الدرهم يتراجع بنسبة 1,18 في المائة مقابل الدولار الأمريكي بين شهري شتنبر وأكتوبر (بنك المغرب)    الطرمونية: حزب الاستقلال يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة بدكالة    وقفات تضامنية مع غزة ولبنان بعدد من مدن المملكة        الدريوش يتلقى استدعاء لتمثيل هولندا    عدد وفيات مغاربة فالنسيا بسبب الفيضانات بلغ 5 ضحايا و10 مفقودين    دهس عمدي يوقف 7 أشخاص بالبيضاء    بواسطة برلمانية.. وهبي يلتقي جمعية هيئات المحامين بالمغرب غدا السبت    فعاليات الملتقى الجهوي الثالث للتحسيس بمرض الهيموفيليا المنعقد بتطوان    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        قيود الاتحاد الأوروبي على تحويلات الأموال.. هل تُعرقل تحويلات المغاربة في الخارج؟    أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    سانت لوسيا تشيد بالمبادرات الملكية بشأن الساحل والمحيط الأطلسي    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    "جبهة نقابية" ترفض المس بالحق الدستوري في الإضراب وتستعد للاحتجاج    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    الطفرة الصناعية في طنجة تجلعها ثاني أكبر مدينة في المغرب من حيث السكان    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان        إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جريدة " الصباح " تنشر غسيل مستشفى محمد الخامس بآسفي وتصف مستعجلاته ب"الكرنة" و زريبة للأنعام والمواشي
نشر في أسيف يوم 12 - 11 - 2012


الإهمال والتهميش ينخران مستشفى عاصمة عبدة
"الصباح" تروي تفاصيل جريمة في حق الإنسانية تدور رحاها منذ سنوات بالمستشفى الجهوي بآسفي
آسفي على هامش جغرافيا الوطن... وقدر من/ ما يكون على الهامش أن ينال قدرا غير يسير من التهميش، ونصيب هذه المدينة الساحلية من الإهمال وافر قد لا تمحوه حتى أمواج المحيط الأطلسي التي دأبت، منذ الأزل وإلى الأبد، على مداعبة ضفاف عاصمة عبدة الغنية بثرواتها الفلاحية والبحرية والمعدنية والمائية... "الصباح" تضع تحت مجهرها من خلال هذا الربورتاج مظهرا يعكس بالملموس حجم نصيب هذه المدينة من التهميش، ويرصد النزيف الحاد الذي يعيشه قطاع الصحة بهذه المدينة التي أفردت لها الجغرافيا مكانا منزويا على التخوم المحاذية للبحر، وارتأت الدولة أن تُكرس عزلتها وتهميشها وأن تجعل منها بؤرة يعشش فيها الفساد الإداري والأخلاقي. بل إن آسفي لا تمثل، في حسابات الدولة، إلا رقما اقتصاديا، ومنطقة صناعية بمعامل تتلقف ثروات المنطقة الفوسفاطية والسمكية والفلاحية لتحيلها إلى معاملات بمليارات الدراهم لا تنال المنطقة وأبناءها منها سوى النزر القليل والكثير من التلوث الذي عاث ويعيث تخريبا في صحة وأجساد العبديين... دون أن يرأف لحالهم لا المنتخبون ولا رجال السلطة المحلية ولا ممثلو الإدارة الترابية... هذه بضع مشاهد من المجزرة التي تُرتكب بمستشفى محمد الخامس الجهوي بآسفي.
صحة آسفي عليلة ينخرها المرض والعلل، أما التهميش والفساد والإهمال فإنها تفشت فيها كما يتفشى المرض الخبيث في أطرف جسد حسناء يافعة مقبلة على الحياة بكل الرشاقة والخفة اللتين حباها الله بهما. ما أنتم الآن بصدد قراءته ليس إلا غيضا من فيض النزيف الذي يعيش على وقعه مستشفى محمد الخامس الجهوي في قلب عاصمة عبدة. نزيف ترصده العين دون بحث ولا تمحيص. يكفي وزير الصحة وأطرها السامين على المستوى المركزي أن يحلوا بمقر المستشفى، الذي صار حال بناياته ومظهره من الخارج يثير الشفقة ويبث اليأس في نفوس المرضى، عوض أن يزرع فيهم الأمل والتفاؤل بشفاء عاجل وكامل، أو فقط تخفيف الآلام وتهوين حدة الأوجاع، (أن يحلوا) على حين غرة ليقفوا على أفظع وأسوأ مما وقفت عليه "الصباح" خلال ثلاث زيارات، إحداهما علنية وبشبه إخبار لإدارة المستشفى (في شخص المندوب الجهوي لوزارة الصحة بإقليم آسفي)..
