حرقة الروح ولمعة الحرف شهقة من شهقات العجب ونفثة من نفثات الانبهار وآهة من آهات الحزن، تلك التي وجد نفسه فيها الشيخ حسين شحادة وجهاً لوجه أمام مكتبات ودور علم وعلماء وكتب ومخطوطات وجدل في إطار تلك المدينة العجيبة، فكل ما فيها يدلّك على أنها أقرب إلى معهد مفتوح للثقافة والأدب والشعر بخاصة والفقه واللغة والبيان وعلم الكلام، فولع وتتولّع بسحر الكلمة التي تملّكته مثل همسة إلهية مبشرة له بوعدٍ أقرب إلى وحي أن يصبح كاتباً، حيث بدأ خطواته الأولى. " في البدء كان الكلمة" كما جاء في إنجيل يوحنا الذي يعتبر وصفاً لعمل يسوع المسيح الخلاصي، فالكلمة هي الوسيط الذي استعان به الأنبياء والرُسُل والمصلحون لبث دعاواهم ونشر أفكارهم وتعميم رسالتهم، وبالكلمة شيّدت الحضارات وتلاقحت المعارف وتواصلت الأمم والشعوب، وهو ما أدركه الشيخ حسين منذ باكورة شبابه، فأصبحت الكلمة هاجسه الأول، حيث أخذت تختلج في جوانحه وتمور في أعماقه وتجيش به نفسه بحرقة للروح، حين يساوره نزوع إلى الحرّية والحق والعدل والجمال. وبتأثير الكلمة وقع الشيخ حسين أسيراً في عشق اللغة وتولّه بحبّها، بكل دهشته الطفولية الأولى وحكمته الشيخية اللاحقة وصبره الأيوبي غير المحدود، صعوداً ونزولاً بالخطأ والصواب والنقد والنقد الذاتي والتجربة بكل تعثراتها ومنعرجاتها، حتى تصالح مع نفسه، وباللغة ذاتها ولّف حياته بفرز حروفها واحداً واحداً ونقطة نقطة وفاصلة فاصلة، لكأنه يسمع صدى هسهستها، فيطرب لشدوها ويزداد تعلّقاً بها، حتى تبرعمت كلماته وأورقت حروفه وازدهر بستانه بأنواع من الثمار والورود، وأصبح له روّاداً ومعجبين ينتظرون كلماته، اختلفوا أم اتفقوا معه. وكانت عدّته المعهودة في تلك الرحلة المثيرة، بذرة أولى أقرب إلى اللمعة وحفنة كتب متنوّعة وإصرار على القراءة والقراءة والقراءة، فمن تدركه حرفة الكتابة والأدب عليه بالقراءة المستمرة ليس للمتعة فحسب، بل للمعرفة، وتلك كانت خميرته الدائمة والمتجددة، وبالطبع فالكاتب يحيا بالقارئ ولا يتطوّر بدونه ودون النقد والنقد الذاتي، وعليه أن يحرص على إدامة هذه العلاقة والمراجعة بالصدق والصراحة واحترام عقله، وحين يحصل الخطأ فعلينا الإقرار والاعتراف به وحتى الاعتذار إذا تطلّب الأمر ذلك، والبشر خطّاؤون على حد تعبير فولتير وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح. والكاتب ضنين باسمه وهو ما يضعه دائماً الشيخ حسين في اعتباره، لذلك عليه أن يُحسن الاختيار والتدقيق ويحرص على أن يكون ضميره يقظاً وألّا يصاب بالذبول أو الخمول، ولعلّ ذلك ما يطمح إليه الكاتب المبدع والناجح، وإلّا يمكن أن يصبح كاتباً ولكنه فاشلاً، وتلك مسألة عويصة تحتاج إلى صفاء سريرة ومران وممارسة وطول نفس ومشقة وجهد ومثابرة لكي تؤتى الكتابة ثمارها. والكاتب الجيد يتعلّم من أخطائه وتجاربه ومن الحياة وهي المدرسة الكبرى، وليس من الكتب وحدها، مثلما لا يتعلّم الإنسان السباحة إلّا إذا نزل إلى الشاطئ، ومثلما تحتاج رياضة اليوغا إلى الصبر والجلوس لمدة طويلة باسترخاء ومراقبة الشهيق والزفير، فالكتابة أيضاً تحتاج إلى وقت وتراكم وتعلّم لتأتي بعدها القدحات وتبدأ الشحنات وتنطلق الشرارات. لقد أتقن الشيخ حسين كل فنون الكتابة ليس في الحقل الديني فحسب، وإنما في الحقل الفكري والفلسفي والاجتماعي والأدبي والثقافي، وذلك بعد معاشرة حميمة وطويلة مع الحرف وصداقة وطيدة وعميقة مع الكلمة وزمالة وألفة مع الجملة والمقالة والكتاب، وهكذا استطيب المغامرة وسار بها أحياناً حتى أقصاها مجرّباً كتابة نصوص وسرديات وخواطر وحكم وأفكار وقصائد. لم يلتزم منهجاً واحداً محدداً، لأنه كان ينشد التفرّد والجديد، وكل جديد "خلق" و"إنشاء" و"تكوين"، وهكذا انصاعت له الحروف واستجابت له الكلمة مطواعة بين أصابعه، ليوظّفها بطريقة فائقة البراعة في التعبير عن القيم والمبادئ التي آمن بها، حتى أصبحت لديه قدرة هائلة على التحريض والتعبئة والإثارة، فلم يعد واحداً، بل صار "جمهوراً" له منهجه الخاص وأسلوبه