تعززت ساحة النشر في السنوات الأخيرة بالمغرب بكتابات الاعتقال السياسي أو ما يعرف ب "سنوات الجمر والرصاص"، التي تراوحت بين الشهادة والرواية والسيرة الذاتية، وكان الهدف منها هو التخلص من إرث الماضي الثقيل إضافة إلى إطلاع الرأي العام والأجيال الصاعدة على المعاناة التي تعرض لها العديد من مناضلي الأمس، الذين رمت بهم السلطات المغربية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في غياهب السجون، التي أنكر المغرب وجود البعض منها على الإطلاق من مثل معتقلي تازمامارت وأكدز. فمن كتابات الوديع الأسفي، وعبد اللطيف اللعبي، والراحل عبد الفتاح الفاكهاني، وعبد القادر الشاوي، وإدريس بويسف الركاب في نهاية الثامانينيات من القرن الماضي، إلى كتابات كل من أبراهام السرفاتي، ومحمد الرايس، وأحمد المرزوقي، وجواد امديدش، وعزيز بنبين، وصلاح الوديع، وعبد العزيز مريد، وعزيز الوديع، وحليمة زين العابدين، وخديجة مروازي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، تتنوع الأشكال والأجناس التعبيرية فيها وتتوزع ما بين الشهادة والرواية والكتاب المصور، وتتوحد فيها الرغبة في الإفصاح عن معاناة جماعية وفي اتخاذ الكتابة وسيلة للتنفيس وقهر الظلم وفضح كل أصناف التعذيب والمعاناة التي عاشها المعتقلون السابقون، لا لشيء إلا لأنهم حاولوا تغيير أوضاعهم الاجتماعية والسياسية.ووسط زخم هذه الكتابات التي تواترت وأقبل عليها حتى من لم يخبروا عالم الكتابة من قبل، وأولئك الذين عانوا خارج أسوار السجن من زوجات وأمهات وآباء وإخوان، ظهرت كتابات معتقلي القنيطرة ودرب مولاي الشريف وتازمامارت ومعتقلات وسراديب أخرى، في حين ظلت معاناة ما يعرف ب "مجموعة بنو هاشم"، التي تتألف من خمسة شبان في مقتبل العمر أغلبهم تلاميذ، غائبة عن تلك الكتابات رغم من فظاعتها وكون أصحابها تعرضوا للاختفاء القسري واقتيدوا إلى سجون لم يعرفوها إلا بعدما خرجوا منها، ولم يعرف عنها إلا ما قدمه هؤلاء عبر شهادات أليمة في جلسات الإنصاف والمصالحة وعبر صور خطتها أنامل محمد النضراني المرتعشة، المنتسب للمجموعة، في كتابه المصور "تابوت الكومبليكس".ولهذا فإن كتاب محمد الرحوي "مدافن: وقائع اختفاء قسري"، الصادر باللغة الفرنسية ضمن منشورات سعد الورزازي بدعم من مجموعة من المنظمات الحقوقية ( المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان وأمنيستي فرع المغرب والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف والوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان)، يعد بحق أول شهادة تصدر في كتاب عن مجموعة بنو هاشم، وشهادة إنسانية عميقة عن تسع سنوات في معتقلات سرية غير قانونية من الكمبليكس بالرباط إلى أكدز وسكورة وقلعة مكونةجنوب المغرب.وتتكون مجموعة بنو هاشم من:عبد الرحمان قنسي، ومولاي إدريس الحريزي، ومحمد النضراني، وعبد الناصر بنو هاشم، الذي سميت المجموعة باسمه، ومحمد الرحوي مؤلف الكتاب، وقد اعتقلوا عام 1976 وأعمار أغلبهم لا تتجاوز 16 سنة وأكبرهم لا يتعدى 25 سنة.ويتوزع كتاب "مدافن: وقائع اختفاء قسري" لمحمد الرحوي، الواقع في 340 صفحة من الحجم المتوسط، إلى قسمين: الأول يتناول فيه الكاتب مسألة العقدة السياسية بالمغرب وإشكالية العمل السياسي، والثاني يتحدث فيه بتفصيل عن مدافن الجنوب وعن معاناة المجموعة التي ينتمي إليها في تلك المعتقلات،التي كانوا يرحلون إليها ليلا وهم معصوبي الأعين وعن احتمائهم بالذاكرة وتحفيزها عبر الاسترجاع الدائم للطفولة ولفترة الدراسة، حتى لا يمس الاعتقال أيضا ذاكرتهم وحتى يحتفظوا لأنفسهم ببعض من الإنسانية ومن أمل الاستمرار.