مستعجلات لا إنسانية
وإذا أُتيحت لأحدهم فرصة زيارة واحد من الأسواق الأسبوعية العديدة بالمنطقة، ومنه انتقلوا مباشرة إلى جولة مفاجئة وسرية عبر أقسام وأجنحة المستشفى المتهالك (شُيد سنة 1953)، فسيقفون على قسم مستعجلات أشبه بواحد من المذابح (البوطوار أو الكرنة، كما يصطلح عليها حرفيو الجزارة) المنتشرة في الأسواق الأسبوعية بالمنطقة. الفوضى الموجودة في المذابح حاضرة في قسم المستعجلات. عشرات المواطنين، من بين المرضى ومرافقيهم، متكدسون في ردهات هذا القسم متسخ الجدران والكئيب والمشبع بالروائح النتنة. بعض هؤلاء يتحلقون حول شاب مصاب إصابة بليغة في الرأس ممدد فوق حمالة والدماء تغطي كامل رأسه، إذ لم تسعف الضمادات في شفط ما نزف من جرحه من دماء.
"وعباد الله واش هاد الطبا (الأطباء) ما في كلبوهم رحمة؟ واش يبقى هاد السيد حتى يموت عاد يجيو يكفنوه؟" يصرخ أحد مرافقي المصاب بصوت عال. صرخته لا تصطدم إلا بالجدران الصماء لقسم المستعجلات. يمر ممرض بجانب الحشد المتحلق حول الشاب المصاب. يلقي نظرة خاطفة من فوق مناكبهم ويواصل طريقه إلى خارج القسم. أمر لا يصدق؛ الممرض (أو ملاك الرحمة كما يُطلق عليهم) لم يكلف نفسه حتى عناء الاطمئنان على حال المصاب، الذي قضى أهله أكثر من 14 ساعة ينتظرون عرضه على الطبيب المختص في هذا النوع من الإصابات، أو حتى توجيه مرافقيه إلى الجناح حيث يمكن أن يكشف عليه طبيب مختص، إن وُجد طبعا.
قاعة الملاحظة (أو salle d'observation كما يُسميها غالبية المترددين على قسم المستعجلات) وضعها أكثر كارثية وتنعدم فيها كل شروط وظروف المعاملة الإنسانية التي يُفترض أن يلاقيها المريض. مرضى متكومون على أنفسهم يتلوون من حر الألم فوق مراتب عارية من أي غشاء يستر بقع الأوساخ التي تلطخ كل جزء منها. روائح الدماء والجروح المتعفنة تزداد نتانة وحدة داخل قاعة الملاحظة. الأوساخ تملأ أرضية القاعة وتكمل المشهد التراجيدي الذي يعيش في وسطه كل من اضطر للجوء إليها بحثا عن أيد رحيمة تنقذ حياته وتحول دونه والموت.
جحر غارق في الدماء والنتانة
لا شيء ينبئ بأن المرء يتجول وسط مصلحة ضمن قسم المستعجلات. الأمر أشبه ب"سلخانة" تعلق فيه الشياه في انتظار السكاكين والسواطير التي ستحولها إلى قطع كل واحدة مستقلة بذاتها. ممرض آخر بزيه الأخضر الداكن "يُعقم" بعض المشارط وأدوات جراحة أخرى، في مشهد لا يفرق شيئا، البتة، عن مشهد غسل أواني الطبخ في حوض غسل. في ركن منزو يتمدد شيخ يقارب الثمانين من العمر فوق مرتبة يغطي الصدأ بعض أجزائه أما الأوساخ والقذارة فلا يكاد جزء منه يخلو منها. الشيخ يغلف جسده الهزيل ببطانية محاولا صد هجمات برد مسائي قارس. غير بعيد عنه يرقد طفل صغير ممدد فوق سرير مغلف بغشاء بلاستيكي سميك. الطفل يعاني إعاقة في يده اليمنى خلفت له مضاعفات سببت له آلاما حادة. من جلبه إلى هنا كان يعتقد أن مستعجلات مستشفى محمد الخامس توفر للمرضى أسرة بأغطية وأفرشة لتقيهم على الأقل لسعات البرد القارس... لا أغطية ولا علاج.
