في سرديات القص واختيار الشخوص ليكونوا أبطالاً تتجلى أهمية اللغة بتركيبتها وهيكليتها اللتين تشكلان عاملين مهمين في إنجاح العمل المنجز والذي سيصبح من عداد الخلق المطروح ليحاور ذائقة المتلقي سعياً للتأثير فيه وتأجيج لذاذته بحيث يغدو هذا العمل فِعلاً حفرياً في الذاكرة ومرجِعاً معرفياً في التداول. والقصة في تقديم نفسِها كنتاج سردي لها أنساقُها وبُناها تعتمدُ اللغةَ في التجسيد وهي سائرة باتكاء على تقنيات السرد المتبع، وعلى تكيننها كوجود ناجز. لكن خالق النص القصصي وبحدود نظرته وسياقاته التي يرسّخها كهوية لاشتغاله التدويني تجاه هذا اللون من السرد يعطي لنفسه فسحةً من الرغبة التي يسعها لتثبيتها ؛ حتى لو تطلّب الأمرُ خروجاً على السياقات المألوفة في الرحيل السردي ضمن فضاء النص القصصي . تسوقنا هذه الرؤية ونحن ندخل عوالم مجموعة 'خطاب عاثر' القصصية التي أرادت لنفسها أن تكون مجموعة خطابات نصّية ترسم لها منحيين منشطرين يسيران بتوازٍ يعكس أسلوبا تساوقياً لصانع خطابات اعتمدهما دون الخروج عن سياق الفضاء اللغوي والأسلوبي الذي ركبه. فالمجموعة وهي تقدم وجودها بأربعة عشر نصّاً تطبع هويتها بهذين المنحيين؛ أولهما اعتمد السرد التقليدي المبني على وجود الشخصية المؤثرة في الأحداث والمحفزة على ضرورة حيازة النجاح وسط امكانية فاعلة تشكّل نسيجاً مكملاً لهذه النجازة فيما اتخذ الخط الثاني صفة التقريرية التي تترك النهاية مفتوحة لا تعتمد الضربة التي هي من صفات القصة القصيرة جداً (وهنا نجد العديد من النصوص تلوذ بهوية القصة القصيرة جداً). هذا التنقل في المنحيين شكّل بعداً مغايراً للنصوص التي تأتي على وتيرة واحدة في المجاميع القصصية التي نقرأها لكتاب آخرين؛ وهو اتجاه اعتقد أن منتج هذه المجموعة دفعها بقصديّة ونباهة لتصدم المتلقي الذي يخرج من وجود نصي لوجود نصي آخر مثلما تقصّد من جعل نصوصه عوالم غزيرة بشفرات باعثة على اثارة الحواس ومؤججة لجملة كبيرة من الاستفهامات التي تبحث عن إجابات ستنبثق أمام المتلقي بعد وقت من الانتهاء من القراءة .ثمة بعض من هذه الشفرات تتوزع في نص (ليلة البدوي) الذي يشكل مدخل القص إلى المجموعة (بعد رؤية فلسفية قدمها القاص بكلمات مبتسرة تفوه : قال أول : الحقيقة هذا .. قال ثانٍ : الحقيقة ذاك .. قال ثالث : الحقيقة لا هذا ولا ذاك) وهو يضم صوراً متعددة تؤلف في حالة جمعها محطات من التوقف بغية السبر. فاستهلال النص يفتح إزاء المتلقي مشهدا لأرملة اسمها (عبلة) تمتلك نزلا يأوي إليه المقامرون لتدارك وجود أقل ما يقال عنه أنه بؤرة رخوة لأرض تميد بالعبث وحياة لا رجاء في مسارها، فهي رتيبة، هادئة، مملّة . لكن هذا الاستهلال هو ما يدخل المتلقي لمفردات مدينة تعيش الحذر أيضاً وتتطيّر من قدوم الغرباء لفرط ما عيث بها وبأيدٍ ليست هي من أيادي قاطنيها؛ والمجنون المستحم بفلسفة المفردات العليلة التي يطلقها بوجه المتفكهين منه والضاحكين عليه كانت خلاصة أمثولة إنسانية اكتوت بقسوة الغرباء؛ وسالم المجنون بعرف الآخرين ارتآه خالق النص