تهدف هذه السلسلة إلى تيسير فهم فقه المعاملات المالية وتطبيقاته المعاصرة التي تجريها المؤسسات المالية سواء كانت بنوكا أو أسواقا مالية أو مؤسسات التأمين التعاوني، والتي تعتبر الأرضية الاجتهادية للفقه المالي الإسلامي ومجال تطبيق مختلف منتجات الهندسة المالية الإسلامية. وسنخصص المحور الأول لصيغ التمويل والاستثمار البنكية ، والمحور الثاني للأدوات المالية في الأسواق المالية ثم المحور الثالث لمؤسسات التأمين التعاوني. المحور الأول: صيغ التمويل و الاستثمار البنكية بعدما تقدم الحديث عن « المشاركة» و « المضاربة» كصيغ للتمويل والاستثمار ودورهما في دعم فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية،نتوقف في هذا المقال عند عقد الإجارة وتطبيقاته المعاصرة والمتمثلة أساسا في الإيجار التمويلي و»صكوك الإيجار» وعن دورهما في تمويل التنمية. * الصيغة الثالثة: الإجارة أولا:تعريف الإجارة. الإجارة في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير، أما في الاصطلاح الفقهي فهي تمليك المنافع بعوض، سواء أكان ذلك العوض عينا أو دينا أو منفعة 1. وتنقسم الإجارة عند الفقهاء باعتبار نوع المنفعة المعقود عليها إلى قسمين:إجارة أعيان كاستئجار الدور والحوانيت والأراضي والسيارات والثياب ونحوها، وإجارة أعمال كاستئجار أرباب الحرف والصنائع والعمال والخدم 2. ثانيا: دليل مشروع الإجارة الإجارة مشروعة في القرآن والسنة والإجماع. فقد ورد في القرآن على لسان إحدى ابنتي النبي شعيب قوله تعالى: ? قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ?3. وأما في السنة، فالأحاديث كثيرة ، ومنها ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي في ما يرويه عن ربه:» ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره « 4 ثالثا: صيغ و شروط تطبيق عقد الإجارة . أما عن كيفية تطبيق صيغة الإيجار، فيجب التمييز بين عدة أنواع منها :الإيجار التشغيلي5 و الإيجار بصيغة البيع (الإجارة المنتهية بالتمليك)6 و الإيجار التمويلي و صكوك الإيجار. و نظرا لأهمية النوعين الأخيرين في تمويل الاستثمارات، فسنتوقف عند تفاصيل إجرائها في البنوك و الأسواق المالية الإسلامية. 1 - «الإيجار التمويلي» كما تجريها البنوك الإسلامية. يعتبر الإيجار التمويلي الأكثر تطبيقا من طرف البنوك الإسلامية لما يوفره من سيولة مستمرة من خلال تسديد أقساط الإيجار، ويزيد من قدرة تسييل الأصول الثابتة مما يساعد على حل مشكلة امتصاص المدخرات والودائع في هذه البنوك، وهو ما يعطي دفعة قوية بالنسبة للاستثمار. ويعتبر التأجير التمويلي أحد أنواع أعمال الوساطة المالية، وفيه لا يكون المؤجر منتجاً للأصل وإنما تتمثل وظيفته في تقديم التمويل لشراء الأصل من المنتج لحسابه وباسمه ثم يؤجره إلى المستأجر7، بالتالي فهو يناسب المؤسسات المالية المختلفة كإحدى صيغ الاستثمار الإسلامي، لكن تطبيق هذه الصيغة التمويلية في البنوك الإسلامية يخضع لمجموعة من الضوابط والمبادئ لكي تتفق مع قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، وهي كما يلي8: 1 - عدم قابلية عقد الإيجار للإلغاء خلال فترة أجله ، حيث أن العقد شريعة المتعاقدين، وأن الإخلال بذلك يؤدى إلى خسائر للمستأجر تتمثل في توقف نشاطه وللمؤجر في حالة ما إذا كانت الأصول مصنعة بما يتناسب مع الظروف الخاصة للمستأجر ويصعب تسويقها أو تأجيرها للغير. وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ?9 ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار» 10. 