جولة في هذا الجحر الغارق في الدماء البشرية المتعفنة والروائح الكريهة تخلف غصة في الحلق وشعورا بأن آدمية العبديين معادلة أو أحقر حتى من حياة ذبابة أو بعوضة. شعور لا يوجد ما ينفيه أو يلطفه، بل فقط ما يعمقه ويكرسه. وجناح الولادة خير ما يفعل ذلك. جناح أقل ما يمكن أن يُقال في حقه إنه زريبة للأنعام والمواشي، وليس فضاء لاستقبال مواليد جدد. قبل أن تدلف إليه عليك غلق خياشيمك بإحكام تام. أرضية الردهة التي تصطف على جنباتها غرف النساء النفساء مبقعة أوساخا من آثار أقدام هؤلاء النسوة وزوارهن. منظر صادم يستقبلك بمجرد أن تقطع بضع خطوات بهذه الردهة الطويلة. إنه مدخل المرحاض الوحيد بهذا الدهليز والذي تتناوب عليه كل النفساء ومعهن بعض الزوار. عند مدخله بُسطت قطعة كارتون عجزت عن امتصاص ما يعلق بأقدام من يغادرونه بعد قضاء حاجاتهم.
كلما تقدمت أكثر تزداد حدة الرائحة المدوخة والمثيرة للغثيان؛ رائحة يمتزج فيها العفن المعشش في أركان هذا القسم بروائح النساء اللائي لم يغتسلن بعد من آثار عملية الوضع. بعض غرف هذا القسم تتكوم فيها النفساء بأعداد تصل إلى ست أو سبع نساء أحيانا، وفق تأكيدات مصادر من داخل القسم. هنا النسوة وحدهن يقوين على تحمل النتانة المنبعثة من كل مكان، غالبية الذكور والأطفال يغادرون الغرف بمجرد أن يلقوا التحية. إنارة الغرف قاتمة كثيرا، لكن بعضها محروم من أي شعاع للضوء ما يتسرب من النوافذ التي تعلوها الأوساخ والغبار.
"جناح الإثراء السريع"
"مجانية التكفل الشامل بالمرأة الحامل" هذا ما ينطق به ملصق معلق عند مدخل قسم الولادة. الملصق، الصادر عن وزارة الصحة، فقدت ألوانه الناصعة وهجها، كما فقد منطوق الملصق فلسفته ومضمونه. ففي هذا القسم ضربت الرشوة أطنابها وتجذرت حتى صارت عرفا معمولا به وبتعريفات محددة لكل عملية ولادة. "الرشاوي التي تتلقاها بعض القابلات بهذا القسم تتراوح بين 300 و1000 درهم، حسب العملية (عادية أم قيصرية) وكذلك إمكانيات الحامل"، يشرح جمال خلفي، عضو مكتب المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف فرع آسفي، خلال لقاء مع "الصباح". ثم يستطرد مؤكدا "بعض المولدات لا يقبلن تخفيض هذه التعرفة، فيرفضن استلام مبالغ مثل 100 درهم، ويخبرن الحوامل أو مرافقيهن بأن يدفعوا مبلغا قابلا للقسمة على ثلاث قابلات". هذه الحقائق وأخرى (أنظر المؤطر) ضمنها الناشط الحقوقي، الذي يعلم الكثير من خبايا المستشفى، ضمن تقرير وجه نسخة منه إلى وزارة التقدمي لحسين الوردي وأخرى إلى السلطات المحلية والترابية والمنتخبين بالإقليم، هؤلاء يقول خلفي "منشغلون بمراكمة الثروات والاتجار في أرواح الناس وصحتهم وآخر ما يمكن أن يخطر لهم على بال هو الالتفات إلى حال هذا المستشفى الذي يدمي القلب".
