجدنا أركان هذا الدين العظيم جاءت للإنسان بما يستكمل تحرره وانعتاقه حتى يكون عبدا لله وحده وحتى يكون شعاره شعار أبينا إبراهيم عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين<. فالشهادة التي ينطق بها المسلم فيدخل إلى ساحة إسلامه واستسلامه لله، هي إعلان لتحرره مما سوى الله وهي شعار وتوحيده لحاله، وشعار اتباعه لنبي موحد، أمر له أن يطاع وأمر له أن يتبع: "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا". والصلاة ذاك الركن العظيم، نلتقي بها مع قبلة وحدتنا وتحررنا خمس مرات في اليوم، مجددين العهد على التزام خط الوحدانية وخط التحرر مما سوى الله، وغاسلين بهذه الصلوات ما ران على توحيدنا لله من شبهات وشركيات. والزكاة تحرير لاقتصادنا، تحرير مالنا، تحرير استطاعتنا من سلطان الشح والبخل ومن سلطان كل ما يجعلنا نستعمل ما استخلفنا الله لغير ما يريد الله. ورمضان تحرير ذواتنا من سلطان بطوننا وفروجنا وسلطان عاداتنا وتقاليدنا حتى تتم للوحدانية القيادة، قيادة ذات المؤمن ونفسه اتجاه الرضا والطاعة والنفع والخير... والحج تلك الفريضة الغالية التي لازالت معانيها غائبة غير حاضرة ولازال هذا الركن العظيم وهذا الموسم الرباني الفريد لم يجد طريقه إلى حياتنا ليوجهها ولا إلى تربيتنا ليقومها ولا إلى هزيمتنا ليشخصها ولا إلى مناهجنا ليصححها. هذه الفريضة العجيبة غابت معانيها في الصف الإسلامي الذي انتدب نفسه لإحياء معاني الدين في النفوس. أيام الحج بأجوائها بمناسكها بآيات النفع فيها، كل محطة من محطاتها تقابل محطة من محطة عمرنا الراحل. حتى أن من يتدبر آيات الحج ومحطاته يدرك بعض الحكمة من كون الحج تكفي فيه المرة الواحدة لأداء الفريضة وإسقاط التكليف. لأن من عاش معانيه وأدرك مقاصده وأبعاده وحج حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال له الولادة الجديدة، وثم له تحرير ذاته وقيادة نفسه ومنهجة حياته وإدارة عمره إلى حيث يرقى وإلى حيث يحيى وإلى حيث يضحي ويعطي. فهل يطوف هذا المخلوق حول مراد ربه، حول أنوار هداية مولاه، حول خلاصه وخلاص غيره؟ أم يطوف هذا المخلوق حول شهواته وحاجيته، حول بضاعته، فيرحل عن الأرض وليس له من الدين إلا اسمه ورسمه، أما القلب والجوهر فما كان فيهما لله من خضوع وخشوع ودوران مع مراده سبحانه. إن الدوران مع مراد الدين حيث دار، ثبات واستقرار وعبادة إخلاص وخلاص، أما الدوران مع المصالح والأهواء فهي عبارة الخسارة والإحباط. (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين). فاطمة النجار