المتميّز الموشّى بالتسامح والانفتاح والحوار والتواصل مع الآخر. ولعلّ ما يعطيه خصوصية هو مخالطته ومجالسته لطبقات وفئات وأجناس وشعوب ولغات ونساء ورجال وأجيال مختلفة دون اكتراث بزيّه التقليدي حيث يحجم كثيرون، والناظر إليه وهو في مجالسه المتنوّعة أوّل ما يلفت نظره عمامته البيضاء الناصعة التي تجلس فوق رأسه، حيث يمتلئ وجهه المستدير بلحية طليقة ومنسقة أحياناً يكسوها بياض غالب وشاربان معتدلان وخصلة شعر متدليّة ونافرة من تحت العمامة. وهو على هذه الهيئة يبحث معك في الحداثة وما بعدها ويقلّب شؤون وشجون ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن خلدون، ليأخذك إلى شواغله في الهويّة، دون أن ينسى المرور على اليسار والماركسية وجيفارا والعروبة ونقد الجمود والتخلف الديني ونتاجهما التعصّب والطائفية وازدراء حقوق المرأة، ومع تلك الهموم لا تغيب عنه أهمية التفريق بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والدعوة إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في إطار التعددية والتنوّع والمشترك الإنساني. لم يترك الشيخ حسين مناسبة إلّا وقام بها التجوال في رحاب الجواهري وطه حسين وعلي عبد الرازق والسيّاب وأدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم، ليستعيد الحوار حول قصيدة النثر، وفي الوقت نفسه وعلى القدر ذاته من الاهتمام يضع أمامك خريطة طريق لتجديد الحوزة الدينية وإصلاح مناهجها وربطها بمتغيّرات العصر والثورة الصناعية الرابعة ومخرجاتها، وهو من دعاة حوار الأزهر مع النجف وحوارهما مع الفاتيكان، وذلك في إطار مشروع نهضوي عربي - إسلامي كما يعبّر عنه، يبدأ بالحوار العربي- العربي والإسلامي - الإسلامي على جميع الصعد الرسمية والشعبية، لينطلق إلى حوارات أرحب وأوسع، مع عدم إهمال مسألة التحوّل الديمقراطي والدولة المدنية والتنمية والعدالة، وكل ما له علاقة بالامتلاء الروحي والتحقق الوجداني والدلالة الإنسانية. وإذا كان أصل الكلام عند العرب البلاغة، لأن الكلام فعل وسلوك ونشاط وخلق، أما اللغة فهي قانون وناموس وقواعد ومعيار لهذا الكلام، وهذه تحتاج إلى آليات وتقنيات تجمع بين جمالية النصوص وفصاحتها وعمق مضامينها وقدرتها على التعبير، وهو ما امتلكه الشيخ حسين، بل وأتقنه بمهارة عالية، فخرجت كلماته منغمة بهارموني لموسيقى اللغة ذاتها، وهو ما أعطاه بصمة خاصة، لاسيّما حين يعرف لمن يتوجه ومن يخاطب وماذا يريد؟ كيمياء الإجتماع لا تعرف أحياناً كيف تتكون كيمياء خاصة بينك وبين بعض الناس، فتنجذب إليهم وترتبط معهم بصداقة مديدة وعميقة، إمّا هوىً حين يتحكّم القلب والعاطفة وإمّا فكراً حين تتلاقى معه في دروب العقل، فكيف إذا كان من أكتب عنه، وقد شدّني إليه قلباً وعقلاً، حتى وإنْ كانت طرق حياتنا مختلفة ومتباينة ومتباعدة أحياناً في فلسفتها ومنطلقاتها، ولكن تبقى ثمّة مشتركات إنسانية جامعة تشكّل نواة جاذبة يتم التمحور حولها والتلاقي عندها لتتوسع وتكبر حتى لتجد نفسك أمام طرق عديدة مشتركة ومقاصد موحدة، ووسائل وأساليب يتم اختبار نجاعتها مع مرور الأيام، لأنها ستكون جزءًا لا يتجزأ من الغاية على حد تعبير المهاتما غاندي. وإذا كانت الغاية شريفة وعادلة، فلا بدّ من وسيلة شريفة وعادلة للوصول إليها، لأنها مثل البذرة إلى الشجرة، وحين تكون الوسيلة ملموسة ومعروفة، فالغاية بعيدة وهي في رحم المستقبل وأقرب إلى الحلم أحياناً، الأمر الذي يقتضي دائماً التوثق والتأكّد من الوسيلة وتدقيقها، وهو ما يسمى بالبراكسيس وما يمكن الاتفاق عليه أو اللقاء عنده، لأن الوسيلة تمثّل قاسماً مشتركاً، حتى وإن كان لكل منّا منظوره للحياة والكون والتطور، لكن الجانب الإنساني والهموم التي نعيشها في إطار بيئة مشتركة ولغة مشتركة وتاريخ مشترك لأمة واحدة بثقافات متنوّعة وتراث حضاري غني ومتعدد المشارب هي المساهمة المشتركة، فما بالك حين يكون المصير مشتركاً. والأمر لا يتعلق بالجانب القطري (لبنان/العراق) لكل منّا أو حتى للجانب الديني- الثقافي، بل