ليس من المساجد كبيرة المساحة عالية العمارة؛ فتَدهشَ لعظمته وسُموقه، ولا من المساجد فريدة الشكل والطراز فيخطف الأبصار من بعيد.. بل حاز الدهشة والفرادة معا؛ لكن من جهة أخرى. وبشهادة المجلس العلمي؛ فمسجد «عبد اللطيف التازي» من أكثر المساجد نشاطا وتنظيما، وهو ما يشهد به الوسام الذي حصل عليه بهذا الخصوص. من الخارج، بالكاد تنتبه إليه وتميزه من بين العمارات السكنية التي تحجب صومعته فلا تكاد تَبين..من الداخل، بالكاد تقتنع أنه هو المسجد نفسه الذي كان هنا قبل سنوات. بعناية ظاهرة وأناقة بالغة تطالعك مرافقه قبل أن تكتشف أنه ليس مجرد بناء فقط، إذ داخله روح من النشاط والفعاليات لا تنتهي طوال السنة. قبل أكثر من ثلاثين سنة بُني «مسجد عبد اللطيف التازي» كما توضح ذلك لوحة على مدخل المسجد بشارع مدغشقر ديور الجامع، لكن المسجد الذي ظل لسنوات قليلة مسجدا عاديا كغيره من غالب مساجد المملكة، سينقلب مسجدا يستحق وسام تكريم من المجلس العلمي للرباط. حدث ذلك بسبب موقف بسيط..رجل يصلي منفردا في مؤخر المسجد على حصير قديم، «حين استفسرتُه وجدت أن السبب هو انعدام النظافة والروائح المنَفَرّة، فبدأت الفكرة بمحاولة إصلاح إطار بالوزارة.. والطموح مؤذن !! بلباسه الأنيق الذي زاوج بين الجلباب المغربي الأصيل وربطة العنق العصرية التي تظهر من تحته، سيوظف «الحاج حليم» رئيس لجنة المسجد ما اكتسبه طيلة 25 سنة من العمل في التعليم ثم في الإدراة ثم في وزارة التربية الوطنية، ليجعل المسجد في أبهى حلة. يقتعد كرسيا فاخرا داخل مقصورة المسجد وأمامه منضدة صغيرة عليها زجاجة عطر وبعض بخور وزينة؛ ليسرد قصة النجاح.. «كنت آتي للمسجد بالسيارة بعد العمل..البعض كان يظن أن لي مآرب أخرى..لكن قصدي كان خدمة بيت الله وتوفير جو من الهدوء والسكينة داخله..يجب أن يشعر الناس فيه بالهدوء والراحة». لم يكن تفكير «الحاج حليم» منصرفا لشيء آخر سوى المسجد، المسجد أولا..والمسجد دائما..عند حضوره يشرف على كل شيء فيه، وعند سفره لا يهنأ له بال..يجتمع مع أصحابه قبل السفر ويوصي كلا بمهمته، ثم من بيت الله الحرام يتصل هاتفيا ليسأل عن أحوال المسجد، ويُذكر بالإعتناء وعدم الإهمال. الإعتناء بالمسجد ليس هواية لوقت فراغه؛ بل أولويته التي لازمته منذ أن سكنه ذلك الحلم..حلم أن يكون مؤذنا.. - مؤذنا.. وأنت موظف في وزارة؟! يبتسم لهذا التعجب؛ ويشرح: «منذ صغري كنت أتمنى أن أكون مؤذنا، فحقق الله الأمنية.. أصبحت مؤذنا إلى جانب وظيفتي الرسمية، وحين حصلت على المغادرة الطوعية تفرغت للمسجد بالكامل..كل ما خططت له في المسجد تحقق، والله سخر لأن النية كانت خالصة» . بدون دعاية ولا سعاية.. مع لجنة المسجد التي تضم ثلة مختلفة من دكاترة ورجال تعليم ومحاماة وغيرها؛ يجتهد القائمون على المسجد في توفير كل ما يحتاجه من مستلزمات ونظافة وتجهيزات، لا ينقصهم إلا التوجه نحو أحد الأصدقاء والمعارف من ميسوري الحال، « ما كانصرفوا حتى ريال..