محمد المختاري، وهو من موظفي مستشفى محمد الخامس الذين فضلوا التقاعد المبكر على الاستمرار في تأثيث فضاء مسرحي يدعي القائمون عليه السهر على توفير الخدمة التطبيبية لأهل عبدة، يؤكد واقع تفشي الرشوة بقسم الولادة، ويذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إنها "لا تقتصر على هذا القسم، بل إنها تنخر أقساما أخرى مثل الجراحة الذي ترتفع فيه التعريفات إلى ما بين 1500 و2000 درهم"، مضيفا أن الشهادات الطبية بدورها "تُسلم مقابل مبالغ تتراوح ما بين 100 و150 درهما". يروج هذا في الوقت الذي يقدر عدد اللائي يقصدن قسم الولادة للوضع بحوالي 10 آلاف امرأة سنويا، ومثل ذلك ممن يترددون على أقسام الجراحة بمختلف أنواعها... ولكم أن تجروا عملياتكم الحسابية وتقدروا حجم الثروات التي تُجنى من جيوب الضعفاء والمساكين، الذين يؤدون ثمن خدمة صحية مرتين دون أن يستفيدوا حتى من نسبة 5 في المائة منها، يشرح المختاري بمرارة كبيرة.
"معتقل تزمامارت"
إذا أردت أن تفر من أقسام الدماء والروائح الكريهة فلن تقودك قدامك إلا إلى أجنحة أخرى يستوطن هياكلها فساد آخر؛ فساد يكشف الغش في عمليات بناء بعض الأقسام، مثل مركز تصفية الدم الذي لا تتحرج مياه الأمطار في الانسياب عبر سطحه وإلى أرضية ردهاته المليئة أوعية بلاستيكية وأغراضا لا يبدو أن أيا من مرتادي المركز قد يحتاجونها. قسم الأمراض العقلية والنفسية أكثر سوءا وترديا. "إنه معتقل تزمامارت"، يقول خلفي معلقا على مشهد حجرات أبوابها من سياج صلب شبيهة بالزنازين الانفرادية التي يُحتجز فيها عتاة المجرمين. حالها هذا القسم من المستحيل أن تشجع أي صاحب اضطراب نفسي على استعادة قواه العقلية، بل إنها تهدد بمفاقمة أحوال من لا طاقة لهم على تحمل فضاء أشبه ما يكون بخم دجاج أو قفص حيوان ضاري.
الإشكالية التي تثير الريبة في النفوس، حتى الأكثر طهرانية وصفاء، هي أنه قبل حوالي عشر سنوات وضع برنامج أطلق عليه "مشروع تمويل تدبير القطاع الصحي" (بدعم من الحكومة الكندية وتم إطلاقه بين سنتي 2002 و2006)؛ مشروع رصد للمستشفى "84 مليون درهم"، يقول أحد الستة الذين تعاقبوا على تسيير هذا المستشفى في ظرف... ثلاث سنوات؟؟ المدير نفسه، والذي اشترط عدم كشف هويته أو ذكر الفترة التي تولى فيها إدارة المستشفى، كشف أن أحد أوجه هذه الاختلالات تتمثل في "صرف 54 مليون درهم على شراء تجهيزات ومعدات، بعضها لم تسعه قاعات الأجنحة التي كان موجها لها، وفئة ثالثة لم تتوفر الأطر التقنية المؤهلة لتشغيلها وصنف ثالث ظل حبيس أقبية المستشفى منذ 2004 وإلى اليوم دون أن يستفيد منه المرضى، رغم أنها كانت من أحدث ما أنتجت التكنولوجيا في ميدان الطب".