إن الأمر له علاقة بالجانب الشخصي أيضاً، هو من موقعه الإسلامي وأنا من موقعي العلماني، هو من رؤيته المثالية الدينية، وأنا من رؤيتي المادية الجدلية، لكن ذلك ليس بعيداً عن التنوّع والثراء الإنساني، الذي يمكن أن يغني التجربة بالحوار والتناظر والاحترام المتبادل. كان ماراثون الصراع الفكري بين المتديّنين والعلمانيين قد شغل الطرفين في خمسينيات القرن الماضي بشكل خاص، وهو ذاته الذي استمر من القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله، وكان في الغالب صراعاً تناحرياً وإلغائياً، من الطرفين، على أن مسألة الحوار وصولاً للتعاون، وإن كان محدوداً، وجدت طريقها في فترة متأخّرة، علماً بأنه لم تتم مراجعة شاملة من الفريقين، ولم يستطع كلّ منهما أن يحقق ما كان يطمح إليه، ولاسيّما الانفراد بالساحة والتحكّم بها. وما تزال ثمة فراغات كبيرة فكرية وعملية بحاجة إلى جهد مثابر وعمل طويل للوصول إلى قواعد اتفاقية أو تعاهدية لإرساء العلاقة في إطار دولة تحترم جميع تكويناتها الثقافية ومجاميعها الفكرية، فالحوار ليس حول "مملكة السماء" والآمال والأحلام حسب، بل بقدر ما يكون الحوار حول معاناة الإنسان وحقوقه والسبل الناجعة للخلاص من البؤس والظلم والاستغلال والاستعباد، وليبقى كل فريق يحتفظ بما عنده من أمنيات تبشيرية بالخلاص على طريقته دون إكراه أو إرغام من الطرف الآخر على الإيمان بها. المتديّنون يقولون أن "مملكة الأرض" زائلة وهي مجرد "دار فناء"، في حين أن السماء "دار خلود" حيث السلام والعدل والسعادة الحقيقية، فيما يقول العلمانيون أنهم يسعون لسعادة البشر على الأرض التي ينبغي أن يسعد بها الإنسان بما هو عادل وخيّر، ولهذا فإن ترك أو تأجيل مسألة الاختلاف على ملكوت العالم الآخر الآتي، سيضع مشكلات الأرض أمام استحقاقاتها، أما "ملكوت المستقبل" فهو لا يزال برحم الغيب ولن يوصل الصراع حوله أياً من المتديّنين أو العلمانيين إلى أي نتيجة تذكر، من هنا لا بدّ من البحث عن إشكاليات ومشكلات عالم اليوم حيث النضال المشترك والمصالح المشتركة لعموم الناس، ولاسيّما الفقراء منهم. وكنت قد بحثت هذه الجوانب مع الشيخ حسين شحادة في مقارباتي معه بشأن لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ودور الكنيسة في عدد من التحوّلات الديمقراطية التي جرت فيها دون تقزيم أو تضخيم أي قوة من القوى الدينية أو العلمانية، ثم لماذا لم يتبلور تيار ديني وتيار علماني واضحين في منطقتنا بما يساعد في الانتقال لما هو مشترك؟ فهل تتعارض الحياة الدنيوية الروحانية مع الحياة الدنيوية المادية؟ وإذا كان كلاهما يبحث عن الحق والعدل، فإنهما لا بدّ أن يجدا من طريق للتقارب، وقد كان رجل دين مسيحي بمستوى القس بيتو الذي حاور فيديل كاسترو من موقعه المتديّن بقوله: كنّا نخاف من الماركسية مثلما نخاف من الرياضيات، لأنه هناك شك فيما إذا تأثرنا بفيثاغورس، مثلما هناك خشية من تأثرنا بنظريات العلوم الاجتماعية التي لا يمكن اليوم فهم العالم المعاصر دون دراستها. القرآن وحوار الدين والعلمانية وحين قدّم لي الشيخ حسين هديّة عبارة عن قرآن كريم وذلك في استضافة لي بدمشق عقب احتلال العراق العام 2003 في مركز المعلوماتية للخبراء بشأن رسم السياسات والتي كما قال لي تم تسجيلها واستفاد منها المسؤولون السوريون وجهات صنع القرار، أقول: سألني هل ما زلت تقرأ القرآن؟ وبعينيه الذكيتين اللمّاحتين، كان ثمة استفسار من نوع آخر، فقلت له يوم سأل الكاردينال سيلفا هرناندز الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عمّا إذا كان "الكتاب المقدس" الذي قدّمه هدية قد أغاظه، فأجابه كاسترو "ولماذا؟ هذا كتاب عظيم، قرأته ودرسته في الصبا، وسأستعيد العديد من المسائل التي تثير اهتمامي"، وعلقت قائلاً: كنت قد قرأت القرآن الكريم مرّتين (قراءة أقرب إلى الدراسة)، الأولى العام 1978، وأعدت قراءته في المرّة الثانية في العام 1982 في كردستان (بشتاشان) وما زلت أعود لبعض التفاسير بين الحين والآخر"، علماً بأن والدي الحاج عزيز شعبان كان يفتتح نهاره بقراءة القرآن بصوته الرخيم وهي عادة بقي عليها حتى أواخر أيام حياته. وبغض النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان بالتفسير الديني أو انغراس هذا الإيمان من عدمه، لكن ما يقدّسه الناس من قيم دينية ينبغي احترامه والتعامل معه بتقدير عالٍ، وينبغي فك الاشتباك بين الدين والتديّن الذي تريد بعض الأوساط حاكمة أو غير حاكمة أن توظّفه لصالحها وأن تجعله في خدمتها، فللمستغِلين دينهم، مثلما للمستغَلين دينهم أيضاً، وشتّان ما بين الدينين، والتديّن وبعض طقوس الدين بحاجة إلى نقد وتنوير، لاسيّما تلك التي لا علاقة لها بالدين ذاته، وإنما اختلطت بعادات وممارسات بعضها يعود لأمم وشعوب أخرى أحياناً. وعلى العلمانيين والماركسيين والماديين الجدليين، بشكل خاص منهم إعادة قراءة وفهم وأداء لدور الدين، خصوصاً لبعض مواقفهم الخاطئة ونظراتهم المسبقة الشعاراتية غير المعمقة والتي ألحقت ضرراً بهم قبل غيرهم، وهو ما كنت قد تناولته في كتاباتي العديدة منها ثلاث كتب بشيء من التفصيل وهي: الأول- تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009، والثاني - كوبا الحلم الغامض، دار الفارابي، بيروت، 2011 والثالث - الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية، مركز حمورابي، بغداد - بيروت، 2014. وكنت قد أشدت في أكثر من مناسبة بالمفكر الإيراني الإسلامي علي شريعتي، لاسيّما كتابه " العودة إلى الذات" الذي يقيّم فيه الفكر الماركسي إيجابياً ويعتبره شيئاً مهماً، لاسيّما لجهة الكفاح ضد الاستغلال والاستعمار والظلم، لكنه يعتبر مدخل الماركسيين خاطئاً في الموقف من الدين، فالمدخل ينبغي أن يكون العدالة وليس الله، وهو ما سبق لي أن انتقدته، ولاسيّما لجهة تصرفات بعض المتمركسين الطفولية غير الناضجة والاستفزازية للمسلمين ولكل المؤمنين. ومن أشهر كتب شريعتي " التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي"، وقد ولد في العام 1933 وتوفي في العام 1977 في ظروف غامضة بلندن، ودفن في مقام السيدة زينب في الشام. وأعتقد أن العدالة هي المشترك الإنساني الذي يمكن أن يلتقي عنده المتدينون وغير المتدينين، خصوصاً حين تتّسم بالدعوة للحرية التي هي القيمة العليا للبشر، وبالطبع فثمة ممارسات صبيانية ومراهقة سياسية وفكرية حُسبت على الماركسيين في الموقف من الدين، كما أن ثمة ممارسات قصيرة النظر ومشوّشة في الموقف من العلمانية التي راجت في الوسط الديني، بحيث تم ربطها بالإلحاد وهي لا علاقة لها به أو بمعاداة الدين وهي بعيدة عنه وهو ما ناقشته مع الشيخ حسين شحادة في حوارات متنوّعة عديدة، الأمر الذي يحتاج إلى حصافة وحصانة ومعرفة من الطرفين وقبل كل شيء شعور عال بالمسؤولية. وسبق لي أن حاورت السيد محمد باقر الصدر في النجف، وهو أستاذ الشيخ حسين شحادة وكتبت عنه قبل ما يزيد عن ربع قرن مادّة بعنوان " حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة" (نشرت في صحيفة المنبر التي يصدرها السيد حسين الصدر في لندن- في النصف الثاني من التسعينيات) مفرّقاً بين السياسي والأيديولوجي في إطار مشتركات إنسانية، واعتقاداً منّي بأن الروحانية لا تتعلّق بالحياة فقط، وإنما تتعلّق بالبشر، وبالعلاقة بين المادة والروح، لأن الإيمان دون فعل عديم الجدوى، والدين ملاذ مثلما هو عقيدة، وهو جزء من الهويّة الثقافية لأمم وشعوب نحن ننتمي إليها، وهي ما نتفق به مع الشيخ حسين شحادة وليس تعليمات أو فروض. وسؤال الدين كان وما يزال وسيظل لصيقاً بالإنسان منذ الخليقة، ولعلّنا من خلال تجاربنا نعرف كم من الذين لا علاقة لهم بالدين في سلوكهم وتعاملهم يتشبّثون ببعض المظاهر الدينية أو بالقشور الطائفية دون جوهر الدين الإنساني، وهؤلاء على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي "طائفيون بلا دين" لأن المتدين الحقيقي والمؤمن الصادق ليس طائفياً، والدين معاملة حسب الرسول محمد وهذا هو الأساس، لذلك ترى من