بعد أن تحولت «دار الحاجة» إلى جمعية جنات لإيواء مرضى السرطان، أصبح العمل الذي تقوم به الحاجة خديجة لأول مرة في إطار من الوضوح يتجلى في السند المدني الذي يتيحه الاشتغال في جمعية .. وكان من أبرز ما حصل إبان التحول إلى جمعية لها رخصة ومعرفة باشتغالها في صفوف النساء اللواتي يعانين مع داء السرطان، أن جنب الحاجة كثرة الاستفسارات وتعقد الإجراءات التي يصطدم بها سيد المنزل عادة في حال توفي شخص غريب في منزله.. ومن حسن حظ خديجة، أن حادثا لم تكن تتوقعه أبدا طيلة أربع سنوات منذ أن جعلت منزلها «وقفا» في سبيل الله وقع في منزلها، بعد أن حصلت على الوصل القانوني للجمعية، إذ توفيت مريضة فجأة أمام صديقاتها المريضات الذين يجاورنها في المبيت.. وما حصل شكل صدمة كبيرة للحاجة، إذ لم يخطر على بالها إطلاقا أنه سيحصل «حادث» من هذا النوع في «الدار» التي فتحتها في وجه كل مريض. استيقظت ذلك اليوم باكرا كعادتها، وشرعت في الإشراف على إعداد الفطور لضيوفها، قبل أن يغادرن في اتجاه مستشفى مولاي عبد الله لإجراء التحاليل الطبية و تلقي العلاجات المطلوبة وزيارة الطبيب.. لتبدأ مسلسلا طويلا شبه يومي يتمثل في إعداد وجبة الغذاء وما يرافق ذلك من بحث عن النقود الكافية للتسوق وتوفير الطعام اللازم. في الزوال، بدأت النساء تعدن إلى «الدار» أو بالأحرى إلى مقر الجمعية تباعا، دون أن يشعر أي منهن أن ساعتين فقط تفصل عن فراقهن زميلة عاشرتهن في «الدار» ليلة واحدة؛ فلا أحد يعلم أجله يعلمه فقط رب العالمين.. تناولن وجبة الغذاء وخلد البعض إلى الراحة والبعض الآخر تحولق وبدأ يتبادل أطراف الكلام.. كان من بين هؤلاء النسوة سيدة يناهز عمرها الستين سنة.. تحكي إحدى المريضات، أن السيدة التي ستلقى ربها في ذلك اليوم مازحتها دقائق معدودة قبل أن تسلم الروح إلى بارئها، وتؤكد أنه لم يظهر عليها أثر التعب ولم تكن ملامحها تنذر بوقوع شيء جلل، إلا بعد أن استلقت على الأرض وبدأت تنظر في اتجاه الأعلى استمرت لحظات فقط قبل أن تغادر الحياة الفانية.. تحولقت النساء أمام المرأة الأولى التي توفيت في «دار» الحاجة، قبل أن يتم إنزالهن جميعا من الطابق الثالث حيث يبتن، وقد امتزجت لدى كل واحدة منهن مشاعر الحزن بالخوف من المصير نفسه. أما الحاجة فقد أصيبت بذعر شديد، إذ اصفر لونها وشحب وجهها وشرعت تنظر النظرة التائهة، وخرس لسانها ولم يقوى عن الكلام، ليس لأنها تخشى من الموت، فقد عاشت لحظة مفارقة أمها وأبيها وزوجها وأختها للحياة وكلهم بعد إصابتهم بمرض السرطان، وإنما لعجزها عن طرد الأفكار التي راودتها « هل تعلم السلطات المحلية والأمن؟ ماذا ستقول لعائلة المريضة؟». لكنها استطاعت أن تقوى وتتصل بعبد الفتاح الزوين المصور الصحفي بالقناة الأولى الذي تطوع لمساعدة الحاجة في تسيير المشروع ويشغل مهمة نائب لها منذ الإعلان عن ميلاد الجمعية.. قام عبد الفتاح (الأب والأخ كما تطلق عليه المريضات) بإشعار قائد المنطقة والباشا ورئيس المنطقة الإقليمية لأمن يعقوب المنصور، فحضر ممثلو السلطة المحلية والأمن والطبيب للقيام بالإجراءات، غير أن خديجة ظلت خائفة مما سيحصل ولم تقو على تجاوز واقع الصدمة التي أصبتها رغم تطمينات رجال السلطة بأن لا شيء سيحصل وأنهم يقومون بإجراءات عادية.. هذه قصة وفاة أول مريضة أسابيع بعد ميلاد الجمعية، وفاة أثرت بعض الشيء على زميلاتها أياما، رغم أن عبد الفتاح طلب منهن جميعا مغادرة الطابق الثالث حيث توفيت، ومنعهم من تكرار رؤيتها، فقد شعر بعضهن أن مصيرهن لن يكون غير ما شاهدنه بأم عينهن. كما أن الوفاة نزلت كالصاعقة على الحاجة خديجة، فقد تاهت كثيرا أمام زخم الأفكار التي راودتها، والخوف من أن يتسبب الحادث في إنهاء مشروعها.. قبل أن تكتشف أن القدر أخذ مريضة وأن «الدار» ستبقى لؤلؤة وسط مدينة الرباط لاستقبال كل من تعاني من ألم مرض عضال الحلقة القادمة: بداية قصة «السيارة» التي تنقل المرضى