تقديم جريدة بادس : لاستجلاء واقع مهاجرينا بالديار الأوروبية ، عادة ما تستوقفنا حالات العمال أو بعض الفعاليات الجمعوية النشيطة في هذا المجال أو ذاك..غير أن الصورة العامة لهؤلاء تخفي وراءها وجوها إبداعية مرموقة فرضت نفسها على الساحة الثقافية الأوروبية بمجالاتها المتعددة : أغنية مسرح سينما رواية وتشكيل..إلخ. وفي عددنا الحالي من جريدة بادس ، نقدم للقراء نموذجا لهذه الطاقات الإبداعية الخلاقة المغتربة ، والأمر يتعلق بالممثل والمخرج المسرحي الأمازيغي : أقيعان محمد العاقل ابن مقاطعة اسواني بمدينة الحسيمة الذي أبدى شغفه بفن المسرح منذ مراحله التعليمية الأولى بصيغتها الإسبانية و العربية أواخر 1956 بالحسيمة قبل أن يتنقل بين العرائش وطنجة حيث التحق بالمعهد الأمريكي للمسرح لتحصيل بعض تقنيات المسرح والسينما ...وقد ساعده ذلك في تنظيم عدة جولات لبعض ثانويات المدينة والنواحي ..إلا أنه سرعان ما غادر هذه المؤسسة الأمريكية والتحق بمدينة بلقصيري في غمرة الحماس الوطني الذي وازى سياسة السدود التي اعتقدنا ، يقول العاقل ، واهمين أنها بمثابة الحل الواقعي لامتصاص خريجي المعهد الفلاحي الأوائل بإدماجهم في عمل قار ودائم " غير أن الحقيقة المرة صدمتنا حينما أقنعنا السيد المدير بمغادرة المعهد الفلاحي هذا للبحث عن بديل ، مادام هذا التكوين الفلاحي سوف لن يفضي إلى أية نتيجة عملية !". هكذا يعود العاقل إلى مسقط رأسه ثانية حيث ظل معطلا إلى أن بادر ، رفقة مجموعة من شباب المنطقة ، بمكاتبة شركة فرنسية سرعان ما استجابت لطلبهم بتاريخ 12/03/1970 حيث تلقوا عقدة العمل مباشرة والتي شكلت بالنسبة له (العاقل) فاتحة عهد جديد بتواجده منذ تلك الفترة بفضلها بالديار الفرنسية التي تنقل فيها بين عدة مهن : عامل ، نادل ، رصاصي وغيرها ...قبل ان يرتكن إلى المسرح .. وعن مشواره الفني يصرح أقيعان :" في زيارة لي لمدينة مارسيليا Marseille تعرفت على فعاليات فرنسية في مجال المسرح الوطني عن طريق صديق نحات ، وأذكر من هؤلاء المخرج مارسيل مينو صاحب مسرحيات مشهورة ، إحداها من تأليف الجزائري : كاتب ياسين عن حرب الفيتنام sandales de caouchouc , L'Homme aux وهي المسرحية التي منع عرضها وقتذاك بمدينة ليون léon بأمر من العمدة le maire الشيء الذي أدى إلى اندلاع احتجاجات عارمة قادها عمال ومثقفون وطلبة ..وهي الأجواء التي شدتني وقربتني أكثر فأكثر إلى هؤلاء الفنانين وعلى رأسهم هذا المخرج الذي عجبت لأمره ! فكيف لأجنبي مثله أن يتحدى كل هذه الصعوبات والاكراهات السلطوية من أجل فرض مسرحية لكاتب أمازيغي هو كاتب ياسين ! وهو الموقف ذاته الذي شجعني على الانكباب بلهف على قراءة الإنتاج الأدبي لهذا الكاتب العظيم :كاتب ياسين ،الذي تعرفت عنه اكثر وبشكل حميمي أعجز الآن عن وصف والتعبير عن هذه الحميمية. وبعد أن طال بي المقام بمدينة مارسيليا ، شددت الرحال نحو المدينة الجامعية والعلمية Aix-en-Provence إيكس بروفانس ، حيث اشتغلت نادلا بمقهى اعتبر محجا لمثقفين من بقاع العالم ، وهناك تعرفت على الكاتب الجزائري نبيل فارس وغيره ، ومعروف أن المدينة تحتضن المسرح الجامعي الذي كان من بين أعضائه الكاتب المغربي : محمد خير الدين وكتاب فرنسيين مرموقين ..وحدث أن انسحب من هذا المسرح الجامعي احد عناصره الأساسية في التمثيل ، مما دفع بالمخرج إلى التماس انخراطي لتعويضه ضمن الفرقة ..الشيء الذي أربكني أول الأمر ، رغم التداريب التي كنت أقضي فيها أسابيع كاملة مع نفس الفرقة ..إلى أن وصل ذلك اليوم الذي كان فيه المخرج الكبير والكاتب Raymond Jean حاضرا وكذلك الكاتب الجزائري نبيل فارس ، فأ ُرغمت على اقتحام الخشبة لتأدية دور سبق لي أن أتقنته خلال التداريب ...وبعد تردد وقلق حادين، وجدت نفسي وجها لوجه أمام الجمهور الغفير ...وفي غمرة الاندهاش نطقت بالكلمة الأولى ..وبعدها فقدت أواصري بالعالم ولم تعد تربطني بدوري أية علاقة ، بحيث فقدت السيطرة على الفكرة الأساسية ..وبعد صمت رهيب ، وكأن ذاكرتي اخترقتها "حفرة سوداء" un trou noir وأمام هذه الصدمة والنظرات المستغربة التي شدت إلي أنظار المتفرجين، لم أحس حتى استعدت الفكرة الضائعة بشكل فجائي ، إلا أنها عادت هذه المرة بالأمازيغية التي لم أكد أنتبه حتى أديت بها ما تبقى من فقرات دوري بشجاعة خارقة وثقة في النفس ،جعلت المقربين مني يندهشون لأمري ، وهم الذين لم يفهموا لغتي الأصلية الأمازيغية ، باستثناء القبائلي الجزائري نبيل فارس الذي تقدم مني مهنئا إياي متسائلا عن جذوري وعن بلدي الأصلي ..الشيء الذي جعله يتحمس لكفاءتي المسرحية التي جعلته يقترح علي إمكانية العمل المشترك ، وفعلا بعد ذلك أسسنا معا "مسرح باب إيكس la porte d'Aix " استمرارا لما كان عليه الأمر مع المخرج بمدينة مارساي السالف الذكر...وقد أنجزنا عدة أعمال مشتركة L'art du triomphe وأمام هذه الوضعية الجديدة ، اكتشفت ، من خلال التشجيعات التي تلقيتها من المخرج R, Jean بعد إنقاذي للموقف بلغتي الأمازيغية ..قلت ، اكتشفت بأن الأمازيغية هذه تشكل طاقة زاخرة في مجال المسرح ...خاصة لمن يتقنها عن بكرة أبيه ، عكس اللغة الفرنسية التي تظل وسيلة ولغة معقدة لأجنبي مثلي مهما ادعيت من درجة الإلمام بها ..ولا تستغرب إذا علمت أن قناعتي بهذا الفن المسرحي والاشتغال في فضاءاته المتعددة ، مبعثه ومصدره الأساسي تلك الذكريات لدي عن حفلات الزفاف وطرق وأنماط الاحتفال عندنا في الريف.. بما فيها إحياء بعض الطقوس الجماعية ك"ثويزة" الشيء الذي كنت أستمتع بفرجته صحبة والدي الذي كان من هواة هذه الفنون والأفراح . لذلك ، قلت : أنه حينما سيطر علي ذلك الارتباك والقلق المذكورين على الخشبة ، لم أجد بديلا عن الاستعانة بذلك الدرس التاريخي الذي اكتسبته من الفتيات اللواتي كن ينشدن عندنا لازمة "رلابويا " في تناغم ملائكي مع إبداعهن لأبيات شعرية تحت ضغط اللحظة والمقام..وهن في ذلك كلهن ثقة وشجاعة جيئة وذهابا وسط فناء الدار الريفية الفسيح " أزقاق" فضاؤهن المفضل للإبداع والابتكار وللعرض الفني الرائع...وقد يحدث أثناء استنفاذهن لكل المتن الشعري المحفوظ ، ان يستمرن بنفس الوتيرة والإيقاع في إبداعهن العفوي والتلقائي لمقاطع جديدة ..الشيء الذي يضمن لهن النشدان الحر والطليق إلى مطلع الفجر ..وهو الدرس الذي أتقنته دائما ضد النسيان والتيهان في أعمالي المسرحية إلى اليوم.. وهو الذي انقذني من ورطتي المذكورة على الخشبة.. بعد تجربتي مع نبيل فارس ، انخرطت في المسرح الجامعي لمدينة مارساي ، حيث زاوجت بين العمل الفني والعمل العضلي لكسب العيش ، ودمت على هذا الحال مدة 4 سنوات ، ولازلت اتذكر ، يوما أثناء أزمة البترول في السبعينات شاهدت فيه مسنا جزائريا تجاوز الستين ..وهو منهمك في الحفر بآلة معدة للحفر marteau piqueur دون أن يلتفت إليه أحد من المارة الذين تعج بهم شوارع المدينة ! ولم أتمالك نفسي واستسلمت لإمعان النظر في هذا الكهل وكل جسمه يهتز بفعل عنف هذه الآلة الرجيمة...إنه منظر كاف لإدراك الأشكال المختلفة والمتعددة للكراهية والعنصرية للأجانب...وأقسمت على أن استوحي هذا المشهد الدال في إحدى أعمالي المسرحية ، لما شكله(المشهد) من استفزاز لشخصي ظل يلاحقني منذ تلك اللحظة ..وقد حققت أمنيتي هذه بهذا الفن المسرحي الذي اعتبره من أخطر الفنون فضحا ومكاشفة لمختلف الظواهر الاجتماعية الخفية منها والعلنية .. وما يمكن التركيز عليه في هذا المقام ، هو أنني قمت بادوار مهمة في مسرحيات كاتب ياسين ،الذي أجسد فيه عبقريا عظيما يضاهي شيكسبير بالنسبة إلي شخصيا...ذلك أنه المثقف والأديب والمفكر العصامي الذي عرف كيف يكوّن ذاته ..متمردا على النمطية المؤسساتية التي لفظته مبكرا ليظل فريسة مختلف الممارسات التي أدى ثمنها سجنا بعض الأحيان ، ورغم ذلك فقد استطاع أن يبدع في سجنه تلك القصيدة المهداة إلى أمه ، والتي اعتبرت بداية مسيرته الإبداعية والأدبية .... بعد "رماد الذكاء " la poudre de l'intelligence اشتغلت على مسرحية قبلات الدعابةles baisers d'humours وكذلك مباريات حرب matchs de guerre التي قدمتها فرقتنا في مدينة توكا التونسية حيث رافقتنا فرقة عسكرية تقدر ب100 جندي تحسبا لأي رد فعل بعض الأطراف المتزمتة المعادية لمضامين مسرحيات كاتب ياسين ..وما زلت أتذكر هذا الفضاء التونسي الرائع الذي احتضن عروضنا ، وهو عبارة عن بناية أثرية من بقايا الآثار الرومانية ذات الهندسة المسرحية النادرة . وهناك توافد علينا أطفال القرى المجاورة أفواجا كلهم أمل في مشاهدة هذه اللوحات المسرحية بالرغم من وضعهم الاجتماعي المزري الذي تعكسه بجلاء حالة اللباس وجميعهم حفاة... ! بعد التمثيل تفرغت للإخراج، لكونه أوفر حظا لتكويني الذاتي ، عكس ما كنت عليه ممثلا أنتظر الاستجابة لهذا المخرج أو ذاك حسب الطلب...وقبل الانتقال لمرحلة الإخراج طرحت سؤالا بديهيا على نفسي : لماذا المسرح؟ ومع من يمكن ممارسته ؟ وفعلا أدركت مغزى السؤال هذا بعد أن تيقنت بانني لا أمارس المسرح من اجل المسرح ، وإنما هناك حاجات نفسية ، اجتماعية، سياسية ، ثقافية ..نستجيب لها بهذا الفن المسرحي محاولين إشباعها ..وهو قبل كل شيء اختيار لقناعتنا الفردية والجماعية ، الشيء الذي توصلت إليه أثناء اشتغالي المسرحي وسط المناطق المهمشة، بعيدا عن أضواء الصالونات وبهاء المدينة ...وهي المناطق التي اعتبرتها وأهاليها المادة الخام للعمل المسرحي ، خاصة حينما يتعلق الأمر بالمهاجرين الذين يشكل الجزائريون نسبتهم العالية ...هؤلاء الذين نلمس لدى الجيل الثاني منهم إحساسا بالإقصاء والتهميش، وسط بؤس ومآسي الأمهات اللائي لم يندمجن ضمن المجال الفرنسي بقيمه المادية والرمزية ، وضللن متشبثات بأصالتهن القبائلية بأمازيغيتها اللغوية والثفافية . وقد جسدنا في عملنا المسرحي مختلف أنواع الإحباط وخيبة الأمل التي منيت بها هذه الشريحة الاجتماعية المهمشة نتيجة السياسة الفرنسية ذات المنظور الخاص لهؤلاء الوافدين ...ومن شدة ارتباطنا بهذه المجموعات السكانية، اكتشفنا بأن ذلك ساهم في وضع حد لمجموعة من السلوكات السلبية التي سادت وسطهم في الماضي كتحطيم النوافذ والقاعات واعتراض سبيل المارة والسيارات على حد سواء ...إلخ مما شجعنا أكثر فأكثر على اختراق عالم أطفالهم وجعلهم يتعلمون المبادئ الأولى في المسرح خاصة التمثيل ، وقد قوبل هذا العمل بتجاوب منقطع النظير من قبل هذه الفئة المستهدفة ، وبذلك توفقنا في نقل المسرح من فن مرتبط بالنخبة المثقفة إلى فن جماهيري بامتياز يسائل أهم القضايا المجتمعية المعاشة...وإن كنا لم نشتغل بشكل رسمي إلى الآن على موضوعات أمازيغية صرفة ، إلا أننا استوعبنا الكثير من المشاكل المعبر عنها بالأمازيغية القبائلية الأصيلة وسط هؤلاء المهاجرين ...مما اعطى لي شخصيا انطباعا خاصا مفاده : ان أية محاولة للمسرح الأمازيغي وسط هؤلاء المهاجرين ستلقى، لامحالة، استجابة واستحسانا بالغين ..أقول هذا دون أن أنسى محاولتي الوحيدة واليتيمة في هذا المنحى (المسرح الأمازيغي) التي قمت بها رفقة إخواننا الريفيين بجمعية "الأرضية " plate- forme بمدينة أوتريخت الهولندية وأخص بالذكر : أخي جمال حميد (الفنان الموهوب) وكان موضوع المسرحية : " العرس بالريف " وساهمت فيها زوجتي من الناحية السينوغرافيا . وقد توفقنا كثيرا فيها إلى حد ظلت حناجرنا تصدح أركان القاعة الفسيحة برلا بويا وصبحاين أرازيق وإزران frédérique Fuzibet حتى مطلع الفجر تماما كما هو الشأن عندنا بالريف ... ولا أنسى من جانب آخر الدور الإعلامي الهام الذي عرّف بأعمالي المسرحية على نطاق واسع ، إلى درجة أن صديقا صرح بأنه قادم للتو من الولاياتالمتحدةالأمريكية لمشاهدة إحدى مسرحياتي التي تناقلتها الصحف الفرنسية وغيرها ...والمسرحية استقيتها من أسطورة ذائعة الصيت في الأطلس المغربي ، حيث المواسم الفنية يتبارى في إحداها الفرسان للفوز بأجمل فتاة القبيلة ..وقد فاجأني هذا الصديق حينما حمل إلي صورة قال إنها لابن كاتب ياسين (وللعلم فلكاتب ياسين ابن بفرنسا يمارس الغناء يسمى أمازيغ AMAZIGH) غير أن الإبن الذي يقصده هذا الصديق هو ابن ثان من أم ألمانية ، الشيء الذي لا يعرفه إلا القليل جدا ...وقد نصحت هذا الصديق مرافقة هذا الابن الذي تربطه به علاقة وطيدة إلى الجزائر حتى يتعرف عن أبيه (الذي كان لايزال على قيد الحياة وقتذاك ) وهو الجميل الذي بإمكانه أن يقدمه لهذه الحالة الإنسانية... أثير انتباهكم إلى حدث واقعي شديد الدلالة في مساري المسرحي ..فقد حاول يوما المخرج Marchal Martin عرض مسرحية روميو وجولييت لشكسبير وسط هؤلاء المهاجرين ، وبمجرد ما ظهرت على الخشبة فتاة حسناء في دور جولييت حتى فاجأها أحد المتفرجين بصفعة قوية على خدها ! مستنكرا بذلك مثل هذا العرض الذي اعتبره شيئا ثانويا وشكليا لما يجب الاهتمام به في مثل حالتهم المهمشة .. غير أنني شخصيا ، وبعد مرور شهر ونيف على الحدث ، قمت بعرض نفس المسرحية " روميو وجولييت " التي دام عرضها مدة شهرا كاملا لإقت فيه إقبالا جيدا ومتزايدا ، دون أن يحدث ما يقلق مضاجعنا ، فقط ، لأنني حاولت استيعاب الدرس جيدا ، وأسندت دور روميو لأحد الشباب المهاجرين أنفسهم ، ودور جولييت لفتاة فرنسية ،وهو العرض الناجح الذي حضرته بكثافة أولئك الأمهات الجزائريات اللواتي لم يسبق لهن أن بارحن مكانهن الهامشي بدور الصفيح ..وهكذا شيئا فشيئا أصبحن من جمهورنا الملتزم بمواعيد عروضنا ..وقدمنا أمامهن عدة مسرحيات أخرى ك" الحياة وهم " la vie est un songe إلى حد اعتبرت معه مسرحياتي الأخيرة المقدمة وسطهن ، بمثابة تكريم لهن عن جدارة واستحقاق ، ولا تستغرب إذا علمت فيما بعد ، ان أغلبهن كن ضمن المحتجات /ين في تلك التظاهرة العارمة والاعتصام التاريخي احتجاجا على اغتيال الشاب الجزائري موسم 79/80 والتي ما لبثت حتى عمت كل أرجاء فرنسا ... من إعداد وتقديم : محمد الزياني صور خاصة من مراسيم تشييع جثمان الراحل محمد العاقل أقيعان