بخطوات وئيدة ومتثاقلة، تسلق الشرايبي الدرجات التي تفصل شارع الجامعة العربية عن القاعة/الفضاء الجميل الذي احتضن معرضا للوحات الفنية التشكيلية احتفاء به، متكئا على صديقه عبد الله الديابجي، الذي كان له، إلى جانب فعاليات أخرى، الفضل في استقدامه واستعادته من المهجر، بخطى متثاقلة ولج الشرايبي القاعة تحت نظرات الإعجاب، حد الافتتان بهذا المخلوق الغرائبي والعجائبي، ذي الثمانين سنة، القادم من بلاد الجن والملائكة إلى أرض الخير، إلى أرض دكالة كما قال هو نفسه.. في هذا الحفل التكريمي المنظم من طرف الجمعية الإقليمية لرعاية الشؤون الثقافية وجمعية أثر للفن التشكيلي ومختبر الأبحاث والدراسات حول التداخل الثقافي بجامعة شعيب الدكالي، يومي الاربعاء والخميس 13 و14 دجنبر الجاري، أكد إدريس الشرايبي، أن عودته إلى الجديدة، هي عودة إلى منابع الطفولة والنوسطالجيا والتي مكنته من الوقوف مليا بأماكن عديدة نسج معها ألفة وعلاقة وطيدة، في زمن بعيد، وخاصة وقوفه على شاطئ البحر، الذي لم يتغير لونه منذ تركه آخر مرة مند 21 سنة، رغم تغير الكثير من الأشياء، واستمتع بزقزة الطيور والتي لم تتغير، ربما منذ ثمانين سنة، والتقى ببعض الحمر،(Ce sont mes frères) على حد تعبيره، والتي نسج معها، في يوم من الأيام، علاقة مودة وإخاء، نظرة فلسفية للحياة ولكنها الحقيقة في أبسط تجلياتها، التي ظل يبحث عنها في بلاد المهجر وأكد الشرايبي والذي كان يتحدث للعديد من الفعاليات الثقافية والفنية، أنه وجد راحة شاملة افتقدها هناك ببلاد المهجر، وجعلته يتساءل عن أدق الجزئيات التي عاشها في الماضي البسيط، وأم الربيع، منذ الستينات ونسج معها ألفة ومودة خاصة ومنها سجائر الفافوريت وطابا سبور والتروب والشاي بالنعناع والشيبة، معترفا بتجدره وارتباطه بتربة دكالة رغم جدوره الفاسية، فوالداه انتقلا في بداية القرن الماضي إلى الجديدة وكان والده تاجرا في مادتي الشاي والسكر...وانتقل الشرايبي للحديث عما يقع في بلاد العالم من تقتيل ودمار شامل بكل من لبنان وفلسطين والعراق وتساءل عن الأسباب الحقيقة وراء الهجمة الشرسة التي تنظم ضد تخصيب الاورانيوم بإيران وكوريا، وتساءل عن السكوت المريب، كلما تعلق الامر، بإسرائيل وفرنسا وأمريكا والذين يملكون هم أيضا قنابلهم الموقوتة، متمنيا أن يمهله الله وأن يطيل عمره ولو لستة أشهر من أجل إنهاء مهمتين لا ثالث لهما وتتعلق الأولى بإنهاء المشروع الذي بدأ كتابته، رواية استلهم أحداثها وشخوصها، خلال يوم من أيام الصيف الماضي، عندما استيقظ على وقع قنبلة(بفتح القاف) مدينة قنا، الرواية كما يقول الشرايبي، تنطلق من سقوط منزل على سيدة وضعت بنتا، السيدة توفيت والبنت ظلت مرتبطة بها وحية، عبر حبل السرة، وتتعلق المهمة الثانية باعتماد مجموعة من الفنانين الشباب المغاربة واحتوائهم فنيا وأدبيا، خاصة أن حدثا أثر في نفسيته بشكل كبير، عندما استقل سيارة أجرة صغيرة بمراكش ووجد السائق يتحدث بلغة جميلة وأدبية راقية عن الحريري، سأله من أين تعلمت ذلك؟ فوجئ لما وجد السائق طالبا مجازا ومعطلا...ثمانون سنة من العطاء المتواصل في الكتابة والإعلام السمعي، والابداع الفني، (الشرايبي اشتغل كمنتج بإذاعة فرانس كيلتير إلى غاية إحالته على التقاعد سنة 1986)، الحضور القليل والنوعي، الذي حضر اليومين التكريمين، اكتشف الشرايبي المهووس بالموسيقي حد الجنون، المهووس بمحمد عبد الوهاب وأسمهان وأم كلثوم، إلى درجة أنه ورغم وضعيته الصحية الحرجة، جلس خلال الامسية الفنية التي أحيتها فرقة محلية، على بعد سنتمترات من الجوق، وظل يتابع أغنيات، جفنه علم الغزل وياجارة الوادي وكلي