لم تعد سياسة التعتيم عن الحقائق ممكنة اليوم، كما لم يعد متصورا أن تستمر السياسات البائدة في تدبير المؤسسات السجنية، فبعد تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية الذي رسم صورة جد قاتمة عن أوضاع السجون في المغرب، جاء التقرير الموضوعاتي الذي عرضه المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الندوة الصحفية التي نظمها بالرباط الثلاثاء الماضي، ليؤكد نفس الصورة، ويسجل استمرار سياسة سوء المعاملة والانتهاكات البليغة لحقوق السجين واستمرار استخدام التعذيب بألوان مختلفة وانتهاك بعض موظفي السجون للقوانين المنظمة للمؤسسة السجنية والصكوك الدولية ذات الصلة، هذا فضلا عن تسجيله لاستمرار ظاهرة الاكتظاظ والتجارة في الممنوعات، ووقف التقرير أيضا على وجود أماكن لتعذيب السجناء في بعض المؤسسات السجنية والتعسف في استعمال الترحيل الإداري كوسيلة للتأديب في مواجهة المعتقلين. نحن اليوم أمام تقريرين رسميين، الأول صادر عن لجنة برلمانية، والثاني عن مؤسسة رسمية تعنى بحماية حقوق المواطنين وحرياتهم وترجمة التزامات المغرب الدولية بهذا الخصوص، وهما معا، يرسمان نفس الصورة، هذا دون أن يصدر عن المندوبية السامية للسجون وإعادة الإدماج أي نفي أو تكذيب أو مجرد اعتراض عن بعض ما ورد في هذين التقريرين. بين تاريخ صدور التقرير الأول والثاني، ركز خطاب المندوبية السامية للسجون وإعادة الإدماج على محورين اثنين، يرتبط الأول بالجهود التي تبذلها الإدارة لإصلاح وترميم البنايات السجنية وتشييد أخرى للتقليص من ظاهرة الاكتظاظ، وارتبط الثاني بتوعد المدراء الجهويين والمحليين للمؤسسات السجنية بالملاحقة القضائية في حال ثبوت ضلوعهم في أي من الاختلالات أو الانتهاكات التي تقع داخل المؤسسة السجينة. لكن، باستثناء مجهودات انصرفت إلى إدخال إصلاحات محدودة على البنيات والتجهيزات، استمرت نفس السياسة الأمنية داخل السجون، وأنتجت نفس الممارسات التي تسيء إلى سمعة المغرب الحقوقية لاسيما ما يرتبط بممارسة التعذيب واستعمال الوسائل المهينة لكرامة الإنسان، هذا في ظل غياب كامل لأي مقاربة إدماجية في التعاطي مع الخدمات وبرامج التربية والتكوين. معنى ذلك، أن التهديد الذي توعد به السيد المندوب السامي حفيظ بنهاشم المسؤولين عن المؤسسات السجنية، والقرارات التي أصدرها في حق بعض المتورطين، لم تكن ذات أثر يذكر، وأن الفساد الذي تعيشه المؤسسات السجينة، هو أكبر من أن تقضي عليه مجرد قرارات تأديبية، إذ أن تحقيق المساواة في التعامل مع السجناء والسجينات وعدم التمييز بينهم، والتوقف عن استعمال العنف ضدهم، والامتناع عن استعمال وسائل الضغط والتعذيب، واحترام مسطرة تقديم الشكايات والتظلمات بسبب سوء المعاملة أو التعذيب التي يتقدم بها المعتقلون، ومحاربة كل الممارسات غير السليمة من ابتزاز ورشوة وتهديد، والتي يعاني منها السجناء والسجينات مقابل الاستفادة من الحقوق التي أقرها لهم القانون، وكذا تسهيل ولوج جمعيات المجتمع المدني إلى المؤسسة السجنية وتوسيع الشراكة معهم، والإسهام في تأهيل القدرات البشرية المشرفة بشكل مباشر على تسيير المؤسسات السجنية، وغيرها من التوصيات التي أوصى بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وسبق تقرير اللجنة البرلمانية أن أكد عليها أو على بعضها، كل هذه التوصيات، لا يمكن أن يكون لها أي معنى ما لم تنخرط المؤسسة السجنية بشكل عميق في مسار الإصلاح وتقطع مع العقلية الأمنية التي تدير بها السجون. لقد أثبتت المعطيات الرقمية التي توفرها وزارة العدل أن ظاهرة العود إلى الجريمة في استمرار جد مطرد، كما تواضعت آراء العديد من المحللين على أن السبب في ذلك يعود إلى غياب البعد التأهيلي الإدماجي داخل المؤسسة السجنية، واليوم، وطبقا للتقارير المتوفرة عن السجون، يتأكد بالملموس أن سياسة التعذيب والانتقام من السجناء وهدر كرامتهم ومقابلة حصولهم على حقوقيهم القانونية بألوان من الممارسات الفاسدة، لا يضر فقط بسمعة المغرب الحقوقية في الداخل والخارج، ولكنه يوسع دائرة الإجرام، ويولد جيشا من المجرمين الذين لا يمكن أن نتصور إلى أي حد يمكن أن يذهب بهم إجرامهم. المطلوب اليوم من كافة المتدخلين المعنيين بإصلاح أوضاع السجون وحماية حقوق الإنسان وفي مقدمتهم رئاسة الحكومة، وكذا المدافعين عن المقاربة الاندماجية الشاملة من مكونات المجتمع المدني، أن تتحرك بشكل عاجل لإيقاف هذا النزيف وتغيير الصورة القاتمة عن وضعية السجون في المغرب، والمساهمة في إعادة الوظيفة التأهيلية والإدماجية للسجون.