ليكون شفرة ظاهرة؛ دلالة لها مدلولاتها التي يدركها الرجل الذي آوى البدوي القادم لعلاج جواده من مرض مزمن ألم بّه. وساعة انبلج الصبح وتحرك الاثنان (الرجل صاحب الجواد والبدوي المعالج) تنصب انظارهم على مجاميع من الكلاب تنهش جسد الجواد العليل وتنزل فتكاً به بشيء من اللذة والشهوة مطيحة بهيبة الأيام التي كان فيها هذا الجواد بنظر صاحبه يطوي الوهاد ويقطع المسافات، وبنظر التحليل المنطقي في القراءة النقدية شفرة الأمة التي كانت تتمتع حقبةً ما بنورانيتها وألقها وبهائها وسمعتها التي تجوب الآفاق .إن نص 'ليلة البدوي' بقدر ما هو نص يفتح أبواب القراءة بغية اصطياد الشفرات هو أيضاً نص التسليط الضوئي على حياة اجتماعية بسيطة قد تنقلنا مؤثراته إلى حقبة الستينات من القرن الماضي، زمن سقوط الأيدلوجيات المستوردة شرقاً وغرباً والتي أريد لها أن تُطبَّق في العراق فآلت إلى الفشل تاركة شعوراً أنها مجرد خيالات لا تتواءم والحالة المعاشة، أو أحلام من الاستحالة تجسدها على أرضية الواقع. والنص هنا يأخذ صفة القص المألوف بسرديته الهيكلية والنهاية التقليدية بينما يأخذ نص (ظلال أخرى) صفة النص المفتوح الذي يترك المتلقي يواصل دور الشخص الفاعل في النص بمتوالية من حياة تواصلية بأحداثها وانعطافاتها .وفي موضوعة الإبداع والموهبة اللتين هما من صفات الخُلاّق حيث تُستغلان لغير الخلق الجميل بسبب وطأة الواقع الذي لا يرحم المبدع ولا يقدّم له واجبات استمرار خلقه وإثارة إبداعه، وبفعل الاستغلال الذي يحصل من قبل المتنفذين مالياً حيث التضحية التي تسيل من قلب المبدع يحصد أرائجها الآخرون فتغدو شفرة تبعث على الألم وتفجّر في وعي المتلقي وهو يدخل غمار نص (وجه السيد) إذ يلتقي الفنان التشكيلي المغمور بموهبة خالصة ينزف خلاصة روحه على القماشة لا لينتج ما يريد بل ليعمل على انتاج ما لا يرتضيه داخلياً ؛ حيث ينتهي جهده الخلاّق برسم وجه مخلوق ميسور لتكون إحدى بهرجات الاحتفالية بعيد ميلاده تحت إلحاح رجالاته وضغطهم واستهجانهم للفنان الذي لا يدركون أنه غير موقنٍ برسمه ولا راضٍ عن أداء يحسه ليس من جذوات أعماقه محثّين إيّاه على ضرورة إتمام العمل دون الاهتمام والالتفات لمعاناته . وتنبثق شفرة ثانية في منتهى النص حيث المقارنة مأساوية بين فنان نزف روحه وسقط مغشياً عليه، ولوحة كانت في أقصى حالات الاكتمال، وقد بدا وجه السيد مبتشراً وملامحه تتساوق وفرحة الاحتفاء بعيد ميلاده ' دخلوا جميعهم ليروا الرسام ساقطاً، مغمى عليه وسط فوضى المكان. أسرعوا فرحين بخفة بالغة يحملون وجه سيدهم على لوحة نسيجية لامعة، ممعنين النظر فيها بدهشة كبيرة، بين مصدقين ومكذبين ' ص73 وفي نصوص مثل 'ظلال أخرى' و'ذو القبعة اللبادية' الفراقات الاخيرة 'تأخذ صفة النص المفتوح الذي تبدو فيه الحالة السردية وكأنها مقتطعة من نص طويل، وهو توجه ان كان مقصوداً فإنه يثير الانتباه إلى أن الناص خلق نصّاً يكاد يكون مشهداً من أيقونة تسعى الذات الكاتبة إلى تسليط ضوء القراءة عليها بمعزل عن موضوعة نص طويل بكامله. وللخزين