عرفت الساحة الوطنية منذ أكثر من سنة حركية جماهيرية منظمة قادتها تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية، وقد استطاعت هذه التنسيقيات بفضل وثيرة نضالاتها الميدانية أن ينتشر صيتها حتى خارج الوطن، بل اقتبست من حركيتها عدد من الحركات الجماهيرية في بعض الدول العربية حيث تأسست بها تنسيقيات مشابهة ضد الغلاء. وقد دخلت هذه الحركة الجماهيرية سنتها الثانية منذ 16 شتنبر 2007، وعرفت عقب الزيادات الأخيرة في الأسعار والأحداث المؤلمة بمدينة صفرو، دفعة جديدة. فأمام هذه الحركة الجماهيرية يمكن التساؤل حول آفاقها، انطلاقا من طبيعتها وأهدافها ومكوناتها وأسلوب عملها؟ أحاول من خلال ما يلي تقديم بعض الإجابات عن هذه التساؤلات انطلاقا من تجربتي المتواضعة كعضو مؤسس لهذه الحركة. 3 - طبيعة تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية وأهدافهاإن التنسيقيات كما يوحي بذلك اسمها عبارة عن تجمع تنسيقي بين تنظيمات سياسية ونقابية وحقوقية وجمعوية بالإضافة إلى فعاليات مناضلة مستقلة، وقد نشأت بمبادرة من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي كانت تبحث عن كيفية النهوض وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عبر التشبيك مع التنظيمات الديموقراطية في إطار شبكة منظمة، وقد جاء مدخل هذا التأسيس مع انفجار موجة الغلاء خلال شهر شتنبر 2006، حيث نادى فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط مختلف التنظيمات بمنطقته للتضامن من أجل مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية وفضح الأسباب المؤدية لها من سياسات اقتصادية واجتماعية. وقد استفاد الفرع من التجربة الفتية لتنسيقية وادزم التي كانت لها تجربتين في أكتوبر 2005 ومارس 2006، كما استفادت من انتفاضات الجماهير الشعبية في العديد من المناطق كطاطا، إيفني، تاماسينت، بني تيدجيت، بوعرفة، بكارة ، أولوز، آيت بلال، تارميلات، خنيفرة ... الخ. ، والتي كانت كرد فعل على الإجهاز على مجموعة من المكتسبات كانتزاع الأراضي وتصفية الخدمات العمومية والالتفاف على مطالب الحركة الجماهيرية (ميثاق التربية والتكوين، مدونة الشغل، قانون الارهاب، قانون الصحافة، مدونة الأسرة، مراسيم الأداء عن الخدمات الطبية في المستشفيات العمومية، مشروع القانون التنظيمي للاضراب، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ...الخ) والاستمرار في الخوصصة والغاء قانون السلم المتحرك للأجور وتجميد التوظيف ...من هنا يمكن القول أن التنسيقيات جاءت للالتحاق بنضالات الجماهير الشعبية عبر خلق إطار منظم من شأنه أن يصبح قوة اجتماعية واسعة لها تأثيرها في موازين القوى الحالية، وقادرة على حسم الصراع الطبقي لصالح الطبقات المسحوقة. وقد قام الاتفاق منذ البداية على أن التنسيقيات ستضل مستقلة عن الاطارات التي أسستها فلا تحمل أية يافطة سياسية أو نقابية أو حقوقية أو جمعوية، كما لا تستعمل التنسيقيات لضرب مكوناتها، لكن بوسعها التعبير كما تشاء حينما يتعلق بفضح السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في المغرب منذ خروج الاستعمار المباشر.2 - دور التنظيمات المكونة للتنسيقياتهناك تفاوت كبير في مساهمة التنظيمات المنخرطة في تنسيقيات مناهضة الغلاء فهناك مناضلات ومناضلين بعينهم لعبوا دورا حاسما في مختلف مراحل تطور هذه الحركة، حيث لعب مناضلو النهج الديموقراطي والجمعية المغربية لحقوق الانسان وفعاليات ماركسية لينينية مستقلة الدور الطلائعي، بينما ضلت مساهمات باقي التنظيمات محتشمة بينما خاول البعض الآخر اقتناص فرص البروز الاعلامي مع التواجد المحتشم في بعض الاجتماعات.