ذا كان ليه، وعندما أنهى المطرب وصلته، انتفض من مكانه فرحا مستبشرا كطفل صغير، إلى درجة، أنه كاد أن يسقط وعانقه بالأحضان في مشهد غريب، ثمانون سنة من العطاء والحضور الدائم جعل عبد الكبير الخطيبي يقول في حقه: »الشرايبي طاقة إبداعية وفنية غريبة، فهو أول من امتلك أليات الاشتغال على الرواية وفهم أصولها وجدورها، خاصة في كتابته للماضي البسيط، ورغم مجايلته لمولود فرعون وكاتب ياسين والذين كانا يقدمان شهادات حية وليس رواية كما فعل الشرايبي والذي وظف تقنيات الكتابة الروائية الأمريكية والتي تعتمد السرعة واختيار الشخوص المتحركة، بإيقاع متنوع، في تلك الفترة أتيحت لي فرصة دراسة وتحليل كل من رواية الماضي البسيط والتيوس وتعاقب مفتوح في كتاب حول الرواية المغاربية، وظللت اتابع إنتاجه عن قرب، الشرايبي كاتب وليس بسياسي، والكاتب مفروض فيه الاعتماد على الخيال ليبدع وينتج... « تحدث الشرايبي عن تواجده بالمهجر وعن حياته وعن علاقاته بالناشرين وعن تدبيره لحياته اليومية التي فوضها لزوجته، وعن زواجه من شينا الزوجة الرائعة التي حسب شهادته أهدته أجمل هدية في الحياة، ثلاثة أطفال أولهم، ولد في يوم من أيام رمضان بالجديدة، تحدث عن عدم وجود اسم الشرايبي في دفتر الحالة المدنية بالجديدة وعلق ضاحكا بأن المستعمر أخذه معه، ولم يستطع تسجيل ابنه منير لعدم وجود هوية لأبيه ولا يمكن بالتالي تسجيل ابن دون تسجيل أبيه في دفتر الحالة المدنية.. الشرايبي تمنى ان يظل حيا إلى أن يرى المغرب بلدا متسامحا ومنفتحا، يهتم بالثقافة والمثقفين والفنانين وفسح المجال للطاقات الواعدة التي تجسد المستقبل الواعد، وتحدث عن كتاباته في جلسة حميمية، عن الماضي البسيط الذي كان باكورة أعماله سنة 1954، والذي خلق له مشاكل متعددة مع الوطنين المغاربة ومع والده بخاصة، الحاج الفاطمي، الذي قطع عنه مصروفه المالي الذي كان يرسله له إلى فرنسا وكيف دبر أموره هناك، تحدث للأحداث المغربية، في دردشة قصيرة، رغم إحساسه بالتعب، عن بحثه الدائم والمتواصل عن الحقيقة التي قال عنها في رواية، تعاقب مفتوح: »الحقيقة في العمق..إحفر يا إدريس..إحفر.. «. وتحدث عن الحضارة أماه، والتي ناضل ودافع من خلالها عن حرية المرأة، هذا الكائن الجميل، وتحدث في أم الربيع عن الحركة الامازيغية وعن اليهود وعن التساكن والتعايش الذي عرفه المغرب منذ أقدم العصور بين كل مكوناته...لا يمكن الحديث عن الشرايبي دون الحديث عن صديقة عمره، زوجته شينا ميكاليون الشرايبي، ذات الجنسية الاستكتلاندية، والتي وقفت إلى جانبه، وأغنت تجربته وثقافته ومعرفته بالأدب الإنجليزي، الشرايبي فخور بزوجته وأبنائه الذين يملكون ثلاث ثقافات وثلاث جنسيات، شينا أكدت من خلال شهادتها في حق الشرايبي، أنها تعرفت عليه في بداية السبعينات، حينما كان يكتب رواية الحضارة أماه، وواكبت مسيرته الفنية، وأكدت أن للشرايبي طقوس خاصة في الكتابة، تجعله يغيب عن العالم كله...التقى الشرايبي في بداية سنة 2000 بالملك الشاب محمد السادس أثناء تواجده بفرنسا وخلال دردشة قصيرة، لم يطلب فيها الشرايبي شيئا لنفسه، طالبه فيها الملك الشاب بمواصلة الكتابة، هذه الرغبة، يقول الشرايبي وجدها في أعين كل الذين قابلوه حتى رجال الجمارك طالبوه بالكتابة، علق ضاحكا، (إن كان لديكم هاتف الله، اطلبوا منه أن يمهلني بعض الوقت لأتم ما بدات كتابته)...الشرايبي وخلال تواجده بالجديدة، استفز المسؤولين البلديين وطالب منهم الاهتمام بالثقافة، والتي تعد عنصرا أساسيا من عناصر التنمية البشرية، وتبقى الإشارة ضرورية في الأخير، إلى أن هذا التكريم جاء في وقته وكان ناجحا بكل المقاييس...