2 - التزام المستأجر بالقيام بأعمال الصيانة التشغيلية للأصل أو عند ظهور مشكلات ناتجة عن سوء الاستخدام، وعليه أن يقدم للمؤجر الضمانات اللازمة لتحقيق ذلك، حتى يستشعر بأنه إذا أهمل أو قصر فتكون التبعة عليه، كما يجنب ذلك أي خلاف ينشأ بينهما. 3 - يحتفظ المؤجر بكافة حقوق استهلاك الأصل، ومن حقه الإشراف الدوري على الأصل للتأكد من حسن استخدامه حسب الشروط الفنية المرفقة بالعقد، وذلك لتجنب المشكلات التي قد تنجم بسبب تقصير أو إهمال أو تعدي المستأجر . 4 - تجنب الفوائد الربوية ( الفائدة على المال المستثمر في الأصل المؤجر ) عند حساب تكلفة أو عند حساب الإيجار أو حسب قسط الإهلاك، لأن ذلك سوف يقود إلى سلسلة المضاعفات المختلفة التي تؤثر على التكاليف والأسعار. 5 - يجب أن يؤخذ في الحسبان عند اتخاذ القرار بالتأجير من قبل المستأجر تقويم المنافع التي تعود عليه من قبل الاستخدام، كما يجب أن يقارن ذلك بالبدائل المختلفة، حتى لا يترتب على ارتفاع تكلفة الإيجار على المنفعة مشكلات بينه وبين المؤجر قد تقود إلى فسخ العقد. 6 - يجب أن يكون تقويم الأصل المستأجَر في نهاية مدة عقد الإيجار ليس على أساس القيمة الدفترية، ولكن على أساس القيمة الاستبدالية الجارية وفقاً لقواعد التقويم في الفكر الإسلامي، وذلك في حالة رغبة المستأجر في شراء الأصل. غير أن هذه عقد الإيجار في إطار صيغة «الإيجار التمويلي»يبقى محدود الفاعلية لارتباطه أساسا بتمويل المشاريع الصغرى والفردية11، وهذا ما فتح المجال في إطار مبدأ التصكيك لابتكار آليات تمويلية تتجه نحو ما افتقدته البنوك الإسلامية من الشراكة الحقيقية بين عوامل الإنتاج في تمويل التنمية بصيغ المضاربة والمشاركة والتحول عن التمويل بالمرابحة. 2 - صكوك الإجارة القابلة للتداول في السوق المالية. تأتي صكوك الإجارة في إطار تطوير الهندسة المالية الإسلامية وابتكار أدوات مالية جديدة بما لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية . و هي صكوك تتعلق بالأعيان والأصول المؤجرة، وتحمل قيما متساوية، ويصدرها مالك العين المؤجرة أو وكيله. ومقصود المعاملة هو بيع العين المؤجرة عن طريق الصكوك ليصبح حاملوها هم ملاك الأصل و كذلك المستفيدون من ريع تأجيره، بقدر أنصبة الصكوك التي يحملها كل واحد في الأصل المؤجر. و على ذلك عُرّفت بأنها « سندات ذات قيمة متساوية، تمثل حصصاً شائعةً في ملكية أعيان أو منافع ذات دخل «12. فعلى سبيل المثال يمكن أن تكون هنالك بناية مؤجرة، ويكون دخلها الشهري أو السنوي هو عائد حملة الصكوك الذين يعتبرون شركاء في ملكية البناية، وبالإضافة إلى عائد الإيجار فإن حامل الصك يمكنه بيعالصك. وفي حالة بيع الصك فإن قيمة الصك تتوقف على عوامل سوقية كثيرة منها قوى العرض والطلب وكفاءة أداء الأصل وعمر الخدمة .. وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي قراره رقم 137 (3/15) بشأن استحداث صكوك الإجارة وفق مجموعة من الضوابط والشروط التي تحكم عقد الإجارة كما يلي13 : 1 - تقوم فكرة صكوك الإجارة على مبدأ التصكيك (أو التسنيد أو التوريق) الذي يقصد به إصدار أوراق مالية قابلة للتداول، مبنية على مشروع استثماري يدرّ دخلاً. والغرض من صكوك الإجارة تحويل الأعيان والمنافع التي يتعلق بها عقد الإجارة إلى أوراق مالية (صكوك) يمكن أن تجري عليها عمليات التبادل في سوق ثانوية. 