لعل أبرز ما شهدته الساحة الفلسطينية مؤخرا هو الحوار الذي يجمع بين الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها و خاصة بين كبرى هذه الحركات, حماس و فتح . و رغم أن معظم الفصائل ترفض فكرة أن الحوار يدور أساسا حول مسألة إيقاف العمليات الاستشهادية و اقتصارها على أراضى 67 إلا أن كل الشواهد تشير إلى أن المطلوب من هذا الحوار هو وقف العمليات داخل فلسطين 48 و تهدئة الأوضاع لتسلخ أمريكا جلد العراق بدون إزعاج . حماس و الجهاد تؤكدان من جانبهما أن وقف العمليات لابد له من ثمن سياسي مناسب و هذا الثمن هو انسحاب القوات الإسرائيلية من كافة أراضي 67 . و أكد هذا الأمر مرارا و تكرارا الكثير من رموز حماس و قادتهم . يقول خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج خلال رسالته الأخيرة إلى الكتل الطلابية في الجامعات الفلسطينية : " ثمة أصوات تخرج علينا من هنا وهناك وبين الحين والآخر تنتقد عسكرة الانتفاضة وتدعو إلى وقف المقاومة، أحياناً تدعو إلى وقفها جزئياً وأحياناً تدعو إلى وقفها كلياً، وتمارس في سياق ذلك الكثير من جلد الذات والزعم غير المبني على الحقائق بل على وقائع ملتبسة ومجتزأة، مع تضخيم مقصود للمعاناة الفلسطينية والتقليل من خسائر عدونا وتأثيرات الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية عليه.." ثم تؤكد الرسالة على مبدأ لا تراجع عنه فتقول " نرى ونؤمن أن الانتفاضة والمقاومة طريق مبارك وواقعي وصحيح وفاعل وموصل بإذن الله إلى أهداف شعبنا وحقوقه، ولا نرى طريقاً آخر غيره". أما مصر فقد دخلت على الخط و احتضنت الحوار على ما يبدو ليس من باب رأب الصدع بين القوى الفلسطينية و توحيدها على أساس استمرار المقاومة حتى التحرير و لكن لأن الوضع الدولي تطلب هذا التحرك المصري خصوصا و أنه جاء مفاجئا و بعد سبات طويل . أولا الحوار يأتي بدعم أوروبي و بالتأكيد بضوء أخضر أمريكي لأنه لا يعقل أن تتحرك مصر فجأة في هذا المجال و تحتضن حوارا بين حركة فتح و حركة يعتبرها المجتمع الدولي و الولاياتالمتحدة و مصر نفسها حسب مقررات شرم الشيخ لسنة 1996 حركة إرهابية و هي حركة حماس . لابد إذا من ترخيص أمريكي بهذا الشأن و هذا ما يضفي مزيدا من الغموض على الأهداف الحقيقية وراء هذا الحوار . فكلنا يعلم أن الحوار يتزامن مع استعدادات أمريكية لتوجيه ضربة عسكرية للعراق و هذا يتطلب تهدئة النزاع الفلسطيني و إدخاله في دوامة خطة الطريق و رؤية جديدة لبوش لدولة فلسطينية كما فعل خلال حرب أفغانستان . و حتى من جانب فتح فالغرض من الحوار هو توحيد الرؤية السياسية الفلسطينية بحيث تكون هناك سلطة واحدة تحدد متى تقاوم و متى تفاوض . و لعل ظاهر هذا القول طيب خصوصا و أن أي حركة مقاومة لابد لها من توحيد صفوفها و تحديد أهدافها التكتيكية و الاستراتيجية و لكن حقيقة الأمر غير هذا فالسلطة الفلسطينية لم يعد بمقدورها المقاومة , خصوصا و أنها مكبلة باتفاقات أوسلو التي تلزمها بتجريم رفع السلاح في وجه الصهاينة سواء أكانوا مدنيين أو جنودا . و ما يهمها صراحة من هذا الحوار هو احتواء حركة حماس و الدخول في مفاوضات جديدة دون أن تحرجها عمليات حماس أو الجهاد الإسلامي . و لعل هذا مضمون التصريحات الأخيرة لنبيل شعث وزير التخطيط و التعاون الدولي في السلطة الوطنية الفلسطينية الذي قال: " إن الهدف هو "التوصل إلى اتفاق فلسطيني - فلسطيني تتمكن السلطة بموجبه من التحدث باسم الجميع"، وزاد موضحاً أنه "لا بد من أن يعطي الاتفاق السلطة الحق في التفاوض حول وقف متبادل لكل العمليات". و لما كان من الصعب على فتح إيقاف الانتفاضة لوحدها , و لما عظم دور حماس و الجهاد كان لابد من محاولة إقناع هاتين الحركتين بأي شكل كان لإيقاف الانتفاضة; لأنه بدون حماس و الجهاد لن و لن تتوقف الانتفاضة .