يقول عبد الله العروي (( إذا انتهى ماضٍ جليل إلى حاضر ممقوت يفقد الماضي كثيراً من جلاله ، بسبب ذلك الإخفاق لا في أعيننا فقط بل في ذاته وماديته ولحمته )) .وهذا القول ينبه لحالة عربية من اليأس يحاول العروي أن يشير إليها في سياق التعامل مع الإشكالية التاريخية المنطلقة من الواقع المهزوم والمأزوم للأمة ، حيث تتلاحق الهزائم واحدة تلو الأخرى ، فيعيش العربي حياة مليئة بالانتكاسات مما ينعكس بالضرورة على تركيبته البنيوية ، فيستقبل كل المقبلات نحوه ، وفق صورة من انقطاع الأمل وتبكيت الضمير ، الفردي والجماعي ، وهذا ما لاحظناه مؤخراً لدى شريحة مجتمعية عربية من المثقفين ، كانت قد تلقت الهجوم العسفي الحاقد على الرسول العربي محمد ( ص ) سواء من قبل راسمي الكاريكاتير أو ( البابا ) أو من أتى وسيأتي بعده .. فنحن لسنا أمة في آخر درجات الحضارة ولن نكون ، حتى لو انهزمنا ، أو انتكسنا ، أو أصابتنا حالة من التراجع المنعرجي في ركب الحضارة العالمية ، لأنه لا يمكن فصل حاضر الأمة عن ماضيها ، أو هكذا على الأقل ينظر في السياق الحضاري للشعوب ، فمشعل الحضارة ينتقل من جيل إلى جيل و الإرث الحضاري لا ينقطع ليتواصل من جديد ، بل هو استمرار وتواصل تعلو النسبة أو تقل حسب الحالة ( الواقع ) المعطيات ولم تكن المسألة التكنولوجية المتقدمة المتطورة في الغرب اليوم لتكفي كمعيار حضاري وحيد وأوحد .. فمعايير الحضارة عديدة ، وأهمها المعطى الإنساني بل هو أكثر قرباً من جوهر الحضارة . وهذا ما ليس موجوداً لدى الأمريكان ولا حتى الكثير ممن يدعي الحضارة في الغرب .ومما لا شك فيه فإن البحث العلمي والتأكيد على الاستمرار في الدفع نحو تقدم تكنولوجي لدينا كأمة ، إنما يساهم كذلك في إعادة رسم الحالة الحضارية من جديد ويساهم في وصل ما انقطع لتدعيم إمكانية حقيقية للتصدي ، علماً بأنه ليس بالضرورة أن كل من تتم مهاجمته يجب أن يكون مركز العالم ، أو في العليين حتى يجري الهجوم عليه .. بل إن الأمريكان مثلاً وعلى مدى التاريخ _ وهذا ما أكده كاتب ألماني كبير في كتابه ( المولوخ إله الشر ) _ يحاولون أن يبنوا حضاراتهم وقوتهم على أنقاض حضارات أخرى . وفق سياسة البطش الفكري العسكري والثقافي وما شابه . وهم على استعداد أن يخترعوا أعداء لهم حتى يستمروا في الحشد ضد عدو خارجي أكان وهمياً أم حقيقياً . ولا يمكن أن يكون الهجوم القائم في هذه الفترة الزمنية من التاريخ الحديث للشعوب على الرسول محمد ( ص ) خارج السياق ، أو بعيداً عن الحالة الصراعية للحضارات ، في وقت دأبت فيه معظم الشرائح الثقافية والدينية الإسلامية على الدعوة إلى حوار حضاري هو الأجدى والأفضل ، وهذا ما يؤشر إلى نظرة عربية إسلامية حوارية وإنسانية ، ليست منطلقة من تشنجات ومسبقات فكرية لا طائل منها ، ولم يحثنا نبينا عليها بالأصل والأساس .وفي أتون التعامل مع الغرب الحواري والحضاري ، يجب أن لا تنسى على الإطلاق ماهية نظرتهم الحقيقية لنا ، خاصة وأن المسألة تأخذ طابعاً جديداً هذه الأيام .. فعندما تصل القضية إلى البابا _ ومهما قيل من أنه لم يقصد _ حيث الاستشهاد عاده ما يدعم رأي الكاتب ، وعندما تصل المسألة لهذا المستوى ، فإن وراء الأكمة ما وراءها .. ولم تعد القضية مجرد انفعالات سريعة أو ردات فعل عاطفية وغير واعية .وإذا كان الطغيان إرثاً ، وإذا كان التفكير اللاديمقراطي توريثاً .. فإن ماضينا ليس كله طغياناً ، وليس جله انتفاء للديمقراطية أو ابتعاداً عن العدل والحرية وهما صنوان متكاملان لا فصم بينهما .. ولسنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة فهي كثيرة كثيرة تبدأ من عهد الخلفاء الراشدين ولن تنتهي عند سواهم .. وعموماً فإن إرث الشعوب في جميع الأزمان ، والملل والنِّحل فيها العدل وفيها العسف ، فيها الحرية وفيها الاستعباد ، وتحمل في طياتها التطور كما تحمل التراجع والالتفاف .لا ضير أن أمتنا اليوم ضعيفة ومتراجعة ، بالمجمل والشمول ، لكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أبداً ما جرى مؤخراً في الجنوب اللبناني من تصدي مقاوم وباسل وتاريخي لآلة الإرهاب الصهيوني القاهرة أو التي يظن أنها لا تقهر ، فقهرت ، وكذلك تلك الشمعة المنيرة التي تتواصل عطاء ورسماً لتاريخ عربي حديث وناصع عبر تصاعد المقاومة العراقية المسلحة والسياسية في مواجهة الأمريكان حيث يجندل جنودهم على ارض العراق _ أرض السواد حسب الراحل عبد الرحمن منيف .. ويجعلون من أرض العراق ساحة يتعلم منها الأمريكان درسا لن ينسوه أبداً ، سيمنع في المستقبل وبالتأكيد أية محاولات تدخلية أمريكية في أية دولة عربية أو إسلامية أخرى ، وهذا ما يحدث لهم في أفغانستان مؤخراً ، وهذا هو الذي جعل ( بوش ) يعترف بأنها أشبه بحرب فيتنام ، إن العنف يتصاعد يوماً بعد يوم .. بعد أن حمل الأمريكي وعوده بديمقراطية حضارية تكون نموذجاً للآخرين ، هذه الديمقراطية التي حصدت حتى الآن وحسب دراسات بريطانية موثقة /655/ ألف عراقي فقط ، فأية ديمقراطية تكون هذه نتائجها ، وهذه خسائرها من العراقيين فقط ، عدا عن الأمريكان والجنسيات الأخرى . نعم تلك حضارتنا وهذه حضارتهم .. هذا حالنا وذاك حالهم .. ومع ذلك فأنا مع الدكتور عبد الرحمن عطبة حين قال : (( بعيداً عن أي انفعال ، علينا إحكام العقل ، وأن نحسن قراءة ما بين السطور .. وأن ندرك الأبعاد ، وأن نسبر الأغوار والأعماق .. وهذا أمر ليس باليسير ، ولا يمكن تحقيقه إلا بتحصين شخصيتنا بالمناعة التي تستعصي على الاختراق ، بتقوية إرادتنا ، وبالاستزادة من العلم ، وبالتخطيط الدقيق .. وشحذ إيماننا وتمتين صلتنا بالله : وهذه الأمور هي طلائع النجاح في كل عمل ، ومقدمات النصر في كل معركة )) .حركة القوميين العرب