الإنسان مهما بلغ قدره وعلا شأنه لابد أن تشوب أعماله شوائب، ومن تم فهو محتاج إلى النصيحة من أخيه المسلم لأجل تقويم اعوجاجه وتسديد خطاه، والنصيحة مبثوته أدلتها في ثنايا القرآن الكريم والسنة النبوي الشريفة إلا أنه لابد للفرد أن يعرف متى وكيف يقدم هذه النصيحة كما عليه أن يعرف آدابها. الحاجة إذن إلى نصيحة تنبع من قلب مليء بالرحمة والشفقة وحسن القصد، لا عن خيانة وغش واستطالة وترفع عن الناس. فما هو مفهوم النصيحة وما السبيل لإتيانها على أصوب وجه؟ مفهوم النصيحة قال ميمون بريسول رئيس المجلس العلمي الإقليمي للناظور في حديث ل "التجديد": "الحديث عن النصيحة هو حديث عن أهم مقومات هذه الأمة، إذ أن من الخصائص التي تميز المسلم عن غيره النصيحة. وليست النصيحة بمفهومنا المعاصر إلا عملية نقد ومراجعة وتصويب وبيان مواطن الخلل، وهذه كلها أسماء لمسمى واحد". وأضاف بريسول أن "ممارسة النصيحة بشروطها هو سبيل حماية الأمة وحراستها واستمرارها، لذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة هي الدين لأن غيابها وتعطيلها يعد إحدى الإصابات الحضارية التي تحاصر الأمة وتبطئ فاعليتها وتقعدها عن الاضطلاع بمهامها الرسالية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم "الدين النصيحة، قنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، فإذا توقفت المناصحة وعطلت النصيحة وحصرت في قوالب معينة فتحت على الناس أعطاب الغيبة والغم ومن ثم السقوط في كل الأمراض الحالقة التي تحلق الدين. هذه هي النصيحة وغايتها وأهدافها غير أننا نريد نصيحة تكون مبنية على علم وفقه، وذلك يتوقف على باب من شروطها وصدق الله العظيم عندما يقول في سورة يوسف الآية 108: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني" لذلك من آداب النصيحة استحضار نية العبادة، وتكون النصيحة لله وفي سبيل مرضاته، يمارسها المسلم كواجب رسالي دون رياء ولا سمعة ليقال عنه ناصح أمين، ولا من أجل إصابة دنيا أو امرأة ينكحها كما جاء في حديث "إنما الأعمال بالنيات". وشدد بريسول على أهمية النصيحة في حياة الأمة وقال: "وأما موضوع النصيحة فلا يمكن أن يكون إلا واقع الأمة الذي يجب أن تنصب عليه وعلى مشكلاتها لأن قيم الدين جاءت لإصلاح الدنيا ومعالجة مشكلاتها ورفع معاناتها واسترداد إنسانيتها والمحافظة على إنسانية الإنسان وتحقيق كرامته ومنحه الحرية والمساواة المتولدة من قصر العبودية لله الواحد وإلغاء تسلط الإنسان على الإنسان. أما الانسحاب من المجتمع والتملص من معالجة مشكلاته بحجج واهية فإن صاحبه يعيش غربة ويقيم حواجز بينه وبين الناس". ضرورة الإخلاص شدد ميمون بريسول على أهمية الإخلاص لله في النصيحة وقال بهذا الصدد: "الإخلاص في النصيحة يعلمنا أن النصيحة مسؤولية جماعية ومسؤولية فردية لذلك يقول الله تعالى في سورة آل عمران: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، فالمسؤولية تقوم على الفرد والمجموع ولذلك فإن ترك النصيحة لا محالة معصية ومدعاة لوقوع الكوارث والعذاب الجماعي، ويقول الله تعالى في سورة الأنفال: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي: "إن الناس رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللع بعقاب". ولا يرى الإسلام عذرا للقاعدين عن النقد والمناصحة والحسبة، وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الصحيح الذي رواه الترمذي: "فلا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه" فالخيرية التي توصف بها هذه الأمة والعطاء وحمل الرحمة وتقويم الاعوجاج وتحقيق العصمة فيه بناء خيرية الأمة وإنقاذها من كبوات مرهون باستمرار النقد والنصيحة أو ما نسميه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. آداب النصيحة للنصيحة آداب يجب التحلي بها حتى تؤدي دورها المنوط بها كأن لا يقصد بالنصيحة التشهير بالمنصوح، فإن التشهير أدعى لرد النصيحة، بل يكون الأمر في السر، ومن ذلك بيتا الشافعي المشهوران: تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعه فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه ومن الآداب أيضًا في النصيحة أن تكون بلطف وأدب ورفق، فإن هذا مما يزين النصيحة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم. وقال بريسول في حديثه ل "التجديد": "ومن آداب النصيحة مراعاة الظروف الزمانية والمكانية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والأدبية وغيرها وتطوير أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسائل الرقابة العامة في المجالات كلها. وتبقى قاعدة "لكل مقام مقال" و"المناسبة شرط" و "ما بال أقوام" و"خاطِبوا الناس على قدر عقولهم" وقاعدة "ليست البلاغة إلا مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، تبقى هذه القواعد آليات وأدوات ناجعة في إشاعة ثقافة النقد والمناصحة وبناء العقلية الناقدة وتربية الروح المبصرة وصناعة القابلية والتأهيل لقبول المراجعة والنقد". ويبقى أن نقول إن النصيحة لا يمكن أن تمارس إلا بخطاب الحوار وحسن المناقشة المجادلة التي تعد أكبر كسب للمسلمين عكس خطاب المواجهة والعنف الذي لا يأتي بخير ويقول الله عز وجل في سورة النحل: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". وقال بعض السلف: إن النصيحة علانية وتبيين معاصي العباد، إنه نوع من الهوان على الإسلام وأهله. فليحذر المسلم أن ينشر معائب المسلمين، ويتحدث عن أخطائهم علانية، فلا يقبلوا منه نصيحةً إن نصح، ولا يقبلوا منه توجيها إن وجَّه؛ لأنهم يعلمون أنه يتاجر بتلك النصيحة، يريد بها مكانة لنفسه وعزاً لنفسه، وهو لا يدري أنه بذلك أسخط ربه، لأن الناصح الهادف من نصيحته يتلمَّس الخير ويبحث عن الطرق التي يوصل بها النصح لكي يستفيد ويفيد. همُّه إصلاح المسلمين، لا همُّه مصلحته الذاتية، ولا يتخذ من النصيحة وسيلة لتجريح الناس وعيبهم، والسعي بالنميمة فيما بينهم، فيفرق أخوَّتهم، أو يحدث النزاع بينهم، إنما يهدف من نصيحته التوفيق والإصلاح: ((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (هود:88) هكذا يقول شعيب عليه السلام، ونوح يقول لقومه: ((وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ)) (هود:34)، لأنه أدام النصحَ لهم، أخبر الله عنه أنه دعا قومه لله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، كل ذلك حرص على هدايتهم، وحرص على صلاح قلوبهم، والأمر بيد الله.