إن تناولي لهذا الموضوع يدخل في إطار ما يسمى "تنظيم النسل" أو "تنظيم الأسرة"، ولا علاقة له ب"تحديد النسل"، فهذا الأخير محرم بإجماع العلماء؛ ويدخل في هذا التحريم كل ما من شأنه قطع النسل بالكلية، وكل ما من شأنه استئصال قوة الجماع، أو إفساد المني بمنع الحيوانات المنوية عن طريق التعقيم الجراحي للرجل، أو كل ما من شأنه أن يذهب صلاحية الرحم للإنجاب كالتعقيم الجراحي للمرأة. ويدخل فيه أيضا استعمال وسائل منع الحمل بشكل مستمر دون ضرورة، أو اللجوء إلى تحديد النسل الجماعي عبر سن قوانين ملزمة تحدد عدد الولادات التي لا يجوز تجاوزها، كما هو واقع الآن في الصين. إن تنظيم النسل في نظري هو معالجة أمر الذرية من ناحية القلة والكثرة، أو الزيادة والنقصان، حسب الظروف التي تمر بها الأسرة..، وهو ليس كما يتبادر لذهن كثير من الناس أنه تقليل من عدد الولادات فقط، فهو ليس دائما كذلك؛ فقد يكون بالنسبة للبعض تقليلا، وقد يكون بالنسبة للبعض الآخر عكس ذلك.. فمثلا هناك عدد لا بأس به من الأسر تعاني من ضعف الخصوبة، أو عقم أحد الزوجين، أو كلاهما، لكنه قد يكون عقما قابلا للعلاج، فما دام الشرع الحكيم يحث على التناسل والإنجاب، إذن فمطلوب شرعا لمن يعاني ضعفا في الخصوبة أو عقما قابلا للعلاج أن يلجأ لكل الوسائل الطبية التي لا تخالف الأحكام الشرعية والمقاصد الإسلامية من أجل استرجاع الخصوبة والعلاج من العقم المؤقت؛ فهذا العلاج والسعي للإنجاب هو بدون شك يدخل ضمن تنظيم النسل، وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية. كما تجدر الإشارة إلى أن وسائل منع الحمل مختلفة ومتنوعة؛ ويمكن تقسيمها إلى قسمين: وسائل صناعية؛ وهي ثلاثة أنواع: وسائل هرمونية، ووسائل ميكانيكية، وأخرى كيماوية. أما القسم الثاني فيضم وسائل طبيعية: كالعزل، والرضاعة، والامتناع المؤقت عن الجماع (فترة الأمان)؛ وقد اخترت هنا وسيلتين من الوسائل الطبيعية، لأنهما أصعب فهما، وأقل ضررا.. المرضعات باستمرار نادرا ما يحملن أثناء فترة الرضاعة قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ( سورة البقرة: من آية 233). فالواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهن لمدة سنتين كاملتين، وذلك إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، ولا زيادة عليه (" صفوة التفاسير" تأليف محمد علي الصابوني، 1/150.) . وتعتبر الرضاعة من الوسائل الطبيعية لمنع الحمل، فالأمهات اللواتي يرضعن أولادهن باستمرار، نادرا ما يحملن أثناء فترة الرضاعة. وهذا ما يؤكده الطبيب -محمد علي البار- بقوله: "إن مص الثدي يؤدي إلى تنبيه الغدة النخامية الخلفية لتفرز هرمون البرولاكتين الذي يدر اللبن من الثدي، وفي نفس الوقت يثبط الغدة النخامية الأمامية التي تفرز الهرمونات المنمية للغدة التناسلية (Gonadotrophine) مثل F.S.H. الهرمون المنمي للحويصلات، وL.H.، والهرمون المصفر (أي الذي يسبب تكون الجسم الأصفر) (Corpus luteum) وذلك بعد خروج البويضة من حويصلة جراف، فتقل بذلك هرمونات الغدة التناسلية (المبيض) ولا تفرز البويضة، وبالتالي يحدث حمل" (" سياسة ووسائل تحديد النسل في الماضي والحاضر" ص: 200). وينقل د. -البار- عن الدكتور -جلبود- قوله إن منع الحمل عن طريق الرضاعة حصيلته أكبر من الوسائل الأخرى؛ يقول -جلبود-: "يبدو أن الرضاعة تقوم بمنع الحمل عند ملايين النساء في العالم، ويمكن القول بأن المحصلة النهائية لمنع الحمل الناتجة عن الرضاعة أكثر بكثير من جميع وسائل منع الحمل مجتمعة! وفي أي مجتمع لو قامت النساء بإرضاع أطفالهن إرضاعا تاما، فإن الخصوبة في ذلك المجتمع تقل، وربما أدت إلى نتائج في هذا العدد تفوق استعمال وسائل منع الحمل... وكلما قلت الرضاعة وأصبحت فترتها أقصر، كلما زادت الخصوبة، وزاد بالتالي