وتظهر مساهمة المناضلين الفعالة على مستوى التفكيك النظري للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتسبب في الغلاء وتدهور الخدمات العمومية وكذا القدرة على الجمع بين مناضلين من مشارب إيديولوجية مختلفة تم التواجد الدائم خلال اجتماعات التنسيقيات وأيضا التفعيل الايجابي المنظم للقرارات التي يتم اعتمادها، والقيام بحملات تحسيسية ميدانية بين الجماهير الشعبية للشرح والتعبئة وخوض الأشكال النضالية الممكنة.هناك بالفعل عدد من التنظيمات المنخرطة في التنسيقيات التي تعتبر غير فاعلة وتتحين الفرص فقط من أجل تحقيق المكاسب السياسية بدون عناء، لكن التصدي النقدي لكافة المحاولات من هذا النوع أثمرت أكلها، وحصنت التنسيقيات من أية محاولات لاستغلالها السياسوي، فاستطاعت الاستمرار كتعبير واضح عن طموحات الجماهير الشعبية. كما أن لجنة المتابعة الوطنية لم تشكل أبدا إطارا فوقيا للتنسيقيات، بل ظلت كل تنسيقية على حدة مستقلة في برامجها ونضالاتها. وبذلك اقتصرت لجنة المتابعة الوطنية على تنفيذ القرارات التي تصادق عليها ملتقيات التنسيقيات. إن بروز حركة التنسيقيات قام على أساس التعبير عن معاناة الجماهير الشعبية ولم تتوقع العديد من التنظيمات اتساع صيتها ليعبر الحدود ويتخذ منها بعض مناضلي دول عربية أخرى مثالى يحتدى به، وبذلك بدأت تظهر في الأفق ارادة تطويع هذه الحركة لخدمة أهداف سياسوية ضيقة من قبيل تسخيرها والتحكم فيها مركزيا، لذا فإن غيرة المناضلين ستبرز من خلال الحفاظ على استقلال الاطار وانفتاحه ولامركزيته. 3 - عدد التنسيقيات على الصعيد الوطنيمنذ نهاية سنة 2006 بلغ عدد التنسيقيات حوالي 80 تنسيقية تواجدت في العديد من المدن والقرى المغربية. وبعد مسيرة الدارالبيضاء في 25 مارس 2007 خفتت نضالات التنسيقيات لعدة أسباب كان من أهمها انصراف عدد من المكونات للاستعداد لانتخابات 7 شتنبر 2007، واستمر عدد قليل منها في مناهضة الغلاء كان على رأسها تنسيقية الرباطسلاتمارة وتنسيقية بوعرفة. وانطلاقا من شتنبر 2007 وعلى اثر الزيادات الصاروخية في الأسعار عادت الحيوية لمختلف التنسيقيات خصوصا بعد أحداث 23 شتنبر بمدينة صفرو حيث بدأت تنسيقيات جديدة تظهر للوجود. كما كان لدور الجمعية المغربية لحقوق الانسان الحيوي فضل في استعادة روح النضال داخل مختلف التنسيقيات التي أقبلت بقوة وفي كل مكان على تنظيم أشكال احتجاجية يوم 17 أكتوبر 2007 إحياء لليوم الدولي للقضاء على الفقر. 