مجرد التفكير في مشروع مرسوم يتعلق بالصفقات العمومية يعني الإقرار بأنه كان هناك عطب كبير في سير هذه الصفقات يمس بمبدأ شفافيتها وحرية الولوج إليها والتعامل المبني على المساواة في الاستفادة منها. طبعا، النص الدستوري واضح في تنصيصه على ضرورة تخليق الحياة العامة ومحاربة الغش والفساد وتأكيد مبدأ تكافؤ الفرص وحرية المنافسة، لكن، أين المشكلة اليوم؟ هل تتمثل في وجود نقائص اعترت النظام الأساسي للجنة الصفقات؟ أم أن الأمر يرجع إلى صفتها الاستشارية؟ عمليا، لقد سمحت تجربة لجنة الصفقات بالوقوف على ثلاث نقائص أساسية منها: - لم تكن توصياتها تتمتع بأية صفة إلزامية والقطاعات المعنية بهذه التوصيات لم تكن تجد أي سلطة تجبرها لتطبيقها. - لم يكن إجراء الصفقات يتأثر بالتظلمات التي يقدمها المنافسون الذي يشعرون بتعسف في حقهم، بل إن اللجنة لم تكن تتقيد بآجال في الرد على هذه التظلمات مما يعني أن حق التظلم كان عبارة عن تأثيث شكلي لهذه المسطرة. - لم يكن الإطار القانوني يسمح لأصحاب المشاريع والمتنافسين للاستشارة المباشرة معها. والواقع، أن هذا المشروع أتاح الإمكانية للجوء إلى رئيس الحكومة لإضفاء الصفة الإلزامية لآراء اللجنة، وعزز اختصاصاتها بوضع مسطرة للنظر في الشكايات والنزاعات المترتبة على التنفيذ وفق آجال وكيفيات محددة تمكن كل متنافس أو صاحب صفقة من استشارتها مباشرة، وأتاح الفرصة لتعليق أو إرجاء الصفقات في حال تظلم منافس لحق به تعسف. بل إن مشروع المرسوم، جعل للهيئات المهنية تمثيلية في تركيبة هذه اللجنة، وأتاح المجال لتمثيلية ممثل عن الهيئة الممثلة للقطاع المعني بالشكاية بمقرر من الأمين العام للحكومة. من هذه الجهة، يمكن أن نعتبر مشروع المرسوم حاول تنزيل الفصل 63 للدستور في مجال الصفقات العمومية، وتخليق هذا المجال من الحياة العامة، وبناء علاقات الثقة بين أصحاب المشاريع والصفقات والمتنافسين من خلال إحداث مسطرة واضحة تضمن تكافؤ الفرص وحرية التنافس وتتيح الفرصة للتظلم الذي يفضي إلى تعليق أو إرجاء الصفقة وإعادتها. طبعا، هذا مهم، ولا شك أن آثاره ستكون واضحة على المدى المنظور، لكن، ذلك لا يمنع من تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية: 1- الملاحظة الأولى: وتتعلق بالمنطقة التي يسكنها الشيطان، أي دفاتر التحملات التي تهيأ للصفقات، والتي أكدت التجارب السابقة أنها تكون في العادة مصنوعة على المقاس. فهذه الدفاتر، والتي يفترض أن اختصاصات اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية غطتها ضمنا، فإن المطلوب لرفع منسوب الشفافية وتخليق الحياة العامة، أن يبدى فيها النظر الاستشاري ويرفع إلى رئيس الحكومة قبل أن يتم إعلان الصفقة، وذلك حتى يتم تضييق مساحة التظلمات الناتجة عن عدم احترام هذه الدفاتر لمبدأ تكافؤ الفرص أو مبدأ حرية الولوج إلى الصفقات أو مبدأ حرية التنافس. 2- الملاحظة الثانية: وتتعلق بالسلطة التي أعطيت للوزراء لوقف تعليق الصفقات أو تعطيل إرجائها في حال التظلم، وذلك في حالة وجود اعتبارات استعجالية مرتبطة بالصالح العام. فهذا الاستثناء، الذي وإن كان مشروطا بتعليل من خلال رسالة توضح الأسباب والدوافع، فإن النص القانوني يحتاج إلى تحديد بإيراد هذه الحالات، وذلك حتى تضيق مساحة التأويل ويتم التمييز بين الصفقات التي لا يمكن تعليقها أو إرجاؤها وبين التي يمكن أن يلحقها ذلك، كما أن هذه الحالات الاستثنائية تحتاج إلى إجراءات قانونية خاصة توضح ما العمل إذا صدرت توصيات لفائدة المشتكي في حالة عدم تعليق الصفقة وإجرائها وفوز منافس آخر بها؟ 3- الملاحظة الثالثة: رغم أن هذا المشروع أتاح للجنة أن تبدي رأيها بأحد ثلاثة احتمالات: (التوصية بتعليق أو إرجاء الصفقة أو تصحيحها أو رفض الشكاية)، وأعطى إمكانية لإضفاء الصفة الإلزامية لهذه التوصيات من خلال الإحالة على رئيس الحكومة لاتخاذ القرار في ذلك، إلا أنه لا يقدم حلا في حال ما إذا اقتنعت اللجنة بحجج المشتكي وأوصت بوقف الصفقة ولم تحول السلطات المعنية توصياتها إلى قرارات ملزمة لاسيما وأنها منعت حق هذا المنافس من الإدلاء برأي اللجنة إن كان في صالحه أمام المحاكم مما يعني في نهاية المطاف أن هذا المنافس سيبقى تحت رحمة السلطة المعنية التي قد تكون الخصم والحكم في الوقت ذاته.