إن الأعمال المنظمة تقتضي بطبيعتها توزيع المهام وتقسيم المسؤوليات، ولا يمكن أن تتم إلا وفق خطط وبرامج سابقة على زمن التنفيذ، فيلزم حينئذ أفراد المجموعة أن ينضبط كل واحد للمهمة التي كُلف بها ولا يتعداها إلى غيرها، وإلا أحدث خللا في مجموع العمل. وطبيعة هذه الأعمال المنظمة تقتضي أن يكون هناك رئيس ومرؤوس وقائد وجنود وآمر ومأمور، لأن ميزان الفضل حينئذ لا يكون بالرتبة التي يكون فيها الفرد، بل بمدى قيامه بالواجب الذي كُلف به. والسيرة النبوية العطرة عامرة بالأمثلة الدالة على أن نجاح الدعوة الإسلامية ارتبط في جانب التنفيذ منه بروح الجندية والانضباط عند الصحابة، وأن ما حصل من بعض الارتباك في إحدى المراحل كان بسبب غياب هذه الروح، كما وقع في غزوة أحد عند مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة. روى البخاري عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تعِينُونَا فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَت وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا... . قال المباركفوري في الرحيق المختوم: "لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، لكن على رغم هذه الأوامر المشددة؛ لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟. أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكّرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالا، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. ثم غادر أربعون رجلا من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسواد الجيش، ليشاركوه في جمع الغنائم، وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم، مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا. وانتهز خالد بن الوليد (وكان يومها على الشرك) هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم". هذه قصة مشهورة في غزوة أحد، وخلاصتها أن الرماة الذين كلفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزموا الجبل لحماية ظهور المسلمين، استعجل أغلبهم الغنيمة حينما انتصر المسلمون على المشركين، وبرحوا أماكنهم لأخذ نصيبهم من غنائم المشركين، فلما نزلوا التف خالد بن الوليد من الخلف وأعمل في المسلمين السيف لأن ظهرهم لم يعد محميا بسبب نزول أولئك النفر من الصحابة من الجبل.