تختلف محطات الزيارة وتختلف وجهات الزائرات ولكنها تلتقي كلها حول قاسم مشترك، البحث عن الولد الذي طال انتظاره، أو البحث عن طرق وأساليب تطويع الزوج المتمرد، أو الجري وراء علاج لمرض وهمي لا وجود له إلا في مخيلة هؤلاء النساء، ضعف الطالب والمطلوب، ولو كان الخوخ يداوي كون داوى راسو، معاينات وشهادات لطقوس زيارة، لولي أو لضريح، تنفق في سبيلها أموال طائلة، بغية تحقيق حلم شارد أو وعد زائف...تتوقف سيارة سوداء اللون، صفائحها صفراء تحمل أرقاما وحروفا لاتينية، تهبط سيدة تبدو في الأربعين من عمرها، شعر منفوش وجسم منقوش ونظارات سوداء تغطي عينيها حتى الحاجبين، تتمهل قبل أن تدفع الباب، في الوقت التي تلفظ فيه السيارة ثلاث فتيات وامرأة تكبر الأولى بكثير، فتيات في سن الزهور يرتدين سراويل من الدجين، وأقمصة ذات ألوان زاهية، لا تغطي شيئا من أجسادهن، حمالات النهود تظهر من تحتها، تكشف عن ألوانها هي الأخرى، شعور متمردة وأحذية عالية تثير نظر واهتمام الجالسين والعابرين بطقطقاتها على إسفلت باحة لالة عائشة البحرية الغاصة بالزوار والسياح، تلك صورة من صور تكاد تكون متشابهة لنساء وفتيات يقبلن على زيارة المكان خلال فترات الصيف، يكاد الغرض أن يكون معروفا سلفا، وتكاد الطقوس لا تختلف إلا قليلا، لوازم الزيارة تتوزع على البخور والمجمر والماء الساخن للاستحمام في الخلوة وترك بعض الملابس الداخلية، درء للعنة العنوسة، والحناء لتسجيل اسم ولقب الحبيب/الزوج المنتظر، والشمع الذي يباع ويشترى ألف مرة...وعلى بعد كيلومترين تقريبا من لالة عائشة البحرية/النهرية، يقبع حوش على تل مهجور، يمين الطريق الشاطئية الرابطة بين آزمور والبيضاء عبر سيدي رحال، يتوسط مقبرة مهجورة هي الأخرى، الحوش مقسم إلى غرفتين بئيستين، يؤثث الأولى حصير بال، ويؤثث الثانية أربعة قبور مطلية بالحناء، جدرانها لا زالت تشهد على مرور العديد من النساء، بدليل تواجد أسماء مزدوجة كحسن /سناء وبشرى /حميد والسعدية/محمد وبشرى بنت عائشة وهشام ولد مليكة، في دلالة إلى الرغبة الأكيدة في الارتباط برباط الزواج، أو الرغبة في استرداد زوج طائش، هجر الفراش إثر أسباب تبقى غير مفهومة، الحوش يحتوي على رفات لالة يطو أم السعود، والتي كانت حسب روايات شفهية راعية للغنم كانت ذات ذكاء خارق، تشير على المتخاصمين وتبث في قضاياهم البسيطة وتحل مشاكل النساء المتعلقة أساسا بالعلاقة الحميمية بين الرجل وزوجته، وذاع صيتها إلى أن وصل إلى الحاكم بمراكش، فأرسل في طلبها، ولكنها أبت واستكبرت، فأرسل من يأتيه بها إن طوعا أو كرها، ولما حلت بمراكش تم وضعها في السجن إلى أن ينظر في أمرها في اليوم الموالي، وكان بالسجن أسد ضار، وكان العسس يظنون أن أمرها قد قضي، إلا أنهم فوجئوا مفاجأة كبيره لما وجدوها تتربع فوق ظهره...لالة يطو هي الأخرى حسب الرواية الشفاهية ترد الرجال المتمردين وتضطر النساء للخضوع لطقوس خاصة في حضرتها، حيث يتم إحضار خرقة مبللة بماء الرجل ويتم لفها بمجموعة من الأعشاب ومزيج من البخور بعد دقها ثم تحرق في فرن سفلي قرب قبر لالة يطو، اعتقادا أن عملية الحرق التي تتم هناك، تحرق قلب الزوج أو العشيق شوقا فيعود إلى عرينه/فراشه وهي إحالة ميتولوجية ترتبط بتطويع لالة يطو للأسد في الأيام الغابرة..