"منتخبون انتهازيون"
المدير الذي كشف للصباح هذه المعطيات، في اتصال هاتفي، بعد تعذر اللقاء به نظرا لوجوده خارج إقليم آسفي، كشف أيضا وجود لوبيات من خارج المستشفى كان لها دور كبير في عرقلة محاولات الإصلاح التي سعى إلى تطبيقها خلال المدة القصيرة التي قضاها بالمستشفى. ومن هؤلاء يذكر المنتخبين، الذين لا يتذكرون مستشفى آسفي إلا عند دنو حملة من الحملات الانتخابية، إذ "يصير الحق في الصحة والتطبيب ورقة تشترى بها أصوات الناخبين واستمالتهم"، ثم يضيف "بعضهم يخصص حافلات وشاحنات لنقل سكان دوائرهم الانتخابية إلى المستشفى للاستفادة من التطبيب". الأمر نفسه "يفعله بعض رجال السلطة المحلية وممثلي الإدارة الترابية". أما ضعف اللوجيستيك ومقومات البنية التحتية وهشاشتهما فأرجعهما مصدرنا إلى أن ميزانية الاستثمار ليست بأيدي مديري المستشفيات بل من اختصاص المصالح المركزية للوزارة، أما الصيانة فبدورها لا تدخل في اهتمام المصالح الصحية بالإقليم، إذ شرح مصدرنا أنه "لا تُخصص لا ميزانية ولا تقنيون مؤهلون للقيام بها".
أما الموارد المالية فقال إنه لا أثر لأوجه صرفها ولا من أين تم تحصيلها، إذ "في كثير من الفترات لم يكن يُترك أثر (des opérations sans traçabilité) للمعاملات المالية للمستشفى، وهو ما يوفر المناخ الملائم للتلاعب في ميزانية وموارد المستشفى دون حسيب ولا رقيب".
الإهمال والتهميش بمستشفى محمد الخامس الجهوي بآسفي لا يقتصران على التجهيزات والمعدات، بل إنهما يهمان أيضا إهمال بعض الأطر الطبية وشبه الطبية لأداء مهمتها النبيلة والإنسانية، ما أدى إلى عدد من الأخطاء انتهى بعضها بموت الضحايا، وأخرى انتهت بعاهات مستديمة. مصدر حقوقي إن القضايا الرائجة حاليا أمام المحاكم بالإقليم ضد أطباء بالمستشفى أو ضد المستشفى نفسه لا تعدو كونها الجزء الظاهر من جبل الجليد، موضحا "أن هناك الكثير من الضحايا والأسر التي رُزئت في قريب أو أحد أفرادها لم تبادر بعد إلى تحريك متابعات قضائية بسبب جهلها بما يخوله لها القانون من حقوق أو عدم قدرتها على تحمل أعباء المساطر القضائية الطويلة".
محمد أرحمني
مؤطرات
"مؤامرة تستهدف صحة أبناء آسفي"
بضعة أيام قبل انتقال "الصباح" إلى آسفي لإنجاز هذا الربورتاج أصدرت النقابة الوطنية للصحة العمومية بالمدينة (تابعة للفيدرالية الديمقراطية للشغل) بيانا رصدت فيه هول الخصاص الذي يعرفه قطاع الصحة بالإقليم، وتحدثت عن اختلالات في التسيير والتدبير "حتى أصبح الأمر يوحي للمتتبع أن هناك مؤامرة تستهدف صحة المواطنين بهذا الإقليم، الذي يصل عدد سكانه إلى 661 ألف نسمة ولا يتوفر إلا على مركز استشفائي وحيد".
ورصدت النقابة في بيانها، الذي تتوفر "الصباح" على نسخة منه، الخصاص والنقص في الأطر، فالأطباء الأخصائيون "لا يتجاوز عددهم 56 طبيبا مختصا، ما يعني أن طبيبا واحدا لكل 11800 شخص، أما الأطباء العامون فعددهم محصور في 14 طبيبا، وبعملية حسابية فإن كل واحد من هؤلاء مضطر لخدمة 47214 مواطنا. أما الأطر شبه الطبية فمجموعها لا يتجاوز 284 ممرضا ومن عملية قسمة يتبين أن كل واحد من هؤلاء يخدم 2327 مواطنا من كافة مناطق الإقليم".