ينتظر شهر رمضان ليصوم فيه ثم ليعاود باستمرار سلوكه السابق البعيد عن الدين، مثلما ينتظر البعض موسم الحج للذهاب إلى مكّة لأداء الفريضة ولغسل الذنوب كما يبرّر ولا يهمّ إنْ عاد إلى عاداته القديمة، وقد يمارسها وهو في "بيت الله الحرام"، كما يُقال، بما يخالف أبسط مقومات الإيمان. ما يزال البعض يراهن على الاختلاف العقائدي بين المتديّنين وغير المتديّنين أو العلمانيين، باعتباره خلافاً لا مجال للقاء فيه، وهو خلاف لا ينبغي إنكاره أو تجاوزه أو التقليل من شأنه على المستوى الفكري، كما فشلت جميع المحاولات للمصالحة بين الدين والاشتراكية في الخمسينيات والستينيات وبين الدين والديمقراطية والدين وحقوق الإنسان في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وما بعدها، فلكلّ حقله ونطاقه الفكري، لكن اللقاء السياسي وعلى أهداف سياسية أو اجتماعية أو حقوقية ممكن جداً وهو يحتاج إلى مهارة سياسية ومرونة عملية من الفريقين إذا كان يريدان حقاً مصالح الناس وحقوقهم. والأمر يشمل العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي علاقة متشابكة ومتداخلة حضارياً وثقافياً. صداقة الفكر والانفتاح لعلّ تلك المقدمة كانت بعض مفردات لسلسلة حوارات بين الشيخ حسين وبيني، متواصلة ومتقطعة، مباشرة وغير مباشرة، لكنها كانت مستمرة ولم تتوقّف خلال العقود الثلاثة الماضية على أقل تقدير، لاسيّما وقد دأب هو على التواصل مع " أئمة" الفكر العلماني على حد تعبيره، وارتبط مع العديد منهم بصداقات حميمة تركت أثرها على الحراك الثقافي والسياسي في تسعينيات القرن الماضي وما بعده، فكانت له مطارحات مع صادق جلال العظم حول تحدّيات العولمة الثقافية، ونقد الفكر الديني والعلاقة بين السياسي والفكري وجدل الداخل والخارج، مثلما كانت له مساجلات عميقة حول النص الديني وإشكالات التأويل والقدامة والحداثة، والأصالة والتجديد مع الطيب تيزيني ومحمد شحرور، وحوارات حول مفهوم ثقافة المقاومة ودور الدين، والعقلانية والحرّية والتنمية مع يوسف سلامة ومنير الحمش وأحمد البرقاوي وحول الدين والفن ومستقبل الشعر العربي مع ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وشوقي البغدادي ونبيل صالح. وحول أزمة الاجتهاد المذهبي واختزالات مفهوم الوحدة في الخطاب الديني مع نخبة من فقهاء دمشق الشيخ البوطي الدكتور وهبة الزجيلي والدكتور عبد الفتاح البزم والدكتور بدر الدين حسون مفتي الجمهورية، مثلما كانت له علاقة وطيدة مع البطريرك هزيم والبطريرك لحّام والبطريرك زكّا عواض الأول، وقد فتح هؤلاء أبواب كنائسهم له، كما عمل على توأمة بين منتدى المعارج وكنيسة يوحنا الدمشقي، وكان يحضر بعض اللقاءات في كنيستي الصليب والتجارة ويلقي محاضرات فيها، كما كان الصديق المشترك يوحنا ابراهيم الذي اختفى قسرياً في حلب خلال الأحداث في سوريا العام 2012، وما يزال مصيره مجهولاً، شريكه في مشروع مشترك مسيحي - إسلامي، وكنّا قد اتفقنا في آخر لقاء لنا في عمّان على إصدار كتاب مشترك بين يوحنا ابراهيم وبيني بناء على مقترحه، لكن يد الغدر كانت أسرع من ذلك. وقد أنتجت هذه الصداقات الحميمة مناخاً ثقافياً وفكرياً تسامحياً في سوريا مصحوباً بثقة كبيرة ورغبة إنسانية في التواصل والتفاعل، حيث كانت تضاء شجرة الميلاد في الرقة وحماه وحمص وحلب ودير الزور ودمشق وغيرها، وهي تجربة رائدة قرّبت بين المسيحيين والمسلمين، وكان يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة أخرى، لولا ما حصل من استهداف للمسيحيين من جانب الجماعات الإرهابية مثل جبهة النصرة وداعش وغيرها، وحين انتقل الشيخ حسين إلى بيروت نقل هذا الجو الإيجابي معه، فواصل لقاءاته مع المرجعيات الدينية المسيحية، لأصدقائنا المشتركين المطران عودة والمطران كوريه والمطران جورج صليبي والبروفسور ضو، إضافة إلى علاقته مع البطريرك الراعي. مع فيلسوف اللّاعنف وأتذكّر حواراً دار بينه وبين الصديق جان ماري مولر عشية صدور كتاب "نزع سلاح الآلهة"، فقال الشيخ حسين شحادة: لماذا اخترت هذا العنوان للكتاب؟ ألم يكن ممكناً اختيار عنوان "نزع سلاح الشياطين" بدلاً من نزع سلاح الآلهة؟ فأجابه مولر على الفور ودون لحظة تأمل: ولكن الآلهة، هم الشياطين على الأرض، فالإله واحد، وهو الإله الحقيقي المنزوع السلاح، لأن الله محبة والمحبّة لا تجتمع مع العنف في قارب واحد. أما إذا نسبنا محبّتنا إلى الآلهة فهذا خطأ فظيع، لأن الآلهة هم من صنع البشر، أما الله فهو المطلق، الخير، السلام، التسامح، واللاّعنف. الله هو الذي خلق الإنسان ودوداً، عاقلاً، مسالماً، وحيثما وجد الإحسان وجد الله ووجدت المحبّة، وحيثما وجدت الطيبة حضر الله، وهدف جميع الأديان نشر الحب والرحمة والسلام، وليس العنف والغلظة والانتقام والقمع والإرهاب والحروب، وأضاف: إن الديانات ليست بالنصوص، بل بالعقيدة والمقاصد. استكمل سماحة السيد علي فضل الله، هذا الحوار المعمّق، حول مفهوم اللاّعنف، حيث قال: إنه أقرب إلى الرفق، والرفق حسب القواميس يأتي من الرفقة، أي التواصل والمودّة والمشترك الإنساني، والشراكة، ومثل هذه المفاهيم وجدتها أيضاً، بخصوص مفهوم التسامح لدى الفيلسوف الفرنسي فولتير، الذي قال عنه بأنه الرفق والصبر، أما التعصّب فلا ينتج إلّا منافقين وعصاة، وبما أن البشر خطّاؤون فعلينا أن نسامح بعضنا بعضاً. لقد توصّلنا كل بطريقته إلى اللاّعنف، حتى وإن جئنا إلى فريضته أو فضيلته من مواقع ومنابع مختلفة بما فيها عنفية، لكننا اهتدينا إليه بعد تجارب مريرة عشناها وعانينا منها مثلما عانت منها شعوبنا وأوطاننا، وآن الأوان للبحث عن اللاّعنف في تراثنا وتعميمه، وليصبح هو القاعدة وليس الاستثناء، حتى وإنْ كنّا لا نستطيع إلغاء العنف من حياتنا. وصديقنا الفيلسوف اللاّعنفي الذي يعتبر الأكثر شهرة في العالم المعاصر، ونعني به مؤلف الكتاب جان ماري مولر، (وهو أستاذ معنا في جامعة اللّاعنف وعضو في مجلس أمناء الجامعة العالمي) انتقل إلى فريضة اللاّعنف، حين أريد له أن يقاتل في الجزائر، مع الجيش الفرنسي ضد الجزائريين الذين ذاقوا مرارة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي ما يزيد على قرن وثلاثة عقود من الزمن، فرفض وامتنع وسجن (لمدة ستة أشهر) وأقصي، وهكذا تكوّنت لديه قناعات بأهمية الانخراط في العمل اللاّعنفي الذي كرّس له حياته منذ مطلع الستينيات وحتى وفاته 18 ديسمبر / كانون الأول 2021. إن كتاب "نزع سلاح الآلهة" هو دعوة للتأمل في ماهية الخير والشر، وقد جاء تتويجاً لعمل معرفي وحركية ديناميكية طيلة ما يزيد عن خمسة عقود ونصف من الزمن، وهو كتاب مرجعي تأسيسي، خصوصاً وأنه شامل، ولاسيّما بعد كتابه" قاموس اللاّعنف". الفريضة أو الفضيلة التي يريد مولر تعميمها تمنحنا هذه القدرة الاستثنائية، من الحب والتطهّر والروحانية الإنسانية، وتقرّبنا من بعضنا على نحو يتّسم بتعزيز المشترك الإنساني، سواء أكنّا من أتباع الديانة المسيحية أم من أتباع الديانة الإسلامية، مؤمنين أم غير مؤمنين، ومتدينين أم غير متدينين، لكننا نجتمع تحت خيمة اللاّعنف ذات الطبيعة الإنسانية. وكان الروائي الروسي تولستوي، صاحب رواية "الحرب والسلام" المنشورة لأول مرة بين عامي 1865 و 1869، هو من دعا إلى عدم مقاومة الشر بالعنف، وأراد في كتابه "ما هو إيماني؟" الصادر عام 1884 القول: لا ترتكب عنفاً أبداً، بمعنى آخر لا ترتكب أية فعلة مناقضة للمحبّة، أي أن الانتقام وسيلة سيئة مهما كانت المبررات. وقد تعزّزت أفكار اللاّعنف لدى تولستوي عندما حدثت الحرب الروسية- اليابانية في العام 1904 والتي أدت إلى انتفاضة ثورية ضد حكم القيصر في العام 1905، لكنها لم تنجح وتمكّن القيصر من قمعها. لقد كانت الحرب المتغيّر الكبير الذي استوحى منه تولستوي روايته الذائعة الصيت، وقد كانت مشاهد حرب الثلاثين عاماً في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، مقدمة للحرب الروسية – اليابانية، التي تحدّث عنها باعتبارها حرباً بين مسيحيين وبوذيين، يقتل أحدهما الآخر في حين إن المسيحية والبوذية، لا تدعوان للقتل وتحرّم ديانتهما قتل البشر، بل إن البوذية تحرّم حتى قتل الحيوانات. فرفض تولستوي طاعة أوامر الدولة التي تفضي إلى العنف، لأنه غالباً ما يكون عنفاً ظالماً، وكان يقول لا للجيش الذي يلقّن العنف لقهر الشعب. وترك تولستوي تأثيراً كبيراً لدى المهاتما غاندي، وقد كتب الأخير عنه بمناسبة مئويته في العام 1928 نصاً مؤثراً حين قال: "كان أكثر رجال عصره صدقاً. اتّسمت حياته بجهد دؤوب محموم للبحث عن الحقيقة، ولوضعها موضع الممارسة بمجرد العثور عليها... إنه أعظم رُسل اللاّعنف الذي شهدهم عصرنا الحالي". إن تحقيق السلام حسب تولستوي لا ينبغي أن يفرض إلاّ بوسائل سلمية، ولا يريد من الأذلة المسحوقين (الضعفاء) سفك دماء الأقوياء. أراد لهم التمسّك بالتمرّد السالب، ورفض طاعة المتسلّطين الظالمين، وإذا تمكّن ملايين الفقراء من غير عنف، ومن غير محاكاة لبطش المتسلّطين، ومن غير ثورة مأساوية على الطريقة الغربية، من صرف قلوبهم وأذرعتهم عن فعلة الظلم والحرب والقتل، يومذاك سوف تنحلُّ سلطات الكذب والقهر البالية من تلقاء نفسها. المراسلة بين غاندي وتولستوي عبّرت عن القناعة الأخلاقية المشتركة، لاسيّما وأن تراث كل منهما غنيّ وعميق (التراث الهندي والروسي ). وقد فهم تولستوي الأهمية العميقة بين عدم مقاومة الشر بالعنف، وبين الضمير والعصيان وعدم التعاون مع المؤسسات الرسمية التي تتحمّل مسؤولية القهر، وقد استلهم حكيم روسيا ذلك من تراثه الديني المسيحي مثلما استلهم حكيم الهند ذلك من تراثه الديني البوذي. وإذا كان غاندي قد كتب عن تولستوي في مئويته، فقد كتب البابا بولس السادس رسالة إلى رئيس جمهورية الهند بمناسبة مئوية غاندي في 22 أغسطس (آب) 1969جاء فيها " كان لدى غاندي فكرة سامية عن الكرامة الإنسانية وحس ثاقب بالعدالة الاجتماعية، وبحماسة متّقدة وإدراك بصير بالخير المستقبلي لشعبه، عمل بلا هوادة للوصول إلى أهدافه غارساً دوماً في تلاميذه مبدأ اللاّعنف المثير للإعجاب" تلك هي رسالة الأب الروحي للمسيحيين إلى رمز الهند وحكمتها غاندي. تلك دعوات رُسل اللاّعنف، أي المقاومة السلمية السلبية كما تسمّى، بمعنى عدم الرّد على العنف بالعنف وذلك ليس استسلاماً، بل مقاومة باللاّعنف، بالصمت والامتناع عن المشاركة في الحروب أو الانخراط في أعمال العنف أو التمرّد على أوامر الدولة ورفض دفع الضرائب والاحتجاج والتظاهر وصولاً للعصيان المدني، وهو ما اتبعه مارتن لوثر كينغ في حركته للمطالبة بالحقوق المدنية في الولاياتالمتحدة، وكذلك ما قام به نيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا من نشاط تسامحي ولا عنفي، بعد إلغاء نظام الأبرتايد الذي استمر أكثر من قرنين من الزمن. إن المقاومة تلك حسب مولر قادرة على تغيير العالم الذي أراد فيه أن يكون الإله طيباً قبل أن يكون قويّاً، وطالب بإلغاء ما يبرّر العنف والقطيعة ضد ما يدعو إليه، والدعوة إلى أخلاقيات موحّدة للعمل العالمي اللاّعنفي في المسيحية والإسلام، وفي ذلك دعوة ليس لقبول الحق في الاختلاف، بل لرفض التشابه والتماثل والتطابق، لأنه ليس من طبيعة الأشياء. قد تحتاج دراسة الإسلام إلى وقفة نقدية خاصة، لاسيّما موضوع الجهاد واللاّعنف والجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، وكلمة السواء التي دعا إليها الإسلام. كان ذلك جوهر الكتاب ومحتواه وفي الوقت نفسه ما دار من حوار وتبادل لوجهات النظر بخصوص اللّاعنف. وقد علّق الشيخ حسين في نهاية الجلسة معقبّاً على مولر بأنه ضد العنف بالمطلق وهو ضد أي عنف كان ولأي سبب كان ومن أيّ أتى، فالعنف هو العنف بيد الآلهة أو الشياطين، فلا فرق، إذْ لا بدّ من نزع السلاح والركون إلى السلام،" فإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (سورة الأنفال، الآية 61). جدير بالذكر أن هذه المحاورة تمت باستضافة كريمة من سماحة السيد علي فضل الله وبحضور الدكتورة أوغاريت يونان والدكتور وليد صليبي والدكتورة إلهام كلاب وكاتب السطور وكنت قد كتبت عنها مادة بعنوان" الأديان ورسالة اللاعنف" وهي منشورة في صحيفة الخليج (الإماراتية) يوم 19/8/2015. من النجف كانت البداية في هذا الكرّاس الذي أضعه بيد القارئ آمل أن يثير حواراً واسعاً حول العناوين الأساسية التي تشكّل جزءًا من إشكاليات عالمنا العربي والإسلامي ومشكلاته، لاسيّما وأنني تناولت منابع الشيخ حسين الروحية وروافده الأخرى ذات البعد الروحاني الديني والإنساني، مثلما كتبت عن حيرتي وأنا أكتب عن صاحب مقام، فمن أين أبدأ؟ وماذا أريد أن أقول؟ وتناولت النجف مدينة وإلهاماً ودور أساتذته الكبار في تكوينه وتأهيله وتوقفت عند "نواة التنوير" في بدايات القرن الماضي وما أطلق عليه " معقل الأحرار"، وتوسعت في حديثي عن مناخ النجف الفكري والثقافي الذي نشأ فيه الشيخ حسين شحادة، وهو التماس الأول الذي أسره وبذر فيه بذرة السؤال والنقد والشك الديكارتي، لينتقل من الإيمانية التبشيرية إلى العقلانية النقدية. كما توقّفت عند شلالات حنينه الأولى، مطلقاً عليه فقيه الواقع وسادن الجمال، وكنت قد عرّجت على مراحله المختلفة، من المرحلة النجفية إلى المرحلة القمّية، ومنها إلى المرحلة الإفريقية والأوروبية، وصولاً إلى المرحلة الدمشقية التي ظلّ مأسوراً في عشقها ومشدوداً إليها بكل جوانحه، وهكذا استكمل أدواته ليبدأ بفقه التغيير ارتباطاً بنبل المقاصد. وعرّجت عند رسالة مجلة المعارج التي تعتبر مدرسة حقيقية لمن يريد أن يعيد قراءة تجربة ربع قرن من الزمن من التنوير الديني، وهي مدرسة للإيمان بالحوار وقيم السلام والتسامح والحرية والمساواة بين البشر، وإعلاء شأن العقل كقيمة عليا، إضافة إلى إبراز الهويّة بدوائرها المختلفة في علاقتها الديالكتيكية: العروبية والإسلامية والإنسانية. ثم بحثت في دوره في ملتقى الأديان والثقافات للحوار والتنمية، كأحد أبرز مؤسسيه وأمينه العام برئاسة سماحة السيد علي فضل الله، ثم جئت على بعض سجاياه الإنسانية، وكل ذلك في الأدوار التي قام بها في مراحله المختلفة ومراجعاته العديدة من خلال النقد والنقد الذاتي. وخصصت القسم الأخير من هذه السردية للحديث عن ثلاثة أركان في مشروعه الفكري، وهي الركن الأول الذي يتناول الهويّة وتفريعاتها، وبعض سيناريواتها ومقارباتها المتعدّدة والهويّة والحوار، أما الركن الثاني فيتعلّق بالتعددية وأزمة الخطاب الديني، ويبحث في موضوع الأزمة التي نواجهها وإدارة التنوّع الغائبة وصراعات الفتن المختلفة، وكان الركن الثالث الموسوم ب " الاجتماع الإسلامي - المسيحي"، حيث تم التركيز على فروع شجرة الدين الواحدة ولقاء الرسول بوفد نصارى نجران والحوار مع نصارى تغلب، وتناولت في فقرة خاصة بحثه عن المسيحيين بعد وفاة الرسول ودعوته إلى إعادة النظر والتبصّر في التقييم بشأن العلاقة مع المسيحيين وأهل الكتاب بشكل عام، وكان قد خصص جزءًا من هذا المبحث للمسيحيين والدولة العثمانية، واختتم هذه الدراسة المهمة التي قدّمها حول "المسيحية العربية" بسؤال عن الهويّة "الإسلامية - المسيحية"، لأصل إلى الخاتمة المكثفة وهي خلاصة سريعة لخطابه الفكري المتميز، وقد وضعت بيبليوغرافيا مركّزة عن الشيخ حسين وعن المؤلف بعد ذلك كملاحق لهذا الكراس. وأستطيع القول أن هذه الدراسة قد لا تعطي الشيخ حسين حقه، لاسيّما مساهماته المتنوّعة والمختلفة والميادين التي طرقها من علم الاجتماع الديني إلى سوسيولوجيا الدين وسيكولوجية المتدينين، إلى قضية التواصل مع الآخر، المختلف، وأهمية وضرورة الحوار كأمر لا غنى عنه، فالحوار ليس ترفاً فكرياً، بل اضطرار مثلما هو خيار، لاسيّما في ظروفنا الراهنة. ع. الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر الجناح - بيروت مطلع العام 2022 هذه المادة هي بمثابة توطئة لكتاب الباحث الموسوم "الشيخ حسين شحادة: مقابسات المنبع والرؤية". مع مولر في أربيل - العراق في زيارة للسيّد علي فضل الله – بيروت فضل الله يكرّم شعبان بمناسبة صدور كتابه أغصان الكرمة: المسيحيون العرب مع المطران عودة والشيخ حسين شحادة وعمر زي مع الشيخ حسين شحادة