ولا ترتبط زيارة الأولياء والأضرحة أو سياحة الوهم كما يسميها البعض، بفئة معينة بل تشمل كل الفئات والأجناس حتى أن أقواما من خارج المغرب ومن جنسيات عربية تأتي لزيارة آزمور أو سيدي مسعود بأولاد افرج أو حتى سيدي عبد العزيز بن يفو بالغربية قرب الواليدية، بل إن زوجة الحاكم الإماراتي السابق، قد بنت مسجدا هناك، وترتبط زيارة الأولياء والأضرحة بالنساء والرجال، الأميين منهم والمثقفون، وتختلف دواعي الزيارة من واحد إلى أخرى، حيث يجملها الدكتور حسن قرنفل في أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية، وتكمن هذه الأخيرة، حسب قوله، في حالة الغموض والقلق المحيطة ببعض الأمراض النفسية أو العقلية أو حتى العضوية مثل الصرع، مما يجعل الأفراد ميالين إلى تصديق كل ما يقال عن القوة العلاجية التي يملكها بعض الأولياء والصالحين ويعتقدون بقوة بأن العلاج الطبي لا يملك حلا لهذه الأمراض خصوصا وأن علاج هذه الأمراض المذكورة، يتطلب فترة زمنية طويلة وانضباطا كبيرا، كما أن بعض الأمراض النفسية غالبا ما تكون أمراض وهمية ناتجة عن وضعيات اجتماعية أو نفسية محبطة تجعل الأفراد يعيشون بشكل لا إرادي وضعية المرض إما من اجل جلب اهتمام الوسط بهم أو من اجل تبرير فشلهم وخيباتهم، وهنا يكون هؤلاء الأشخاص مستعدين للخروج من هذه الحالات المرضية الوهمية بمجرد زياراتهم لهذه الأضرحة...من لالة عائشة البحرية إلى لالة يطو إلى سيدي عبد العزيز بن يفو ومولاي الطاهر وسيدي مسعود بن احساين، تختلف رغبات النساء والزوار، وتدفعهم أوضاعهم ومشاكلهم إلى الخروج للبحث عن الوهم، حيث يعتقد الكثير من هؤلاء أن سيدي مسعود يعيد العقول الطائشة إلى أصحابها فيأتون إليه ليلة السبت ويبيتون هناك، بعد أن يضعون القيد في رجلي المريض، ويخضعونه لطقوس غريبة حيث يمدد ويصرع من طرف أبناء سيدي مسعود ب(البلاغي) ويقدم أهله مقابلا لذلك إما نقدا أو عينا، وعلى بعد أمتار من ضريح سيدي مسعود المسجى بغطاء اخضر،كانت السعدية تبدو في حالة غير طبيعية تلبس قفطانا أخضر شعرها مطلوق ويداها مكبلتان، تتلفظ بكلمات غير مفهومة، يستشف منها أنها توجه وعودا بالويل والثبور لشخص لا يعرفه احد غيرها، تقترب منها والدتها وتحاول تهدئتها دون أن تتوفق في ذلك، وتحكي عن معاناتها، كانت السعدية متزوجة مدة عشر سنوات، وفي شهر من شهور السنة الماضية، توفيت ابنتها بعد حادث سير مفجع ونجت هي منه، ومنذ تلك اللحظة لم تعد السعدية إلى حالتها الطبيعية، تظل السعدية تجوب رحاب سيدي مسعود ويظل أهلها قريبين منها على أمل أن تستعيد هدوءها وتوازنها، وبالخلوة وهي حفرة ذات ثلاثة أمتار، يطل البعض من مغارة في طرفها البعيد، يشير بحركات غير مفهومة...