هذا الأمر اعتبرته النقابة "نقصا مهولا لا يلبي الحد الأدنى من الخدمات الطبية المفروض توفيرها للمواطنين". لم تكتف النقابة برصد هذه النواقص، بل طالبت "بتعيين مدير للمركز الاستشفائي قادر على اتخاذ القرار في الوقت المناسب"، و"معالجة النقص الحاد والمهول في الموارد البشرية"، و"إيفاد لجنة افتحاص من خارج القطاع لتقييم الواقع المتردي بالمركز الاستشفائي والوقوف على الخروقات الناتجة عن سوء التسيير المالي والإداري".
خلفي: هذه علات مستشفى آسفي
جمال خلفي، الناشط الحقوقي الذي ضاق مرارة الاعتقال أيام كان لليسار هيبة ودور في تأطير الأشكال النضالية بالمغرب، قدم للصباح خلاصة التقرير الذي رفعه إلى وزارة الصحة وكل الجهات المتدخلة في تدبير شؤون الإقليم حول الوضعية المزرية للمستشفى، خاصة أن المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف تربطه اتفاقية مع وزارة الصحة تسمح لأعضاء الأول بتتبع ورصد أوضاع المؤسسات الاستشفائية العمومية.
فقسم المستعجلات على سبيل المثال لا يوجد به إلا رئيسه وطبيب وأربعة ممرضين خلال التوقيت الرسمي (التاسعة صباحا إلى الرابعة زوالا)، أما في الليل فلا يوجد به إلا طبيب واحد وممرضين. أما أطباء الحراسة المتخصصون "فإن أقدامهم لا تطأ أرض القسم في الليل كما أيام العطل". زيادة على نقص حاد في الأدوية والمعدات (أقنعة الأوكسجين، أجهزة إجراء تخطيط القلب...).
قسم الأشعة وعلاوة على مشاكله وتعطل أجهزته المستمر يشرف عليه ممرض عوض تقني، وهذا الخلل يكلف الدولة ملايير السنتيمات، كما يكلف المواطنين المغلوبين على أمرهم أموالا طائلة. فتعطل "السكانير" يضطر كثيرون منهم إلى إعادة إجراء الفحص بالأشعة عدة مرات ما يعرضهم لهذه الإشعاعات. أما الفحص بالصدى (الراديو) فلا يعمل به "سوى ثلاثة أخصائيين وعندما يقصدهم المريض يحددون له موعدا "قد يصل إلى ستة أشهر، دون مراعاة ما إن كانت حالته مستعجلة أم لا، وهو أسلوب ناجع لابتزاز أكبر كم من المال من المواطنين". هذه المشاكل تمتد أيضا إلى أقسام الجراحة وطب العيون وقسم القلب والشرايين وجناح الأطفال، الذي يعاني خصاصا في الطباء وضعفا في الطاقة الاستيعابية.
خلفي استغرب خلال حديثه مع "الصباح" تهميش وزارة الوردي لهذا المستشفى، وذهب في تحليله إلى القول إن وزير الصحة، المنتمي إلى حزب التقدم والاشتراكية، "يخص إقليم الجديدة بمعاملة وحظوة خاصتين نظرا للمقاعد الأربعة التي حصلها حزبه بالإقليم"، مضيفا أن "الوردي قام، منذ تعيينه، بالعشرات من الزيارات إلى مستشفى الجديدة دون أن يفكر في القيام ولو بجولة استطلاع واحدة إلى آسفي"، واعتبر أن السلوك "يخدم أجندة سياسية وليس الخارطة الصحية بالمغرب".
حوار مع مندوب الصحة بآسفي
مرابطي: الوزارة تبذل جهودا جبارة لسد الخصاص
ما الذي دفع ستة مدريرين إلى تقديم استقالتهم في ظرف ثلاث سنوات؟
لم يستقيلوا كلهم، بل منهم من تمت ترقيته، باستثناء الدكتور رقيب. الأمر يتعلق بتغيير وحركية تعرفها جميع المندوبيات، ومع مجيء الوزير الحالي صرنا نلاحظ نوعا من الاستقرار.
بعضهم يتحدث عن عراقيل ومقاومة من أطر داخل المستشفى؟
هذه من بين المغالطات الرائجة، لأن المدير الحالي، الذي ينتظر الموافقة على طلبه للاستقالة، يتحدث عن أسباب صحية محضة، وإذا كانت لديه معطيات عن أي مضايقات فليقدمها إلينا.