من معتقل الكومبليكس بالرباط إلى معتقلات أكدز وهسكورة جنوب المغرب التي اقتيدت إليها مجموعة بنو هاشم دون تهمة محددة ولا محاكمة، إلى معتقل قلعة مكونة، التي رحلت إليها المجموعة في 22 أكتوبر من عام 1981، ظل المعتقلون، كما يحكي محمد الرحوي في كتابه، معزولين عن العالم وجاهلين حتى للأماكن التي يوجدون بها، محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية: من زيارة العائلة ومن القراءة ومن الدراسة، حيث لم يتمكنوا من إتمام دراستهم إلا بعد مرور سنوات على اعتناقهم الحرية.وفي تقديمه لهذا الكتاب، تحدث عبد الناصر بنو هاشم رفيق محمد الرحوي في محنة الاعتقال عن الكاتب وحكايته وقال إنها " قصة شعب يرنو إلى الحرية والكرامة، التي يرفض السير في طريقها من يحكمه. بل محمد هو صورة لجيل بأكمله كان يحلم بمغرب حر ومتقدم، فقد اختطف في الرابعة والعشرين من عمره، دون محاكمة، كان يعتقد أن الطريق الوحيد لتحقيق حلمه هو النضال في إطار النقابة الطلابية (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، ثم في إطار تنظيم يساري ذي التوجه الماركسي اللينيني "إلى الأمام". غادر الرحوي قريته "ماسوسة" المعلقة على قمم جبال الأطلس وهو مايزال طفلا صغيرا، ليقيم بعيدا عن والديه بإحدى المؤسسات الخيرية بمدينة الرباط".ووصف بنوهاشم ظروف العيش السيئة التي كان يعانيها الرحوي رفقة عدد من الأطفال داخل تلك المؤسسة الخيرية، حيث سوء التغذية وسوء المعاملة بل والاعتداء، مكان بتلك المواصفات لا يمكن إلا أن يقال عنه أنه أول مؤسسة للاعتقال، يقال عنها جزافا مؤسسة خيرية، كان للرحوي علاقة بها، حيث واجه بشجاعة ظروف العيش السيئة، وتحدى كل العراقيل وتفوق في مساره الدراسي، وأصبح شخصا ثوريا، آمن بالثورة الاشتراكية. وأضاف بنوهاشم أن الكتاب يقدم مغامرة إنسانية لجيل من مناضلي اليسار كان يحلم بعالم أفضل ومستقبل جدير أن يحظى به شعب فخور بنفسه. وأشار إلى أنه " رسالة موجهة للقوى الحية في هذا البلد للسير قدما على طريق التغيير التي بدأ شقها منذ بداية القرن الماضي، فهو نداء من أجل الاستمرار والحفاظ على هذا الخيط من الأمل الذي يدفع كثيرا من المغاربة إلى الحلم بمغرب حر تحترم فيه كرامة مواطنيه". ورغم كون لغة الكتاب أو شهادة محمد الرحوي عتيقة تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما أشار الكثير ممن شاركوا في حفل توقيعه بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط، فإنهم أشادوا بالكتاب واعتبروه كتاب الذاكرة الفردية والجماعية، لأنه يساهم في التأريخ لجانب من تاريخ المغرب المعتم، من خلال التأريخ لتجربة بنو هاشم القاسية، التي رأى فيها الحقوقيون الكثير من العبث. واعتبروا أن لغة الكتاب تؤرخ نفسها للاعتقال وتكسر الصمت المطبق على مجموعة بنو هاشم، التي ظلت معزولة.مرت الآن أكثر من عشرين سنة على مغادرة مجموعة "بنو هاشم" للسجن، ولكن هذا الأخير ما زال حاضرا يسكنها باستمرار، إذ أكد محمد الرحوي صاحب الكتاب أنه مازال يعاني كوابيس رهيبة، وأنه اختار الكتابة كتمرين نفسي معالج له، وأشار أنه بصدد إعداد الجزء الثاني من هذا الكتاب، الذي سيتمحور حول مرحلة ما بعد السجن، وأنه سيعمل بنفسه على ترجمة كتابيه إلى اللغة العربية، حتى لا تظل اللغة حاجزا ويطلع عليهما أكبر عدد ممكن من القراء.