وعلى بعد حوالي تسع كيلومترات جنوب أولاد افرج يتوجه العديد من الزوار إلى مولاي الطاهر دفين القواسم، بغية البحث عن العلاج من الأمراض والأورام الخبيثة، المرض الخايب، كما تقول فاطمة وهي سيدة في الخمسين من عمرها، انتقلت من الرباط صحبة زوجها وابنها وزوجته الشابة، المرض الخايب كناية على السرطان والذي لم يجديها نفعا التردد على الأطباء العامين والخاصين، بساطة هذه السيدة جعلتها تؤمن بأن مولاي الطاهر قادر على علاج ما فشل فيه الأطباء وهو ما أشار إليه الدكتور، حسن قرنفل، في كون فئة عريضة من زوار الأولياء والأضرحة من أصحاب المستوى الاجتماعي والثقافي المدني والذين يلجئون إلى هذا النوع من العلاج الوهمي ويصدقون بسهولة ما يحكى عن نجاعة هذا العلاج الشعبي...يقبل زوار ومرتادو الأولياء والأضرحة عليها بكثرة في فصل الصيف، وخاصة الفكانسيون والذين منهم من أخذ على نفسه وعدا الوفاء بالوعد أو المرفودة كل سنة، وهي سنة يتبعها هؤلاء حيث ينذرون الولي أو الولية بالعودة خلال السنة المقبلة بالمرفودة وقد تكون غطاء أو ذبيحة، مثل دجاجة أو خروف أو في بعض الأحيان تكون المرفودة من الحجم الثقيل(كرفة) أي عجلة، هؤلاء يصعب عليهم ألا يفون بوعدهم، لأن في ذلك جحود ونكران الجميل وبالتالي يخافون ردة الفعل والتي قد تكون أمر وأكبر، وتزدهر تجارة الوهم خاصة وان العديد من مقتنصي الفرص يتربصون بالزوار بل وأصبحوا محترفين في هذا الباب، ويفهمون سبب الزيارة منذ أول كلمة، يحكي بوشعيب الخليفي لنا عند زيارتنا الأخيرة للالة عائشة البحيرة أن مجموعة من الفتيات كن جالسات على الشاطئ يدخن سجائر شقراء ويلبسن ألبسة عصرية مختلفة اقترب منهم شاب بلحية خفيفة وسألهن إن كن يرغبن في ضرب الفال، لم ينزعجن أبدا بل أعربن عن رغبتهن وسألن عن مقابل ذلك، فوجئ بوشعيب عندما سمع المبلغ الذي يصل إلى 300 درهم، انتفضت واحدة من الجماعة وتوجهت إلى السيارة وعادت لتقدم الأتعاب...البحث عن الراحة النفسية والبحث عن الاستقرار يدفع الإنسان إلى تجريب كل الطرق وركوب كل المغامرات، امرأة أخرى أو شابة في حدود الثلاثين، لباس أنيق وهيئة متسقة ومظهر يوحي بالرخاء والنعمة، خرجت من رحاب الولية وبدأت تبكي بكاء حارا التفتت الحفيظة إلى زميلتها وتساءلت عما ينقصها لتبكي بهذا الشكل، النفس البشرية بئر عميقة، لازال علم النفس الجمعي والفردي، لم يكتشف كل خباياها ومكنوناتها ولا أحد يمكنه الادعاء بمعرفة ما يجري ويدور في جوانحها، ماذا ينقص تلك المرأة؟ سؤال يبقى معلقا بدون جواب... وتبقى زيارة الأولياء والأضرحة، تتحكم فيها عدة أسباب ورغائب تختلف من شخص إلى آخر، ولكن هناك أسباب كبرى توجه وتتحكم فيها ومنها كما قال الدكتور حسن قرنفل، ما هو اقتصادي واجتماعي ونفسي، فبالنسبة للجانب الاقتصادي، يتضح أن الأفراد ذوي الدخل المحدود هم الأكثر لجوءا إلى هذه الأضرحة، فبفعل ارتفاع مصاريف العلاج من تحليلات وأدوية وعمليات جراحية وغياب تغطية صحية لفئات عريضة من المواطنين خصوصا العالم القروي وعدم قدرة المستشفيات العمومية على استيعاب العدد الكبير من المرضى المعوزين، الذين يلجئون إليها، ومدة الانتظار الطويلة للحصول على مواعيد مع الأخصائيين أو لإجراء عمليات الجراحية، يقوم عدد كبير من السكان الفقراء باللجوء إلى الأولياء والأضرحة أملا في العلاج...