ما هو تشخيصكم للوضع الصحي بالإقليم خلال هذه الفترة التي قضيتموها على رأس مندوبية وزارة الصحة؟
الوضع في الإقليم ليس بالحدة التي تتحدث عنها الصحافة الوطنية، وهو شبيه بما هو عليه الحال في الكثير من أقاليم المملكة، بل لدينا أوراش كبيرة للنهوض بقطاع الصحة بآسفي، مثل مشروع بناء مركز جهوي للأمراض النفسية والعقلية ومركز جهوي للأنكولوجيا...
وكيف تقيمون جودة الخدمات الصحية بالمستشفى؟
يجب أن نعرف أن هذا المستشفى حل في الرتبة التاسعة السنة الماضية على الصعيد الوطني في مباراة الجودة، وهذا رغم الإمكانيات المحدودة، خصوصا البشرية، مثل أطباء النساء والتوليد وأطباء الجراحة العامة والممرضين، إذ هناك خصاص مهول في هذه الأطر ومع ذلك تمكنا من تحقيق رتبة متقدمة وتم تسجيل قرابة 12 ألف عملية ولادة بالمستشفى، بينها 932 عملية قيصرية على يدي طبيبين اثنين فقط، وهذا يمثل إنجازات مهمة. وعليه فأداء المستشفى يظل مهما، وحقيقة فغياب المسؤولين يؤثر كثيرا، فالآن المستشفى بدون مدير مؤقتا وهو ما يؤثر على السير العادي للمستشفى.
ما هي النقط السوداء بالمستشفى التي تعرف خصاصا وترديا في خدماتها؟
بالنسبة إلى مستشفى محمد الخامس فهو مستشفى جهوي وفيه تقريبا كل الاختصاصات، باستثناء تلك الموجودة في المستشفيات الجامعية. ما يمكن أن نسجله هو النقص في بعض الموارد البشرية، أما عدد الأسرة ومؤشر نسبة الملء فهو مُرض، فمثلا جناح الأطفال تصل نسبة الملء فيه إلى 150 في المائة أحيانا.
وماذا عن قسم النساء والتوليد؟
هذا القسم أصبح به ثلاثة أطباء وتسع مولدات وهو رقم محدود، ولكن بالمقابل هناك تحسن في الخدمات ومؤشر ذلك تراجع نسبة الوفيات في صفوف المواليد والأمهات.
والأقسام الأخرى؟
مثلا مركز تصفية الكلية بدوره كان يعرف خصاصا في الأطر، لكن تم أخيرا تعيين طبيبة أخصائية به ما رفع العدد إلى أخصائيين، ومصلحة الأشعة أضيفت إليها طبيبتان أخصائيتان، ومصلحة الأطفال أصبح عدد الأخصائيين بها ستة، والجراحة العامة بها أربعة، إذن هناك تحسن والوزارة تبذل مجهودا، والخصاص موجود على الصعيد الوطني. نسجل أن هناك نزيفا في الأطر شبه الطبية الذين يتحولون إلى متصرفين ويتركون مهمتهم الأساسية وهي التمريض، وبالنسبة إلينا فالخصاص وهذا النزيف يؤثران على السير العادي للمستشفى. ورغم كل هذا فالعدد الإجمالي لحالات الاستشفاء بالمستشفى بلغ 41029 سنة 2011 بزيادة قدرها 7 في المائة مقارنة مع سنة 2010، وعدد المرضى الوافدين على المستعجلات انتقل من 69190 سنة 2010 إلى 82133 سنة 2011، بزيادة قدرها 18.7 في المائة. بالمقابل، ونتيجة انتقال بعض الأطباء الجراحين الذين لم يتم تعويضهم، فقد تقلص عدد العمليات الجراحية الكبيرة من 6042 سنة 2010 إلى 5830 سنة 2011 أي بانخفاض نسبته 3.5 في المائة.
*الدكتور فؤاد مرابطي مندوب وزارة الصحة بإقليم آسفي.
محمد أرحمني / جريدة الصباح عدد 3911


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.