منذ اندلاع الربيع العربي إلى اليوم، قدمت تحليلات كثيرة حول أثر التحولات التي عرفتها المنطقة العربية على قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وجنح بعضها إلى التقليل من أثر هذه التحولات، واستبعاد إمكانية حدوث أي تحول استراتيجي في إدارة هذا الملف، وزادت حماسة هذه التحليلات مع الأزمة السورية التي أحدثت هوة كبيرة بين المحاور التقليدية التي كانت تتجاذب هذا الملف – المحور المصري السعودي، والمحور الإيراني السوري – وذلك بدخول تركيا على الخط، وتجسير علاقاتها السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية مع العالم العربي، وشكل الضغط الأمريكي على الكيان الصهيوني ل»ضبط النفس» والامتناع عن أي حماقة صهيونية، مانعا من بروز أي مؤشرات تثبت أثر التحولات التي مست دول الربيع العربي على قضية الصراع العربي الإسرائيلي. بيد أن العدوان الإسرائيلي على غزة كسر كل هذه الأطروحات، وأتاح الفرصة للوقوف على معالم تحول استراتيجي يتبلور في المنطقة العربية، بشكل يقطع مع المنهجية القديمة في التعامل مع هذا الملف، كما يتجاوز الاصطفافات التقليدية التي رهنت القضية الفلسطينية مدة طويلة من الزمن دون أن يعود ذلك عليها بمكاسب تذكر. - أول مؤشرات هذا التحول، هو الاتفاق الذي حصل في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بمقر الجامعة العربية بالقاهرة، على ضرورة إعادة تقييم شامل لمسار التسوية و»إعادة النظر في جميع المبادرات العربية السابقة الخاصة بعملية السلام. ومما يؤكد هذا التحول، أنه تم الاستعاضة عن مسلسل التسوية واتفاقات السلام بطرح فكرة هدنة طويلة الأمد بين الكيان الصهيوني والفصائل الفلسطينية قاعدتها الأساسية وجود ضمانات دولية بهذا الخصوص - ثاني هذه المؤشرات، هو الاتفاق في نفس الاجتماع على ضرورة صياغة موقف عربي موحد والتحرك الفوري للرد على العدوان، والتحرك العملي من أجل كسر الحصار وعدم المشاركة في تفعيله، والضغط على المنتظم الدولي من أجل رفعه، والتحرك الإنساني العاجل لدعم شعب غزة في محنته. وقد برز ذلك من خلال الدينامية العربية الجديدة، إذ لأول مرة يتحرك الدعم السياسي العربي اتجاه غزة بهذه الوتيرة، بعد أن كان الحصار وعقدة « أطروحة السلام» تعيق أي إرادة عربية رسمية تترجمه، وفي هذا السياق نشير إلى زيارة رئيس الوزراء المصري وكذا وزير الخارجية التونسي، والتقرير لأول مرة في زيارة رسمية لوفد عربي مشترك إلى قطاع غزة. - ويرتبط المؤشر الثالث بتغير الرؤية الناظمة للحوار الفلسطيني الفلسطيني تبعا للتغير الذي حصل في الوضع العربي، وذلك، من التحكم في ورقته لحسابات استراتيجية مرهونة بخدمة أجندات محور معين، إلى جعله أداة لتمنيع الموقف الفلسطيني وتحصين وحدته الوطنية ضدا على المناورات الإسرائيلية. - أما المؤشر الرابع، فيتمثل في السياق الذي يتم فيه صياغة الموقف العربي، إذ يصاغ في سياق إقليمي، تغيرت فيه المحاور التقليدية، أو على الأقل حدثت تغيرات نوعية فيها، والأرجح أنه يعبر عن ملامح تبلور رؤى جديدة في التعامل مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ليست تماما هي رؤية المحور الإيراني السوري، ولا المحور المصري السعودي التقليدي، ولكنها رؤية يرجح أن تكون رهاناتها مستقلة عن الرهانات الدولية وعن الاصطفافات التقليدية. ومع أن هذه المؤشرات دالة في حدوث تحول استراتيجي في المنطقة، إلا أن الرهان كاملا لا ينبغي أن يظل مرتبطا بالحكومات، فقضية فلسطين، وكسر الحصار على غزة، وردع الكيان الصهيوني عن ارتكاب المجازر في حق الشعب الفلسطيني، تتطلب حراكا شعبيا مطردا، لإعادة القضية إلى ضمير هذه الأمة بعد أن تم الانشغال عنها طويلا بالتطورات الداخلية التي تعيشها كل دولة على حدة، كما تتطلب أن تتنوع الاستراتيجيات وتتكامل، بحيث تكون المبادرة الشعبية سندا قويا لهذا التحول الاستراتيجي، ومكملا لجوانب النقص في المبادرات العربية، والتي قد تمليها إكراهات التناقضات الإقليمية والدولية واعتبارات معادلة التوازن الاستراتيجي في المنطقة. المطلوب من المبادرة الشعبية أيضا أن تغير استراتيجيتها التقليدية، وأن تجتهد في إبداع آليات جديدة في الدعم والمقاومة عبر التحول من ثقافة الاحتجاج إلى منطق التحرك الفاعل، باستثمار كل الآليات الشعبية والحقوقية والإنسانية والإعلامية، وإحداث نقلة في الحراك المقاوم، وذلك من حركة الشعوب العربية إلى حركة المجتمع الإنساني لمحاصرة الكيان الصهيوني وإدانته عالميا.