الربيع الديمقراطي سنة مركبة تاريخية واجتماعية ونفسية، تعبرعن شوق عظيم عند الإنسان العربي لقيمة الحرية، في أبعادها السياسية والاجتماعية والفردية. إنجاز هذا الشوق ممكن بوعي الأمة بمقاصد هذا الربيع المبارك.وهي باختصار أربعة كبرى: إنتاج السلطة وإعادة توزيعها، إنتاج الثروة وإعادة توزيعها، إنتاج القيم الحاكمة وإعادة توزيعها،وإنتاج المفاهيم الفكرية الموجَّهة وإعادة توزيعها توزيعاً عادلاً.فهي ثورات أربع: ثورة سياسية،وثورة اقتصادية / اجتماعية وثورة قيمية / أخلاقية،وثورة فكرية / ثقافية كما سنرى بالتتابع. فالثورة السياسية تبغي هدم بنيات النظام السياسي العربي المتهالك، وإقامة نظام جديد يستجيب (لطوبى) المواطن العربي من المحيط إلى الخليج في التنمية الشاملة.وعملية الهدم هذه تتم وستتم بأسلوبيْن:أسلوب فوري قطعي على منوال ثورة الجمهورية الفرنسية، أو أسلوب إصلاحي متدرج على منوال الثورة الملكية الإنجليزية. ينتهي بالتحرر النهائي من قهر الحكام المستبدين في الوطن العربي،و ببناء نظام ديمقراطي كامل الأركان.إليك أركانه: الركن الأول: الشعب هو المصدر الوحيد لكل السلطات:لقد احتكر الحكام العرب لعقود من الزمان صناعة القرار السياسي في أقطارنا،والأمة بثورتها تريد استرداد إرادتها السياسية المسلوبة منذ زمان.إنها عملية تأميم صناعة القرار. وهذا أول إنتاج للربيع الديمقراطي في مادة السلطة العادلة. الركن الثاني مبدأ القانونية: الإقرار العملي على أن إدارة شؤون الدولة والأمة والمجتمع يجب أن تتم من الآن وفق القانون ودولة القانون فتصرف كل مسؤول كبر أو صغر شأنه،في الأموال والأعمال وفي العلاقة مع المواطن ملزم باحترام سلطة القانون.مع التحريم والتجريم لثقافة التعليمات والأوامر الشفهية والعرفية غير المشفوعة بالقانون. فكم عانى الشعب العربي من أوامر وتصرفات الحاكم المستبد،والتي لا سند لها، لا في شرع الله ولا في القانون. بل سندها الوحيد والدائم هو مزاج وهوى الحاكم . فالمواطن مصمم على أن يُحكَم بسلطة ودولة القانون لا غير. الركن الثالث النزاهة السياسية:وجوهره تحريم وتجريم هتك حرمة إرادة شعوبنا الحرة في انتخاب من ينوب عنها في إدارة السلطات العمومية للدولة،وهي السلطة الحكومية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية وإدارة شؤون الجماعات المحلية،وفي اختيار مشاريع التنمية التي تراها مناسبة.فكل الأنظمة قبل الربيع كانت مغتصبة للإرادة الشعبية في الانتخاب والاختيار.فتحويل مبدأ النزاهة وعدم التزوير السياسي للإرادة إلى فكر و سلوك ثورة حقيقية بامتياز.والنزاهة هي تعاطي سياسي شريف مع الشأن العام،ولكن هي أيضاً التعاطي الشريف مع المال العام والخاص، وتعاطي إداري بعيد عن الزبونية والرشوة المالية والسياسية، هي تنظيف جهاز الدولة بالكامل من ثقافة الريع السياسي.وهذا المبدأ يبقى بلا قيمة سياسية إذا لم يتم تفعيل الركن الرابع والخامس والسادس: مبدأ الشفافية ومبدأ المحاسبة السياسية ومبدأ الجزاء القضائي اتجاه الكل. الركن السابع التعددية وتداول السلطة:فالآدمي حتى إن كان أخوك في الدين ونظيرك في الخلق، فهو ليس نسخة طبق الأصل منك.فلكل إنسان بصمة خِلْقية في الأصبع والشعر والصوت والسمع، وفي تقديري لكل إنسان أيضاً بصمة خاصة في العمران والحضارة، عليه اكتشافها.ومن هنا أصالة الاختلاف والتعدد في الرأي والموقف والسلوك.كما هي أيضاً أصالة الائتلاف بين أبناء الخلقة الواحدة والحضارة الواحدة. فالتدافع المتمدن والمنتج في المجتمع مشروط بقبول الفرد والجماعة بأصالة التعدد والاختلاف بين الناس.ولقد أصل لها الإمام الشافعي حينما قال (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب).فلا بد من دسترة هذه الحكمة الذهبية. والتعددية تعني أيضاً الحق في المعارضة السياسية للبرامج الرسمية للحاكم، والنضال المدني القانوني لإسقاطها وإسقاطه بإرادة الشعب الحرة، وفق مبدأ تداول السلطة الديمقراطي. الركن الثامن فصل السلط وتوازنها:وهو الركن الإمام في الإصلاح الديمقراطي اليوم.لقد عانت أمتنا العربية لمدد طويلة من حاكم هو المشرع و المنفذ و القاضي..فهذا الوضع السياسي لم يكن هو وضعنا في العصر الوسيط الإسلامي. لقد كان الحاكم يحتكر السلطة الحكومية، لكن كانت السلطة القضائية مستقلة عنه. مثلها ذلك القضاء الإسلامي الزاهر، الذي حاكم حتى رأس السلطة كما حدث مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وحكم القاضي لصالح خصم علي وهو يهودي حتى وليس مسلماً.كما مثل فقهاء الفتوى السلطة التشريعية المستقلة في تلك المرحلة.بل كان الحاكم ،مهما استبد، عاجز أن يخرق مبدأ القانونية في تلك المرحلة، حيث كانت الشريعة الإسلامية دستور الأمة . لكننا سندخل عصر الاستبداد الشامل بعد الاستقلال،إذ سقط دستور الأمة الرباني، وسقط معه الفصل بين السلطات.فالربيع الديمقراطي يريد اليوم أن يبعث من جديد مبدأ فصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية عن السلطة القضائية، مع رعاية الاستقلالية والوازن بينها.وهي ثورة سياسية حقيقية إن أُنْجِزت، وتنمية سياسية بالغة الأهمية.أما شكل النظام السياسي الديمقراطي فسيخلف حسب كل قطر عربي. لكن الغالب إما نظام رئاسي أو شبه رئاسي في الجمهوريات، أما الأنظمة الملكية فستعرف بالضرورة أنظمة سياسية برلمانية. الخلاصة أن الإصلاح السياسي بالمعايير أعلاه يعيد الدولة لوظيفتها الأساسية في المجتمع. دولة في خدمة المجتمع. تضع من الآن فصاعداً مقدراتها المادية والأخلاقية لحماية الأنفس لا حبس الأنفاس،وتوفير الرزق لا قطع الأرزاق.تقدم الخدمة للمواطن بتوفير الأمن والأمان له، لا إرهابه وإفزاعه.وأن يكون أنتاج السلطة الجديدة العادلة مدخل (لإنتاج الثروة وإعادة توزيعها) توزيعاً عادلاً كما سنرى في مقبل الحديث. قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً". ويقول ابن سيرين رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه".