تصطدم الأحلام والوقائع، ويمتزج الماضي بالحاضر، تماما كما تتشابك الأسطورة والخيال. آخر فيلم سينمائي أنجزه نبيل لحلو، "شوف الملك في القمر" يفاجأ المشاهد : يقلق الذهن و يحاصر الوعي. و فوق هذا و ذاك، فهو عمل فني يدفعنا إلى التفكير و يضطرنا لإعادة التفكير لأجل استنطاق الفعل الإبداعي و حرية الإبداع، فنسائل أنفسنا عن أنفسنا، لنتخذ موقفا من هذا العمل، ثم موقفا من تلك الحرية، ونكتشف أخيرا أنها جزء من حريتنا. نبيل لا يعرف الخطوط الحمراء و لذلك فهو يسمح لمخيلته وخياله وإبداعه أن يتصرفوا بدون أي قيد. إنه لا يبالي إن كانت الصور و المشاهد والحوارات وعملية تقاسم الأدوار بين الممثلين صادمة أو مستفزة. و النتيجة أنه يلاحق ضميرنا إلى أبعد حد ممكن و يسائلنا بلا هوادة، حتى يحقق رغبته : استحضار الشك و تأجيج الفكر لزعزعة المسلمات و البديهيات المتداولة التي يراد لها أن لا تناقش. سخرية من هنا و غمز من هناك ، و إيحاءات للتأويل وللقراءات المتعددة. نحن بحاجة إلى جهد لتفكيك الإشارات المضمرة التي تتعاقب على مدى ساعتين من مشاهدة الشريط، لأن المشاهد و الحوارات تستوعب مستويات مختلفة من الفهم، و قد يتيه المرء بحثا عن الخيط الرابط. نعم، إنها مائة وعشرون دقيقة ليحكي نصف قرن من تاريخ المغرب و يسلط الضوء على ملحمة البطل الأسطوري عبد الكريم الخطابي، مبدع حرب العصابات، والنموذج الذي ألهم زعماء من طينة تشي و هوشي مينه وماو. تنهال الأسئلة على الفكر: هل قاد الرجل تمردا أم ثورة ؟ نبيل يتيح لنا اتخاذ القرار. سؤال آخر: هل سارت الحركة الوطنية المغربية على خطى نضال عبد الكريم أم أنها أحدثت قطيعة مع منهاجه ؟ هنا أيضا، لا يحسم المخرج بل يفضل الغموض. من جهة أخرى فالرواية لا تتبع خطا زمنيا مستقيما بل أحداثها تتشابك وتتداخل، كما هو الحال مع مشاهد التعذيب المرعبة التي لا تخلو من سخرية و تصرفات خبيثة. إنها مهزلة الأشرار التي لا يمحوها الزمن، و لا زالت صفحتها لم تغلق بعد، و هو ما يبعث الإحساس بالرعب، ذلك أن احتمال للتعذيب يبقى قائما ما دامت الديمقراطية غائبة و مادام الحكم مطلقا و مزاجيا. في الماضي كان بعض المثقفين والمفكرين العرب أمثال ابن المقفع و أبي حيان التوحيدي، يقومون بدفن أو حرق كتاباتهم خشية أن تلاحقهم السلطة بعقابها القاسي و تصادر بعنفها حرية الفكر والتعبير، وربما كانت الكتب تلتهمها النيران كما حدث مع ابن رشد. أما مع نبيل، فإن أشرطة الفيلم هي التي سيتم دفنها تحت الأرض تحت مراقبة أحفاد توركيمادا، لكي يلتحق الماضي بالحاضر و يندمج معه. لماذا ؟ لأن الصورة كالكتابة تفضح الطغاة و تكشف سوأتهم القبيحة، و لأن عملية المونطاج كتابة أيضا، إنما عباراتها و ألفاظها هي مشاهد الفيلم، وهي تلتمس طريقها إلى أعماق النفس و تحرك مكنوناتها.
ونبيل لحلو يعرف كيف يوجه أدوار الممثلين بدقة لينقلنا إلى متاهات عالم أحلامه. وهنا لا بد أن أشيد بالممثلة المتميزة صوفيا، التي تألقت بهيبة الحركة و عمق النظرة و غموض الابتسامة، و سهولة الانتقال من مرحلة في السن إلى أخرى، فهي تارة شابة في مقتبل العمر، و تارة امرأة في أوسطه، و أخرى هي أم شجاعة، و أخيرا عجوز تحتضن التاريخ و تحفظ الذاكرة الجماعية. هذه الإشادة لا تقلل أبدا من جدارة الآخرين.
من جهة أخرى فإن لحظات الضحك حاضرة في الشريط، تلاقيك على حين غرة ولو على شكل رموش تتحرك أو شفاه ترتعش، دون الحديث عن المكر الذي قد يرافقه التهكم دون أن يخلو من الغمز و اللمز. هو إذن فيلم ترافعي، و إن شئت قل هو مرافعة لبست رداء شريط سينمائي، مرافعة من أجل الفن والإبداع و من أجل الحرية. بقيت في الحلق غصة، سببها النقص الكبير في الإمكانيات المادية التي أنجز بها الفيلم، بل أكاد أقول أنها شبه منعدمة، مقارنة مع وجاهة الأفكار وغزارتها.
هل لدي من نقد ؟ طبعا، ولكن فضلت أن أكتفي بالحديث عن الجوانب التي دفعتني للرضا و الارتياح، فما هذه إلا خواطر خالجتني بعد مشاهدة الشريط، أتحمل مسؤوليتها الكاملة.