الطفولي الذي يبقى رصيداً عتيداً للفرد البشري يلتجئ إليه أنى شاء حيزاً في توجه الناص السردي إذ تتراجع فضولياتها تقهقراً إلى عوالم الطفولة البريئة والصبيانية التي تشكّل حياةً خاصة ليس لها ضوابطها النفسية أو الاجتماعية إنمّا يكون للطفل أو الصبي فيها هامش من التصرف الحر لأنَّ عوالم كهذه تعتمد الخيال والحركة الصبيانية وصولاً للاكتشافات التي تعمق شخصية الصبي وهو يتَّجه نحو عالم الشباب ثم الرجولة ليكون خلقاً قادراً على العيش ومواجهة متطلبات الحياة، ' تغدو الفتوة بأعوامها وأحداثها وارهاصاتها المتأججة بحمى العبث واللعب والاكتشاف من نافلة المعين الأمثل في القص الذي يأخذ دور استعادة حلمية لا تكاملية'. (2) من هذه السهوب الحرّة والخمائل المنفتحة يستل الناص بعض النوازع والأفعال ليشكّل منها حكايا مسحوبة من حكايا وبذاكرة يمنحها الصفة الجمعية حيث الأبطال يتصرفون بصيغة لا انفرادية مانحاً إيّاهم صفة اللعب الجماعي حيث يبرز من خلالها الانبهار الصبياني بالحياة (رغم أن الحياة بسيطة بمفرداتها ومحيطها الذين يعيشون فيه) ؛ فهناك الطائرات الورقية السائحة في السماء باعثة مسببات الخيال، وهناك 'فراشات النهر الزاهية وصغار العصافير'، وهناك أيضاً عند النهر 'نلتقط أسماكاً على هيئة ديدان مذنبة، ترتعد حين نلقيها على العشب، نقيم شباكاً من أعواد القنب للفراش واليعاسيب البليدة، نغرز في أذنابها خيوط القش، نطلقها، نطاردها فتسقط متعثرة بين أقدامنا ؛ نتلقفها ضاحكين' ص25 (نص مملكة الطرائد). كذلك كان للفعل والذاكرة الجمعية وجودهما في نص (الحصن العتيق) حيث الصبية يحثون الهمم من اجل افتضاض عالم مجهول مليء بالأسرار والأحاجي التي كان أهلوهم يبثونها في مسامعهم كتحذير لعدم الوصول لذلك الحصن النائي المريب. ولأنَّ الطفل ميّال في غريزته للاكتشاف ؛ ولأنَّ الصبي يمتلك نزوع الفضول للوصول اتكاء على نسبةٍ من شجاعة لا يمتلكها إلا مَن هم بعمر الفتوة ؛ ولأنهم فتية مغامرون لا يخشون ثوباً جديداً لهم يتمزق بفعل تحركاتهم الصبيانية ولا بطناً يتهيبون أن يجوع فيلتفتون لملئه بالأطايب من الطعام فقد انطلقوا ' بتحدٍّ مرتبك شمالاً عبر مقلع الطين، بمحاذاة حطام الآجر الكبير، فقبل التفاف الطريق سيلاقيهم، على عكس ما يتهيأ لهم من مدخل البلدة وأعالي البيوت، منتصباً بمشهده الخرافي، كما لو أنه يتأهب في أية لحظة لحركة ما، غامضة، مريبة، أنهم يغذون السير نحوه، سيكون شاهداً أوحد وحداً فاصلاً، لا شك فيه للعهد الذي قطعوه على أنفسهم'. ص46 إنَ القاص سهيل ياسين وهو يتحرك بأول مجموعة قصصية صادرة له بعد أكثر من عقدين من الكتابة السردية مطالب بأن يواصل مشواره الإبداعي جنباً إلى جنب مع جهده في العمل الصحافي وأن لا يغلب الأخير على الأول فتخسر الساحة السردية العراقية قاصّاً له لمساته الواضحة والمؤثرة في فضاء القصة العراقية .ناقد من العراق(1) إصدار دار الشؤون الثقافية / ط1 العام 2006 (2) زيد الشهيد منابت الذاكرة .. الطفولة جدوى الخزين / زيد الشهيد ص9 صحيفة العرب اللندنية 8/6/2006