بمناسبة قدوم الضيف الكريم، وحلول الموسم العظيم، وهطول الخير العميم، سنحت لي من سوانح الفكر سانحة، ولمعت لي من لوامع الذكر لامعة، وبرقت لي من بوارق العلم بارقة، ولاحت لي من لوائح الفهم لائحة ، لتجود القريحة بهذه المقالة على شكل يشبه المقامة، وإن لم تكن لي بفن المقامات كثير خبرة، ولا بأصولها عميق فكرة، ولكن أردنا من خلالها الذكرى والعبرة، حتى نرمي بها من على أنفسنا كل أثواب التقصير، ونكسوها بكل أثواب التشمير، وننجح في التطبيق العملي لمنهج الإفراغ والتعمير، وندخل ميدان المنافسة والسباق مع قوافل الصائمين ونحن نرفع أصوات التكبير، فعبّرنا عن كل هذه المشاعر بشيء من بليغ التعبير: إن ترك العبد العنان في شهر رمضان لإطلاق اللحظات، وانحطاط الخطرات، وانفلات اللفظات، وانحدار الخطوات، واشتعال الشهوات، واشتغال الشبهات، وتراكم الغفلات، وارتكاب المحظورات، وتحكّم العادات، ومعه أيضا يستمر في انتكاس العزمات، وإرتكاس الإرادات، وتضييع العبادات، وانحباس العبرات. يفعل كل ذلك من غير وازع ولا رادع، ومن دون مراعاة لخصوص الشهر، ولا لنصوص الزجر، ولا للصوص الأجر، ولا لنكوص العمر. فيحرق بذلك حصائد الصلاح، وينحت من رصيد الكفاح، ويمنع تحليق الجناح في مراتب النجاح ومعارج الفلاح، ثم يجعل حصيلة سيره إلى الله في رمشة عين هشيما تذروه الرياح . فيكون عندها قد فوّت على نفسه اغتنام الفرصة، وتركها تموج في رحى المحنة، وحرمها من اقتناص المنحة : ((ليكن ويحه بصره من النظر إلى المحارم معدولا، وسمعه عن سماع القبيح من القول معزولا ، وبطنه من أكل الحرام محمولا، وقلبه بالفكرة في الحسنات والمعاد مشغولا، وذكر مولاه وسيده في لسانه مجعولا، وماله في طاعة العزيز الجبار مبذولا :}إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا{(الإسراء 36)، وقد أعلمه مولاه أن الشيطان كان للإنسان خذولا، فلم خان عهد مولاه وأمانته وكان لنفسه ظلوما جهولا)).(1) في شهر فتح فيه المولى عز وجل لعباده أبواب الجنات، وفيوض الرحمات، وكنوز القربات، وخزائن الحسنات، ولطائف النفحات، فانشرحت بتزكيته نفوسهم، واستنارت بأنواره قلوبهم، والتزمت بأوامره ونواهيه جوارحهم، وارتقت في شفافية العبودية أرواحهم، وارتفعت بأوجه الضراعة أكفهم، وانطلقت بسكب العطر الحلال مآقيهم، فساروا مع الحادي وهو يحدو وينادي :((يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي. يا شموس التقوى والإيمان اطلعي. يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي. يا قلوب الصائمين اخشعي. يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك وأركعي. يا عيون المتهجدين لا تهجعي. يا ذنوب التائبين لا ترجعي. يا أرض الهوى ابلعي ماءك. ويا سماء النفوس اقلعي. يا بروق الأشواق للعشاق المعي. يا خواطر العارفين ارتعي. يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي)).(2) فضاعف لهم في لياليه العطاء، وفيها وفي أيامه السخاء، وفي أجوائه الرخاء، وفي روحانيته الصفاء، وفي طاعاته النماء. فنوّع لهم أفضاله، وأجزل لهم آلاءه وأنواله، فرغبهم في نيل ذلك في جميع الميادين، وساعدهم على ذلك بأن صفد لهم الشياطين، ليقبلوا عليه سبحانه إقبال المشتاقين، لا إقبال الآبقين، فلا يتركون بابا للخير إلا طرقوه، ولا مسلكا للبرّ إلا سلكوه، فاتخذوا فيه العمل الصالح أتقن صناعة ، والتقوى أربح بضاعة، وطلّقوا فيه طلاقا بائنا معسكر التفريط والإضاعة. فأكرمهم ربهم بأن جعل لهم فيه كل خطوة إلى الخير زيادة، وكل تخلّي عن عادة سيئة ريادة، وكل لحظة ندم على ما فات سيادة، وأثبت لهم كل ذلك في صفحات العبادة. فنزع من طريقهم كل عائق، وأنزلهم فيه كل منزل لائق، وموضع رائق، ويسّر عليهم كل عمل للآثام ماحق، وإلى الجنة سائق، ومن النار عاتق، وضمن به رضاه لكل محب صادق. فالذنب فيه مغفور، والسعي فيه مشكور، وهو بالخيرات معمور، والوزر فيه مهجور، والشيطان فيه مدحور ومقهور. لأن الصوم في الشريعة :(( ليس صوم جماعة عن الطعام ... وإنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام ... وصمت اللسان عن فضول الكلام ... وغض العين عن النظر إلى الحرام .... وكف الكف عن أخذ الخطام ... ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام)).(3) فيا سعد من بنفحات هذا الشهر قد تحقق، وإلى مولاه قد تملّق، وفي حبّه قد تعمّق، ولسلّم قربه قد تسلّق، وبمناجاته قد تأنق، ولملاقاته قد تشوّق، ولما يحب ويرضى قد تخلّق. فكان في أوله من المرحومين، وفي أوسطه من المقبولين، وفي آخره من المعتوقين، ولليلة القدر من القائمين، وفي صبيحة يوم العيد من الفائزين، وفيما بعده من الأيام على طاعته من الثابتين، وإلى رمضان القادم من المستعدّين، ولبلوغه من الداعين المخلصين. فأنت على مشارف البداية، في افتتاح مواسم الهداية، وتوفر أجواء الحماية والعناية والرعاية: حدد موقعك ومصيرك، واختر مكانك ورفيقك، وأجب بصراحة عن سؤالنا منذ الانطلاق : هل أنت من أهل الغفلة والبعد وحرمان الوصول فنعزيك، أم من أهل التوبة والقرب وضمان القبول فنهنيك ؟؟؟ ((فقد جعل الله عز وجل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون)).(4) ولنا وإياكم في مسك الختام، دعاء خير الأنام عليه الصلاة والسلام :(اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)(رواه مسلم).