4 - الاستقالة من لجنة المتابعة الوطنيةقدمت استقالتي من لجنة المتابعة الوطنية خلال الملتقى الثاني للتنسيقيات في 25 فبراير 2007، لكنى أشرفت بشكل مباشر على إنجاح مسيرة الدارالبيضاء في 25 مارس 2007، والتي تحولت إلى وقفة بعد محاصرتها من كل جانب. وفي الملتقى الثالث في 3 يونيو 2007 خرجت عمليا من لجنة المتابعة الوطنية نظرا لاعتبارات ذاتية وأخرى موضوعية، لكنى حافظت على عضويتي في تنسيقية الرباطسلاتمارة كمنسق ثاني لها ومواكبة نضالات التنسيقية كنضال قاعدي بعيد عن الأضواء . لقد كان لدي تخوف من انحراف نضالات التنسيقيات نتيجة اقتراب موعد الانتخابات التشريعية.5 - أبرز معارك تنسيقيات مناهضة الغلاءانتقلت معارك تنسيقيات مناهضة الغلاء من الوقفات الاحتجاجية في الساحات العمومية إلى الوقفات الاحتجاجية في الأحياء الشعبية، ومن مجرد وقفات إلى مسيرات شعبية، كما أنتقل عدد المشاركين والمشاركات في الأشكال النضالية للتنسيقيات من 40 و60 فرد إلى 3000 و4000 مشاركة ومشارك.وتعتبر تجارب بعض التنسيقيات في أقاليم نائية رائدة ومثالا يضرب به في التنظيم والاحتجاج مثل تنسيقيات بوعرفة وطاطا وبيوغرى وآسفي.ويعتبر تنظيم ثلاث مسيرات وطنية ضد الغلاء وتدهور الخدمات العمومية من أكبر التحديات التي واجهتها التنسيقيات واستطاعت التغلب عليها.6 – بعض النتائج التي استطاعت تنسيقيات مناهضة الغلاء تحقيقهااستطاعت تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية أن تفرض على الحكومة منذ شهر شتنبر 2006، دعوة المركزيات النقابية إلى الدخول في مسلسل الحوار الاجتماعي، ثم إجراء تخفيض نسبي في أسعار المحروقات، كما أثنت الحكومة عن اعتماد بعض التدابير الجبائية اللاشعبية مثل اختزال معدلات الضريبة على القيمة المضافة من أربعة إلى اثنان مما سيرفع مختلف الأسعار. كما أوقفت احتجاجات التنسيقيات تقليص معدل الضريبة على الشركات من 35 إلى 28 % .7 - دور التنسيقيات مقارنة بالأحزاب السياسية والمركزيات النقابيةلقد نزلنا إلى الشارع للاحتجاج على غلاء الأسعار وتدهور الخدمات العمومية إلى جانب الجماهير الشعبية المتدمرة في ضل استسلام مطلق للنقابات والأحزاب السياسية لإرادة المخزن والتواطؤ بالصمت المطبق أمام تفاقم معدلات الأسعار. فدورنا كان بمثابة منبه للجماهير لإدانة السياسات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، ومحاولة تحريك المنظمات الجماهيرية للقيام بوظائفها المعتادة. كما أن التنسيقيات لا تتوجه للعمال والفلاحين فقط وإنما تتوجه إلى أوسع الطبقات المسحوقة إضافة إلى الطبقة الوسطى التي بدأت تندثر وتندحر نحو الطبقات الدنيا.فدورنا كتنسيقيات مناهضة الغلاء هو قيادة صراع طبقي منظم على قاعدة إعطاء الأولوية لمطالب الجماهير الكادحة وفضح مختلف المخططات الطبقية الهادفة إلى الإجهاز على القوت اليومي وعلى الخدمات الاجتماعية. ونحن في إطار هذه السيرورة نعمل على بناء حركة احتجاجية منظمة لها وزنها في التأثير على موازين القوى السائدة وانتزاع عدد من المكتسبات لصالح الجماهير، دون أن نسقط في الوظائف التقليدية للأحزاب السياسية والتي يبقى هدفها الأساسي هو الظفر بالسلطة.8 - مسيرة 2 شتنبر 2007كانت الظرفية التي نظمت فيها المسيرة ظرفية سياسية بامتياز، ولم تكن التنظيمات السياسية لتقبل بمن ينغص عليها سباقها المحموم للظفر بالسلطة، أو سعي بعضها إلى شحذ القوى لمقاطعة الانتخابات، لذلك لم يتجاوز عدد المشاركين في المسيرة 300 مشاركة ومشارك، وكان من الضروري لفت انتباه الطبقة السياسية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية العويصة التي أصلت البلاد إليها، لذلك كانت الشعارات تنتقد في نفس الوقت غلاء الأسعار وتدهور الخدمات العمومية وتدعوا عامة الشعب إلى مقاطعة الانتخابات، لأن الجميع أصبح على يقين تام بأن اللعبة السياسة القائمة ملغومة وأن كل المؤشرات تدل على الاستمرار في ممارسة نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية المملاة من طرف الامبريالية والتي لا تخدم سوى الطبقات الحاكمة . ويمكن القول أن حركة التنسيقيات خلال سنة كاملة استطاعت اقناع عامة الشعب المغربي بعدم جدوى الانتخابات المخزنية فقاموا بمقاطعة رائعة.9 - قدمت الزيادات الأخيرة في الأسعار دفعة جديدة للتنسيقيات خصوصا عقب انفجار أحداث مدينة صفروإن نضالات تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية كانت دائما سلمية ومنظمة، رغم القمع والاعتقالات العديدة التي تعرضت لها في العديد من المناطق. ونظر للامركزية القرارات داخل التنسيقيات وعدم تواجد إطارا فوقيا، نجحت التنسيقيات في الاستمرار في إشرافها على الاحتجاجات المنظمة والتي تتزايد اتساعا من محطة إلى أخرى، ومن هنا يمكن القول أن حركة التنسيقيات جنبت المغرب الانفجارات الاجتماعية العنيفة كما كان يحدث في الماضي: انتفاضات 23 مارس 1965 و1981 و1984 و1990. فبدلا من أن تؤدي تلك التضحيات الجماهيرية إلى نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية ملموسة كان الاصطدام مع النظام عنيفا وسالت دماء الشهداء ولم تتحقق المطالب. أما نضالات التنسيقيات فقد تتحول إلى حركات احتجاجية واسعة ومنظمة من شأنها تغيير موازين القوى لصالح الجماهير الشعبية، لذلك يكفي أن يعي المناضلات والمناضلون، أن الرهان يجب أن يكون اجتماعيا محضا دون مغالاة في الخطاب السياسي، وبالتالي محاربة كل محاولات الهيمنة الفوقية على التنسيقيات والحفاظ عليها كاطارات ديموقراطية تتخذ قراراتها بالإجماع، وتستعمل لغة بسيطة يفهمها الجميع. فطبيعتها اللامركزية تحصنها ضد الهيمنة وكل الزعامات المزيفة التي تسعى إلى استغلال الحركة لأغراض شخصية أو من أجل توظيفات سياسوية قصيرة النظر.يبقى أن انخراط المناضلات والمناضلين ميدانيا هو أكبر مكسب للحركة، لأن التجدر وسط الجماهير الشعبية واقتسام معاناتها وتفجير طاقاتها النضالية وخلق آليات دفاعها الذاتي، من شأنه تحقيق الهدف المركزي من إنشاء التنسيقيات وهو تحويل موازين القوى لصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين والجماهير المسحوقة من أجل حسم الصراع الطبقي.10 - لجنة المتابعة الوطنيةمنذ الملتقى الوطني الأول لتنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية تم الاتفاق على أن دور لجنة المتابعة الوطنية هو تنفيذ القرارات التي تتوصل إليها الملتقيات الوطنية للتنسيقيات، ولا يجب أن تخرج عن هذا الدور التنفيذي. ويجب أن تستمر قاعدة إعادة انتداب لجنة متابعة جديدة كل ستة أشهر، حتى لا يستبد أعضاء هذه اللجنة وتتحول إلى آلية بيروقراطية يسهل التحكم فيها من طرف العدو الطبقي للتنسيقيات. فمن خلال غياب المركز السياسي للتنسيقيات، واستمرار الطابع اللامركزي للقرارات سنضمن استمراريتها وتوسعها الأفقي والعمودي، وفي استقلالية تامة عن أي توجه سياسي فوقي.