عدد الأطفال في الأسرة، وكانت الفترات بينهم قصيرة" ( سياسة ووسائل تحديد النسل في الماضي والحاضر" ص: 200 201. الألبان المجففة بدون إجراءات وقائية تسبب الإسهال في الوقت المعاصر تخلت ويا للأسف كثير من الأمهات عن إرضاع أولادهن رضاعة كاملة، مقلدة في ذلك المرأة الغربية، وزاعمة أنها تحافظ على رشاقة جسمها، لكنها لا تدري أن ذلك على حساب أولادها ! فأغريت باستخدام الألبان المجففة، فبذرت أموالا طائلة تجنيها منها شركات إنتاج هذه الألبان الاصطناعية، وتسببت في إضعاف أولادها لما فوتت عليهم فرصة الاستفادة من لبن الأم، الذي لا يمكن أن يعوضه لبن آخر. ومعلوم أن تناول الألبان المجففة دون مراعاة الإجراءات الوقائية الضرورية كثيرا ما يترتب عنه حدوث نوبات إسهال، وخاصة في مناطق العالم الثالث، لأن الأمهات لا يقمن بتعقيم الأدوات المستعملة في الإرضاع من القارورة تعقيما جيدا، نتيجة للجهل السائد هناك، وأيضا لقلة الإمكانات، وانعدام التوعية الصحية اللازمة في كثير من تلك المناطق. إن نسبة منع الحمل في الرضاعة من الثدي ترتفع كلما كانت الرضاعة تامة وغير متقطعة، والعكس صحيح؛ وفي بحث للدكتور فؤاد الحفناوي توصل الباحث إلى أن الرضاعة تقلل من نسبة الإخصاب، وأن 75% من غير المرضعات يتوقع الحمل منهن خلال تسعة أشهر من الولادة، بينما تدل الإحصائيات على أن من 7% إلى 10% من المرضعات يحملن (" قضية تحديد النسل في الشريعة " لإسلامية " د. أم كلثوم الخطيب، ص: 138.). كما دلت دراسات أخرى على أنه بعد عودة الطمث للأمهات المرضعات تصبح نسبة الحمل لدى المرضعات وغير المرضعات واحدة؛ وهذا يؤكد بأن الفترة الواقية من الحمل أثناء الإرضاع تقتصر على فترة انقطاع الطمث فقط، ومع ذلك فإن هذه الفترة ليست مضمونة بالتأكيد؛ إذ أن 80% من الأمهات المرضعات تحدث لديهن الإباضة قبل عودة الطمث الأول بعد الولادة. كما دلت الدراسات على أن من 3% إلى 7% من الأمهات يحملن قبل أن يعود الطمث إليهن بعد الولادة" ( " وسائل تنظيم الأسرة " لفيف من الأطباء العرب ص: 17). إذن فرغم أن نسبة حدوث الحمل أثناء الرضاعة المنتظمة ضعيفة، إلا أنها تبقى واردة، ولهذا فمن الأحسن إضافة وسيلة أخرى لمنع الحمل أثناء الرضاع، من أجل المباعدة بين ولادة وأخرى، وليس من أجل وضع حد للنسل، فذلك منهي عنه. الحمل أثناء فترة الرضاع يضعف الرضيع وعن مضاعفات الحمل أثناء فترة الرضاع يقول الدكتور -البار-: "إذا حملت المرضع قل لبنها، وقلت المواد المغذية فيه فيضعف الرضيع" (" سياسة ووسائل تحديد النسل" ص: 202) ويبين هذه الخاصية أكثر الدكتور -محمد الأحمدي- كما ينقلها عن الدكتور -فتحي الزيات- الذي قال: "وقد ثبت -بالتجربة- طبيا أن هرمون "البروجسترون" و"الأستروجين" الخاص بالجنس والحمل يزداد أثناء الحمل، وأنه مع هذه الزيادة يوجد تغير نوعي في تركيب اللبن، حيث تقل نسبة المواد الذهنية والبروتينية عن المعدل الطبيعي، فتضعف نوعية اللبن وتقل كميته، بل قد يصل إلى أقل القليل نتيجة وجود هرمونات مانعة الإفراز. ونتيجة للنقص الكمي للبن، فإننا نجد الطفل الرضيع يصاب بالأمراض، ويكون عرضة للنزلات المعوية؛ نتيجة لتناوله أغذية مكملة مع لبن الأم، الذي لا يكفيه في هذه الحال، وهو ما يطلق عليه بالفئات الحساسة..." ("منهج السنة في الزواج" ص: 433 434). وكانت العرب تكره وطء الغيلة، لأن ذلك يؤثر على لبن الأم فيضر الطفل الرضيع؛ وفي هذا يمدح الشاعر -أبو كبير عامر بن خنيس الهذلي- ممدوحه بأنه قوي الجسم، صحيح البنيان، لأنه لم يأت نتيجة الوطء في الحيض، ولا قامت أمه بإرضاعه وهي حامل، فبذلك نما نموا قويا سليما، فيقول: ومبرإ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل. ("سياسة ووسائل تحديد النسل" ص: 203) لكن الرسول ( لما رأى معاناة بعض الصحابة من