كل شي يتعاون فيه الأصدقاء وأصحاب الخير .. ينتظرون أي طلب خاص بالمسجد ليبادروا في سبيل الله، أصدقاء وأصحاب شركات ومقاولون».. يعطي المسجد دليلا قاطعا على دور الطاقم المسير في تحسين وضعية المساجد والعناية بمرافقه، فالمسجد النموذجي بالرباط لا تقف وراءه جهة رسمية ولا شخصية ثرية توفر له حاجياته، إنما السر في تجند مجموعة يسكنها هاجس التنظيم والمؤسساتية والمسؤولية، لجنة تعرف قيمة المسجد ودوره؛ وحقه كذلك في أن يكون فضاء محترما ومجهزا ويستحق عناية مستمرة.. وهو ما يمكن اكتشافه بسهولة في مسجد كمسجد التازي بوسط الرباط. مؤسسة تستحق وسام تكريم يتوفر مسجد التازي على المرافق نفسها التي تتوفر عليها كل بيوت الله عادة؛ إلا أنها في مسجد التازي تلاقي عناية استثنائية تفتقر إليها العديد من المساجد التي تتفاقم فيها المزعجات بشكل لا ينتهي. هذا التميز تطور ليجعل من المسجد مؤسسة ثقافية أيضا تقدم خدماتها التأطيرية والدعوية والتوعوية بشكل متواصل طوال السنة. ففي كل مناسبة؛ محاضرات وندوات وأمسيات لا يتردد مؤطروها عن تلبية الدعوة..»لأنهم يجدون الفضاء المناسب والظروف المطلوبة وحسن الإستقبال - يقول الحاج حليم- أطباء ومفكرون وأساتذة ومقرئون.. وبعضهم من خارج المغرب كما هو الأمر حين استضافة بعض الضيوف القادمين من خارج المغرب في إطار الدروس الحسنية» في إحدى تلك المناسبات كان الضيف هو رئيس المجلس العلمي للرباط عبد الله كديرة، واللحظة هي تلك التي سينتبه فيها الرئيس إلى حسن التنظيم والتسيير بالمسجد ونظافة مرافقه، لتنبع فكرة الإشادة والتكريم «وجدناه بكل صراحة؛ بفضل مجموعة من الناس من بينهم الحاج حليم؛ يراعون المسجد كما يراعون أعز شيء يملكون. وجدناه نظيفا ومتميزا؛ فقررنا تقديم ميدالية بالشكل التقليدي وتعليقها في المسجد إشارة على أنه مسجد يمتاز بالنظافة وحسن التسيير..» بهذا يصرح لنا رئيس المجلس العلمي الذي وجه من خلال الوسام رسائل لأطراف كثيرة؛ فهو « اعتراف بمسجد التازي وتقدير للقائمين عليه ..وأيضا تحفيز للمساجد الأخرى حتى تكون أيضا نظيفة، ولروادها كي يحترموا آداب المسجد، وللمشرفين على المسجد الذين جعلوا منه مؤسسة تشع على ما حولها ومن حولها من حيث إصلاح ذات البين والنظافة وإقامة الندوات والمحاضرات إلى غير ذلك ..» كما يقول الرئيس. لمسات جمالية وموقع إليكتروني «الهدوء..والراحة» هما الكلمتان اللتان لا تسمعهما عند دخول المسجد؛ بل تستشعرهما حقيقة.. فكل ما فيه مصمم لهذا الغرض.. بدءا بقائمة الممنوعات المعلقة على المدخل التي تمنع كل مسببات الإزعاج كالتسول أو نشر المنشورات أو إدخال الدراجات والعربات.. إلى سجاده الأحمر النظيف إلى جودة مرافقه وجمالية مخبره.. تلك الأشياء التي تكرهها في المساجد: صفحة الغبار على السجاد التي تؤذي الجباه، الرائحة التي تخنق الأنفاس عند السجود، العشوائية والترقيعية في تأثيث المسجد، الأفرشة القديمة والمهترئة في مساجد أخرى، الجو الكئيب الذي يخيم على بعضها، الضجيج والجلبة وصراخ الباعة في الخارج.. كل ذلك ينسى تماما في مسجد التازي، بل أكثر من ذلك؛ تحتفظ العين بلمسة من الأناقة والجمال الظاهر للعيان، فكل شيء في المسجد قابل لأن يكون محل جمالية وإتقان؛ حتى يومية المسجد !.. يمكن أن تجد اليومية في مساجد أخرى معلقة في مسمار دون كبير عناء.. أما في مسجد