2 - لا يمثل صك الإجارة مبلغاً محدداً من النقود، ولا هو دين على جهة معنية – سواء أكانت شخصية طبيعية أم اعتبارية – وإنما هو ورقة مالية تمثل جزءاً شائعاً (سهماً) من ملكية عين استعمالية، كعقار أو طائرة أو باخرة، أو مجموعة من الأعيان الإستعمالية – المتماثلة أو المتباينة – إذا كانت مؤجرة، تدرُّ عائداً محدداً بعقد الإجارة. 3 - يمكن لصكوك الإجارة أن تكون اسمية، بمعنى أنها تحمل اسم حامل الصك، ويتم انتقال ملكيتها بالقيد في سجل معين، أو بكتابة اسم حاملها الجديد عليها، كلما تغيرت ملكيتها، كما يمكن أن تكون سندات لحاملها، بحيث تنتقل الملكية فيها بالتسليم. 4 - يجوز إصدار صكوك تُمثل ملكية الأعيان المؤجرة وتداولها – إذا توافرت فيها شروط الأعيان التي يصح أن تكون محلاً لعقد الإجارة – كعقار وطائرة وباخرة ونحو ذلك، ما دام الصك يمثل ملكية أعيان حقيقية مؤجرة، من شأنها أن تدرَّ عائداً معلوماً. 5 - يجوز لمالك الصك – أو الصكوك – بيعها في السوق الثانوية لأي مشتر، بالثمن الذي يتفقان عليه، سواء كان مساوياً أم أقل أم أكثر من الثمن الذي اشترى به، وذلك نظراً لخضوع أثمان الأعيان لعوامل السوق (العرض والطلب). 6- يستحق مالكُ الصك حصته من العائد – وهو الأجرة - في الآجال المحددة في شروط الإصدار منقوصاً منها ما يترتب على المؤجر من نفقة و مُؤنة، على وفق أحكام عقد الإجارة. 7- يجوز للمستأجر الذي له حق الإجارة من الباطن أن يصدر صكوك إجارة تمثل حصصاً شائعةً في المنافع التي ملكها بالاستئجار بقصد إجارتها من الباطن، ويشترط لجواز ذلك أن يتم إصدار الصكوك قبل إبرام العقود مع المستأجرين، سواء تم الإيجار بمثل أجرة الإجارة الأولى أو أقل منها أو أكثر. أما إذا أُبرمت العقود مع المستأجرين، فلا يجوز إصدار الصكوك، لأنها تمثِّل ديوناً للمُصدر على المستأجرين. 8- لا يجوز أن يضمن مصدر الصكوك أو مديرها أصل قيمة الصك أو عائده، وإذا هلكت الأعيان المؤجرة كلياً أو جزئياً فإن غرمها على حملة الصكوك «. رابعا: التطبيقات المعاصرة لعقد الإجارة ودورها في تمويل التنمية تعتبر صكوك الإجارة إحدى أهم وسائل تمويل المشاريع ليس فقط على المستوى الوطني و إنما تتعداه إلي استقطاب التمويلات الدولية . ففي مجال إصدار الصكوك هناك تجارب عالمية ناجحة تؤكد قدرتها على تمويل المشروعات التنموية الكبرى في مختلف دول العالم؛ إذ سعت عدة دول إلى وضع إطار قانوني منظم لإصدار الصكوك بغرض تشجيع المؤسسات المستثمرة فيها؛ مما حقق معدلات نمو غير مسبوقة للصكوك على المستوى العالمي، خاصة في ماليزيا وإندونيسيا، والإمارات والسعودية، وقطر وتركيا، بل حتى في دول غير إسلامية كألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة. ومن الأمثلة الدالة على نجاح هذه الصكوك على المستوى العالمي، يمكن أن نستشهد بالتجارب الرائدة التالية14: - أصدرت ماليزيا عدة صكوك لتمويل عمليات إنشاء وتطوير عدة مشروعات عملاقة في مجال البنية التحتية والمشاريع التنموية مثل: المطارات والطرق الرئيسية، وعمليات التنقيب عن الغاز، وصناعة البتر وكيمياويات