اعتزال زوجاتهم أثناء الرضاعة (حولين كاملين)، ورأى أن وطء المرضع لا يضر أمتين قويتين، هما فارس والروم، أباح لهم الوطء في الرضاع؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله ( فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال رسول الله (: "لم تفعل ذلك؟" فقال الرجل: أشفق على ولدها، أو على أولادها، فقال رسول الله ( : "لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم". وقال زهير في روايته: "إن كان لذلك فلا، ما ضار ذلك فارس ولا الروم" ( أخرجه مسلم، واللفظ له، في كتاب النكاح باب جواز وطء المرضع وكراهة العزل ) ؛ فظاهر هذا الحديث يبدو وكأنه متعارض مع الحديث السابق، لكن العلماء أزالوا هذا التعارض، وفي مقدمتهم ابن قيم الجوزية الذي قال: "وقد يقال إن قوله (: "لا تقتلوا أولادكم سرا" نهي أن يتسبب في ذلك، فإنه شبه الغيل بقتل الولد، وليس بقتل حقيقة، وإلا كان من الكبائر وكان قرين الإشراك بالله، ولا ريب أن وطء المراضع مما تعم به البلوى ويتعذر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع، ولو كان وطؤهن حراما لكان معلوما من الدين، وكان بيانه من أهم الأمور، ولم تهمله الأمة وخير القرون، ولم يصرح أحد منهم بتحريمه. فعلم أن حديث أسماء بنت زيد على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه، ولهذا كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم، والمنع منه غايته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تفضي إلى الإضرار بالولد، وقاعدة سد الذرائع إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت عليها" (" زاد المعاد" 4/18). وقال ابن القيم في موضع آخر مبينا هذا المعنى: " ثم عزم ( على النهي سدا لذريعة الأذى الذي ينال الرضيع، فرأى أن سد الذريعة لا يقاوم المفسدة التي تترتب على الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع، ولاسيما من الشباب وأرباب الشهوة، التي لا يكسرها إلا مواقعة نسائهم، فرأى أن هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة، فنظر ورأى الأمتين اللتين هما أكثر الأمم وأشدها بأسا يفعلونه ولا يتقونه، مع قوتهم وشدتهم، فأمسك عن النهي عنه؛ فلا تعارض إذا بين الحديثين، ولا ناسخ ولا منسوخ..." (" مفتاح دار السعادة " 2/270 271). وبالإضافة إلى أن الرضاعة التامة والمنتظمة تعتبر وسيلة طبيعية مهمة لتنظيم النسل، فإن لها فوائد أخرى صحية كثيرة أعرض بعضها فيما يلي؛ وهي عبارة عن موجز لما ذكره الطبيب -محمد البار- في هذا الشأن في كتابه " سياسة ووسائل تحديد النسل" ص: 205: لبن الأم معقم جاهز، بينما الألبان المحضرة غير معقمة... لبن الأم مركب على هيئة تفي بحاجات الوليد الإنسانية، بينما لبن الجاموس والأبقار والأغنام يفي بحاجات الجواميس والأبقار والأغنام. ويتغير تركيب لبن الأم يوما بعد يوم على حساب حالة الطفل ودرجة نموه... والطفل الخديج (الناقص) يحتاج للرضاع من الأم أكثر من الطفل التام. اللبا: وهو الإفراز الذي يخرج من الثدي بعد الولادة مباشرة، توجد به مواد المناعة ضد الأمراض. نمو الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أسرع وأفضل من نمو الأطفال الذين يرضعون من القارورة. تذكر منظمة الصحة العالمية أن كثيرا من اضطرابات الأطفال والشباب النفسية، وموجات الإجرام، مردها في كثير من الأحيان إلى عدم إرضاع الأطفال. فوائد تعود على الأم المرضع: إن عملية الرضاعة تزيد من إفرازات هرمون الأكسيتوسن (Oxytocin) الذي يساعد جدا في عودة الرحم إلى حجمه ووضعه الطبيعي، فيمنع بذلك نزف الرحم وحمى النفاس... والتقام الثدي من وليدها يِؤدي إلى إشباع غريزة الأمومة، والتصاق الطفل بالصدر يعطيه دفقات من الحنان يحتاجها لنموه النفسي والجسدي السوي. مصطفى سلامة