هذا الاستنتاج كان استنتاجا إسرائيليا و أمريكيا و عربيا و أيضا من جانب السلطة الفلسطينية. و من تابع مقالات الصهاينة قبل شهر تقريبا و خصوصا على صحيفة هاأرتز لوجد كما هائلا من المقالات تتحدث بصفة عامة عن أنه بدون موافقة حماس و الجهاد فلن تتوقف الانتفاضة . لكن أزمة الحوار الفلسطيني الفلسطيني في القاهرة أنه يفترض أن إيقاف حماس أو الجهاد العمل المسلح و خصوصا العمليات الاستشهادية داخل أراضي 48 سوف يحل المعضلة برمتها, في حين يتجاهلون مسألة أن شارون علق ساخرا على هذه الحوارات و أكد على استمرار نهجه لاجتثاث ما سماه " الإرهاب الفلسطيني " و يتجاهلون أن العمليات بالفعل توقفت لأكثر من عشرين يوما في حين لم نشهد تهدئة من الجانب الإسرائيلي . و هذه ليست أول مرة ففي شهر ديسمبر من سنة 2001 توقفت المقاومة لأكثر من 40 يوما و لكن المجازر الاسرائيلية لم تتوقف أبدا . مصر تعلم جيدا أنها لا تستطيع الضغط على إسرائيل لوقف عملياتها الإجرامية و لا حتى أوروبا تستطيع ذلك . الوحيدة التي تستطيع الضغط على الصهاينة هي الولاياتالمتحدة و لكنها لا تريد لأن إسرائيل حليفها الاستراتيجي و لأن مصير الشعب الفلسطيني لا يهمها في شيء . و قبل أيام فقط رفض بوش انتقاد عمليات القمع الصهيوينة و أكد على أنها عمليات دفاع عن النفس . نستنتج إذا أن مصير هذا الحوار هو الفشل خصوصا إذا علمنا أن وثيقة الحوار النهائية و ليست ورقة المقترحات المصرية لم تولد بعد و لن تولد لسبب بسيط هو أن مصر و السلطة الفلسطينية لن تستطيعا تقديم ضمانات كافية لحماس و الجهاد بوقف العدوان الإسرائيلي و الانسحاب من أراضى 67 حسب ما تشترطه الحركتان . أما وقف الانتفاضة فمعناه استسلام مجاني للصهاينة و هدر لدماء مئات الشهداء الذين قدموا دماءهم من أجل التحرير و ليس من أجل تنشيط مفاوضات السلام التي قامت الانتفاضة أساسا كرد عليها و على اتفاقات أوسلو التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى هذا المأزق الخطير . كل من يهاجمون الانتفاضة اليوم من أمثال أبو مازن عراب أوسلو الذي صرح مؤخرا بأن عسكرة الانتفاضة هي السبب المباشر في كل ما لحق بالقضية الفلسطينية من كوارث يتحركون بدوافع شخصية و ليس من أجل تحقيق الأهداف العامة للقضية الفلسطينية . و الكلام نفسه ينطبق على التحرك المصري و التحرك العربي الذي أقصى ما يتمنى الوصول إليه هو تحريك عملية السلام التي كانت السبب المباشر في ما يحدث اليوم من مآسي . يمكننا أن نقول إذا أنه ليس أمام الانتفاضة إلا الاستمرار في الخط الذي رسمته لنفسها و عدم الالتفات إلى كل دعوات التهدئة أو الوقف الكامل للعمليات . لأن حركات المقاومة هي التي تستطيع ترشيد عملياتها حسب ما تراه مناسبا لها , و أيضا لأن وقف الانتفاضة لن يقابله إلا استمرار المجازر الصهيوينة . و كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين , و لكن العرب لدغوا عشرات المرات و آخرها رؤية بوش للدولة الفلسطينية التي اختفت نهائيا بمجرد انتهاء الحرب على أفغانستان . و لهذا , فإننا لا نريد أن تنتهي الحرب على العراق, لا سمح الله, ليجد الفلسطينيون أنفسهم في الأردن بدل الضفة الغربية أو غزة . حميد نعمان