وغيرها، وكانت تجربة ناجحة دفعت بماليزيا، مع عدة إصلاحات اقتصادية؛ إلى مرحلة كبرى من النمو الاقتصادي. مع العلم أن ماليزيا لا تزال تتربع على عرش إصدارات الصكوك؛ إذ بلغت نسبة الإصدارات من الربع الأخير لعام 2012، نحو 22 مليارا و849 مليون دولار. وتستحوذ ماليزيا على ثلثي الإصدارات العالمية من الصكوك تقريبا. - وقعت حكومة دبي ممثلة في دائرة الطيران المدني، مع ست بنوك إسلامية تحت إدارة بنك دبي الإسلامي لإصدار صكوك إجارة إسلامية بحجم مليار دولار تمت تغطيتها بالكامل لتوسعة مطار دبي. ومُوّلت مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي بمبلغ تجاوز 8,2 مليارات دولار؛ وذلك بصكوك مالية مصدرة بوساطة بنك دبي الإسلامي. - أصدرت حكومة قطر صكوك إجارة دولية بقيمة 700 مليون دولار لتطوير مدينة حمد الطبية، وغير ذلك كثير من الأمثلة لإصدارات حكومية أخرى، أو إصدارات الشركات والبنوك التابعة للقطاع الخاص في دول مثل إنجلترا والولايات المتحدةالأمريكية، وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وتركيا وغيرها. 1 - د.نزيه حماد»معجم المصلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء»ص:26. 2 -المرجع السابق، ص:26. 3 - سورة القصص/الآية: 26 4 - أخرجه البخاري في صحيحه ،كِتَاب الْبُيُوعِ - بَاب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا رقم:2114. 5 - وهو ما تقوم به بعض المؤسسات بتأجير الأصول الثابتة إلى الغير نظير قيمة إيجار محددة، ومن أمثلة هذا النوع من التأجير، تأجير السيارات و الحواسيب و معدات البناء و العقارات، وهو من العقود المعروفة في الفقه الإسلامي قديما. 6 - وهو قيام المستأجر باستئجار الأصل الثابت في بداية الأمر وعندما يطمئن إليه أو تتناسب قدرته المالية على الشراء ينقلب عقد الإيجار إلى عقد بيع ، وهذا النوع كثير الانتشار، وهو لا يخالف قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية بشرط الفصل بين العقدين، عقد الإيجار وعقد البيع. 7 - د.حسين شحاتة»التأجير التمويلي في ضوء الشريعة الإسلامية» سلسلة بحوت ودراسات في الفكر المحاسبي في الإسلام –دار المشورة ص: 5. http://www.darelmashora.com -موقع خاص بالمؤلف- أطلع عليه في:28/11/2012 8 - المرجع السابق ص: 5. 9 - سورة المائدة،الآية 1. 10 - أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كِتَاب الْأَقْضِيَةِ - بَاب الْقَضَاءِ فِي الْمَرْفِقِ رقم :1461 ، وأخرجه بن ماجة في سننه كتاب الأحكام - بَاب مَنْ بَنَى فِي حَقِّهِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ- رقم:2340، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده -وَمِنْ مُسْنَدِ بَنِي هَاشِمٍ - مُسْنَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقم :2862. 11- د. عبد الفتاح محمد فرح «الصكوك وتمويل التنمية» بتاريخ :21/06/2013 www.ajmanchamber.ae/UserFiles/sukuk.doc- 12 - قرار رقم 137 (3/15) بشأن صكوك الإجارة- مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي- الدورة الخامسة عشرة بمسقط (سلطنة عُمان) 14 - 19 المحرم 1425ه، الموافق 6 – 11 آذار (مارس) 2004 13 - المرجع السابق. 14 -أمل خيرى» ما الدور المرتقب للصكوك فى التنمية؟» بتاريخ: 14/3/2013 http://elshaab.org/thread.php?ID=53560-