التازي؛ فيوضع لها إطار خشبي مزخرف بنقش مغربي أصيل، وتُعَلق لتعطي جمالية إلى الأشياء الأخرى من حولها. وعلى اليسار مكتبة المسجد تبدو كتبها المصففة بعناية من خلف بابها الزجاجي؛ وعلى جنبها لائحة ملونة تضم قائمة مبوبة للكتب التي تحتوي عليها المكتبة؛ حيث يمكن للمصلي مطالعة كتب في الحديث والتفسير أو الفقه والأصول أو السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي أو الفتاوى والقضايا المعاصرة.. العناية بالمصلي، تحوز اهتمام القائمين على المسجد لدرجة بلغت وضع لوحات إرشادية تثير الانتباه؛ من قبيل « مكان مخصص للبس الأحذية، هنا الماء الدافئ، احذر الاصطدام بالحائط، مكتبة المسجد، تاريخ اليوم الهجري..». عناية لا تنصب فقط على الحاجيات المعتادة للمسجد؛ بل يجتهد القائمون في تطوير الأداء وإضافة خدمات أخرى جديدة، الأمر الذي جعل مسجد «التازي» أول مسجد (من نوعه) في المغرب ينشئ موقعا الكترونيا على الشبكة العنكبويتة، من تصميم أحد المعلوماتيين من أعضاء اللجنة، والغاية منه كما يصرح القائمون عليه؛ التواصل مع الرواد ونشر أخبار المسجد وأنشطته المقبلة، وتمكين الناس من متابعة الأنشطة والمحاضرات التي ستدرج على الموقع. هذا ما يقوله الناس الحالة المتقدمة التي أصبح عليها مسجد «التازي»، والجهود المبذولة في ذلك؛ جعلت المسجد يستقطب عددا مهما من المصلين سواء في الصلوات الخمس أو في خطبة الجمعة أو للاستفادة من الدروس والمحاضرات المقدمة فيه، أو استقطاب أنشطة أخرى مثل دروس وتداريب المقبلين على الحج؛ التي اختار المجلس العلمي تنظيمها بالمسجد، ولم يبخل عليها القائمون على المسجد بتوفير مجسمات مساعدة (مجسم للكعبة، مقام ابراهيم..) على الطراز الأنيق لمسجد «التازي». أما يوم الجمعة فتفرش الزرابي الجديدة وتشاع العطور ويتهيأ الكل للخطبة التي تتعبأ فيها الصفوف خارج المسجد على امتداد الشارع.. خطيب الجمعة على نفس المقياس «كايجيب دائما الجديد..وكانحسوا به كايقول اللي خصوا يتقال في اللحظة»، يقول عبد الدايم؛ الذي لا يحتاج يوم الجمعة إلى الذهاب بعيدا بحثا عن مسجد أحسن، فمسجد حيه يحقق ما يريد، ويشبع حاجته للراحة والنظافة والاستفادة من خطبة وافية وشافية. هذا ما يقوله الناس عن مسجد الحي الذي أصبح أيضا المسجد المفضل لسكان أحياء مجاورة، أحدهم التقيناه بعد الصلاة، قاصدا بيته الذي ليس بالقريب من مسجد التازي، «الجامع قريب لداري.. ولكن كانفضل نجي لهنا.. هنا كل شي متوفر..خاصة النظافة..كل شي مزيان..هكذا المسجد خصو يكون» بقليل من الرضى يتحدث القائمون على المسجد عن الأثر الذي يلمسونه من حال الناس ومقالهم، يتحدثون عن الإقبال المتزايد حتى في صلاة الفجر، ناهيك عن خطبة الجمعة والأنشطة المستمرة.. كما يتحرج بعضهم في الحديث عن أدوار اللجنة ومجهوداتها خوفا من حظ النفس. نتمنى لهم الإخلاص في القول والعمل، ونودعهم في رعاية الله وحفظه، ونودع مسجدا ليس الوحيد الذي يستقبل المصلين بحسن النظافة والتنظيم، وإنما هو نموذج فقط لمساجد يتزايد عددها يوما عن يوم، وليس آخرها كذلك مسجد «للاعائشة» بالرباط والذي حصل أيضا على نفس وسام التكريم بعد «التازي».