الذين عاشوا الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، من لبنانيين وفلسطينيين، يعرفون ان الاشارات الآتية من لبنان وفلسطين والعراق، تقول شيئاً واحداً، وتأخذ المنطقة الي هاوية اسمها الحرب الأهلية. هذه المرة لن يستطيع احد ان يتلاعب بالكلمات وان يغير الاسم كي يعطي شرعية ما للمسمي. ما يجري الاعداد له والبناء عليه له اسم قبيح واحد، ويدور تحت الاحتلال. كانت احدي سمات الحرب الاهلية اللبنانية 1975 1990 انها كانت تدور تحت الاحتلال الاسرائيلي او تحت شبحه علي الأقل. فاللعبة ارتسمت منذ لحظاتها الأولي عبر الخطوط والحدود التي وضعتها اسرائيل. ولم تكن القوي المحلية او الاقليمية قادرة علي تجاوزها. الجيش السوري رضي بنهر الأولي قرب صيدا كحدود لانتشاره في لبنان، ثم رضي ان ينسحب من المنطقة الشرقية نتيجة الضغط الامريكي الاسرائيلي والي آخره. صحيح ان اسرائيل انسحبت عام 2000، وان الجيش السوري خرج عام 2005، وان المقاومة الاسلامية نجحت في صدّ اسرائيل عام 2006، غير ان حسابات النصر والهزيمة في المنطقة تبقي نسبية، ويحكمها واقع عجز المشرق العربي عن اجبار اسرائيل علي رسم حدودها الجغرافية والسياسية من جهة، وعن العربدة الامريكية التي اودت بالعراق، ووضعت المنطقة بأسرها علي حافة الانهيار من جهة ثانية. الذين عاشوا تجربة الحرب اللبنانية، يعلمون ان الحروب الأهلية التي تخاض تحت الاحتلال، تتميز بقدرات تدميرية هائلة، لكنها تعجز عن بناء اي افق.تدمر الحرب الأخلاق والأعراف، ويتم هذا التدمير في شكل تدريجي يكاد ان لا يُري. تبدأ المحرمات في السقوط تدريجياً، ثم فجأة يكتشف المجتمع انه تعري من كلّ الضوابط، وان الاستباحة تستطيع ان تطاول كلّ شيء. يقود تدمير المبني الأخلاقي الي تفكيك النسيج الاجتماعي عبر احلال انتماءات جديدة في مكان الانتماء الوطني. تتحول الطوائف الدينية او الانتماءات العشائرية والقبلية والمناطقية الي بديل انتمائي، مما يسهل التطهير العرقي والخطف والقتل وتدمير الممتلكات. دمار النسيج الاجتماعي الوطني يفسح في المجال امام البني المافيوية لاحتلال السياسة والاقتصاد، ويحوّل المدن ركاماً متريفاً، ويقتل مساحات اللقاء. لذا كان تدمير وسط بيروت واستباحته خلال الحرب الأهلية مؤشرا لانهيار مساحة العمل الوطني تمهيدا لاحلال خصوصيات لا شرعية اخلاقية لها. لذا تلجأ قوي الحرب الي توسل الغرائز والخوف من جهة، ويعلو خطابها الديني من جهة اخري. غير ان الاطار البديل للاطار الوطني: الطائفة الدينية او العشيرة او الانتماء الجهوي، ليست بني متماسكة، بل هي مجرد اوعية مؤقتة سرعان ما سوف يضربها التفكك هي ايضا، فتنتقل الحرب الي داخل الطوائف والمناطق، وتقوم بتدمير ابطالها ونحرهم. هذه الترسيمة التي علمتنا اياها التجربة اللبنانية المرة، ليست خاصة بلبنان، بل هي ترسيمة صالحة للدول او المناطق التي تخاض فيها الحروب الأهلية تحت شبح الاحتلال. فالحرب التي تحدث هذا الكم الهائل من الدمار البشري والاقتصادي والاخلاقي لا تنتهي الا باحتلال خارجي. لذا لم تنته الحرب اللبنانية الا بعد اتفاق الطائف، الذي لم يترجم الا بعد عاصفة الصحراء عندما اعطت الولاياتالمتحدة ضوءا اخضر للنظام السوري بالهيمنة علي لبنان. ومع انتهاء هذه الهيمنة يعود شبح الحرب لأنه الوسيلة الوحيدة التي يملكها النظام الديكتاتوري من اجل ارهاب شعبه اولا، ومدّ نفوذه الي خارج حدوده. لا تحدث الحروب الأهلية بلا سبب، فهي تستند الي احتقانات طائفية او عشائرية داخلية، لكنها لا تنفجر الا بسبب العجز عن مواجهة معضلة التعامل مع المصير الوطني اي مع مشكلة الاحتلال ومع افق بناء الاستقلال.هذا العجز يسمح للقوي الخارجية بالتلاعب بالطوائف او العشائر ام التشكيلات السياسية، ويقوم بدفعها الي الانتحار. تدخل الطوائف المسار الانتحاري معتقدة انها تستطيع، عبر الاستناد الي الخارج، ان تهيمن علي البلاد. هذا ما اعتقده بشير الجميل عندما ذهب الي حلفه الانتحاري مع اسرائيل عام 1982، وهذا ما يكرره الجميع وان بتحالفات مختلفة في لبنان وفلسطين والعراق. اي ان انسداد المشروع الوطني يسمح للنزعات والتشكيلات ما دون الوطنية بأن تعتقد بأنها قادرة علي الاستيلاء علي كل السلطة، متناسية ان استيلاءها الفئوي علي السلطة يتناقض مع مفهوم السلطة في وصفها نقطة توازن اجتماعي، ويقوم بتدميرها. علمتنا التجربة اللبنانية ان الحرب الاهلية في ظل الاحتلال او شبح الاحتلال ليست سوي انتحار. فلقد فقد لبنان استقلاله وكاد يفقد وجوده، وهو يتعرض اليوم الي تجربة مماثلة لا تقل عن التجربة الماضية خطورة. اما فلسطين فانها علي حافة بركان قد يفقدها هويتها الوطنية ويعيدها الي تيه ما قبل 1965. العراق هو المكان الاكثر خطورة، لأن الحرب الأهلية قد تقود الي اول تقسيم حقيقي يتعرض له المشرق العربي في احد اوطانه. لا يكفي وعي التجربة المرة التي تنتظر المشرق العربي، والتحليل العقلاني ليس بديل العمل من اجل وقف هذه الآلة الجهنمية التي تدور فوق الجثث والألم. السؤال يتمحور حول ضرورة نشوء وعي ثقافي سياسي ضد الحروب الأهلية، عبر خلق مناعة وطنية اخلاقية تضع حدا للهستيريا الطائفية والقبلية.