الجديدة: أحمد ذو الرشادقرب المحطة الطرقية، وتحت العمارات المتراصة بشارع محمد الخامس، وعلى بعد أمتار قليلة من مقر الأمن الوطني ومقر عمالة الجديدة، وبجوار دار الشباب حمان الفطواكي وفي باحات المساجد وقرب المارشيات والمتاجر والبيوت الآيلة للسقوط، التي هجرها أهلها، وبشارع النخيل، والجامعة العربية، وعلى عتبات مصلحة الضرائب، وتحت سقيفة أوطوهال، وفي كل الأماكن الفارغة، تجد شابا أو شابين، أو كهلا أو أطفالا لفظتهم أسرهم، إن كرها أو طوعا، هؤلاء يفترشون الكرتون ويبيتون في العراء، في أرض الله الواسعة... منهم من يستيقظ باكرا، يطوي فراشه، المكون من بقايا الكارتون وأغطية شحب لونها، بل لم يعد لها لون، ثم يغادر المكان، قبل أن تتحرك الأرجل، ويصبح عرضة للانتقادات والتحرشات النابية، هؤلاء أصبحت لهم خبرة بالمكان والزمان، حيث ينتشرون في الصباح الباكر، يسترزقون ويستعطفون المارة والمتوجهين إلى الأسواق، يطوفون بين الحافلات، يلتقطون كل ما يجود به الركاب والراكبات، ومنهم من يبقى منكفئا على نفسه، يضع رجليه تحت ذقنه، من شدة لسعات البرد من جهة، ولكونه لم يهجع إلى النوم، إلا في الساعات الأخيرة من الليل، من جهة ثانية، هؤلاء لا خبرة ولا دراية لهم بعالم التشرد، بل منهم من لا يستيقظ إلا تحت ركلات أصحاب محلات البيع والشراء، الذين يريدون فتح دكاكينهم والشروع في عملهم اليومي...تصبح الجديدة قبلة للوافدين الذين لا مأوى لهم ولا مستقر، يأتون إليها من الضواحي، كالزمامرة وسيدي بنور وآزمور والبئر الجديد وأولاد افرج والمدن المجاورة كسطات وخريبكة وبني ملال وآسفي، يأتون عبر عربات القطار القادم من عبدة واحمر وعبر الحافلات والشاحنات، يقومون بكل المهن، ويشتغلون في كل الحرف وعندما يقل الزاد، ينتشرون في الأزقة والدروب والأسواق، طلبا لما يسدون به الرمق، قبل أن يتيهوا في زحمة المكان ويحترفون النشل والسطو واعتراض السبيل، ولعل جلسة واحدة من جلسات محكمة الاستئناف، كل يوم ثلاثاء، كفيلة للوقوف على عدد المشتبه فيهم في أعمال السرقة الموصوفة واعتراض السبيل والاتجار في المخدرات ودعارة الأطفال، أحيانا كثيرة يضطر القاضي إلى تأخير البت في قضايا الأحداث إلى حين إخبار أولياء أمورهم، الذين لا علم لهم بما وقع لهم... سعيد شاب تبدو هيئته أكبر من سنه، انتفض للتو من مكان إقامته المؤقتة بفضاء مسور بحائط قصير بشارع النخيل، قرب مدرسة الممرضات، تسلق السور وبخفة وجدته أمامي مادا يده، طالبا درهما أو درهمين، مؤكدا، أنه لم يتناول عشاءه البارحة ولا زال لم يفطر، يقول مجيبا قبل أن أسأله: »جئت من الفقيه بن صالح، كنت قد نزلت عند أخي المتزوج والقاطن هنا منذ مدة، جئت للبحث عن عمل، ولكن زوجة أخي، لم تحسن معاملتي ودفعتني إلى اتخاذ قرار الخروج إلى الشارع، للبحث عن عمل، بعدما تعرفت على بعض أبناء منطقتي والذين يشتغلون في مهن حرة، كبيع الديطاي وتلميع الأحذية وغيرها... «أطفال كثر موزعون على كل الأماكن الآهلة بالسكان، يبحثون عن موطئ قدم لكسب ما يقتاتون به، يبيتون في العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ليلى سيدة وأم تضطر إلى مرافقة ابنها كل صباح إلى المدرسة بحي البركاوي، تحكي عن مأساة شاب يبدو في حدود السادسة عشرة وتقول: »كل صباح يثيرني منظر شاب/طفل وهو نائم تحت سقيفة أحد المتاجر والبول يبلل فرشته المكونة من الكرتون وفراش ليس بفراش، يسيل وينتشر فوق الطوار إلى أن يصل إلى الكودرون، منظر يحرك في دواخلي أحاسيس الأمومة الحارة وأحس بحسرة ومرارة، وأتساءل أين والدته؟ وهل تعلم كيف يعيش فلذة كبدها... «ولا يقتصر الأمر على الأطفال فقط، بل يشمل حتى الشيوخ والذين لا يدري أحد كيف حطوا الرحال بالجديدة، سحناتهم تشي بكونهم أغراب عن المدينة ولهجاتهم تؤكد ذلك، يتيهون في النهار وسط الدروب، ويعودون في الليل إلى أماكن وضعوا عليها اليد وحفظوها في غفلة من رجال الوقت، هؤلاء أضيف إليهم نوع جديد من المشردين الذين يضطرون إلى المبيت بالشارع والتسول أيضا، واقتحام المنازل عنوة، ويتعلق الأمر بالباحثين عن الفردوس المفقود، القادمين من الجنوب الإفريقي والراغبين في الالتحاق بالديار الأوروبية، شبان بثياب بالية وسراويل متسخة وشعر أشعت، يجوبون الأزقة نهارا ويختفون ليلا، بل يبحثون لهم عن أماكن تستقبل أجسادهم المنهوكة...كهول بأسمال رثة وأقدام حافية، يجرون وراءهم قصصا وحكايات يشيب لها الولدان، حكايات تختلف زمانا ومكانا ومبنى ومعنى، حكايات تركت ندوبا وجراحا في أنفسهم وذواتهم، بعضها اندمل والبعض الآخر لا يزال ينزف دون أن يتوقف، عبد الله رجل يبدو في الستين من عمره، ظهره احدودب، ومشيته ثقلت، يحمل بعضا من أمتعته، يقول: »الزمان صعيب أوليدي، كون لقيت فين نبات، ما نكونش هنا... «وتابع السير زائغ البصر، شريدا، طريدا، لا يلوي على شيء، وصدى كلماته (كون لقيت فين نبات) ظلت تتردد في المكان...ترى ماذا فعلت الجهات المسؤولة لاستقبال هذه الشريحة التي تعيش على هامش الحياة؟ ماذا فعلت جمعيات المجتمع المدني والتي بدأت تنتشر كالفطر في المجتمع المغربي، متخذة تيمة العمل الجمعوي، كشعار أساسي لكل تحركاتها؟ أين الجمعية الإقليمية للأعمال الاجتماعية والتي تضخ الجماعات والبلديات فيها، جرعات مهمة من ميزانياتها السنوية؟ ألا يشكل هذا جانبا مهما من جوانب التنمية البشرية؟...