■ أحزابٌ عِندَنا لا تُفرّقُ بين السياسةِ والتّسيِيس.. وأكثرَ من ذلك، تُحوّلُ السّياسةَ إلى تَسْيِيس.. وما كانت السّياسةُ إلا سيّاسة.. والتّسيِيسُ تحريفٌ لمَفهُومِ السياسة.. تَفسِيرٌ سيّئٌ للسّياسة.. تَأويلٌ بطريقةٍ مُلتَويّةٍ انحِرافيّةٍ لمَعْنَى السّياسة.. التّسيِيسُ قِراءةٌ سلبيةٌ لِمَعنَى ومَفهُومِ ودَورِ السّياسة.. ▪︎والسّياسةُ - في دَورِها - مُفِيدَةٌ مِن حيثُ دِفاعُها عن المَصلَحةِ العامّة، في إطار الدّستُور الذي هُو القانونُ الأعلَى للبَلَد.. وما كان المَعقُولُ هو اللاّمَعقُول.. وما كان القانُونِيُّ هو اللاّقانُونِيّ.. وما كانَ التّسيِيسُ قانُونيّا.. ▪︎وها هُو التّسيِيسُ، في دُولٍ أخرى، يقُودُها حتى إلى "تسيِيس حُقوق الإنسان"، للحفاظ على مَصالحِها السيّاسية.. إنهُ التّسيِيسُ، ومِن أجلِ المَصالِح، يَنقَضُّ على السّياسة.. ويُخضِعُها.. ويَستَغِلُّها أبشعَ استِغلاَل.. وها هي السياسةُ تَحتَضِرُ في أحشَاءِ أحزابِنا التي أصبحَت مُتَسَيّسةً أكثرَ مِنها سيّاسيّة.. ▪︎وصِراعَاتٌ ما زالت مَفتُوحة! والتّسيِيسُ يَتَرَصّدُ خُطُواتِ السّياسة! وفي المَشهَدِ العامّ، وتحدِيدًا في وَعْيِنا الاجتماعي: واضِحٌ أن السّياسةَ تَبنِي.. والتّسيِيسَ هَدّام! وصُورةٌ أخرى للمَشهَد: "السيّاسةُ قد تَسيَّسَت.. والتّسيِيسُ قد أصبحَ عندَنا سِيّاسة".. وهذا هو الحالُ العامُّ عِندَنا.. وليس عِندَنا فقط.. هُو الواقِعُ أيضًا في مَناطقَ أخرى منَ العالَم: صِراعاتٌ عَلَنِيّةٌ وخَفِيّة، أو هُما مَعًا، قائِمةٌ بينَ السّياسةِ والتّسيِيس! وحتى في كُبرَياتِ الدّيمقراطيات، قد يَتَحَرّكُ "فيروسُ التّسيِيس" الذي يَنخُرُ الاستِقرارَ السياسي والاقتِصادي والاجتماعي، ويُهدّدُ مبدَأَ "فَصلِ السُّلُطات".. وعِندَنا، وبسَبَبِ سُوءِ تَدبيرِ الحُكومات، وبصِفةٍ خاصّةٍ المُنبثِقة منها عن انتخاباتٍ برلمانية، قد يَقعُ تَداخُلٌ للسُّلُطات، وهذا يَمنَعُ الفَصلَ بينَ التّنفيذية والتشريعيةِ والقضائية.. وعندما يَحصُلُ هذا التّداخُل، يكُونُ تَآمُرٌ قد حَصلَ مِنَ قِبَلِ التّسيِيسِ على السّياسة.. ويُفهَمُ أنّ التّسيِيسَ قد أصبحَ يَتَفَرّدُ بالسياسة، ويَستغِلُّها لأهدافٍ بَعِيدَةٍ عنِ السياسةِ الحقيقيةِ الهادفةِ لخِدمةِ المَصلَحةِ العامّة.. ■ احْذَرُوا التّسيِيس! وهذه نماذِجُ تَسيِيسِيّةٌ صارِخةٌ مِنْ حياتِنا اليَوميّة: 1- الاتّجارُ في الدّين.. وهذا تَسْيِيسٌ شائع.. وعِندَما يُسَيَّسُ الدّين، يتَحوَّلُ إلى أداةٍ سياسِيّةّ لتَضْبِيعِ بعضِ الفئات، لفائدة أشخاصٍ أو جماعات أو حتى أحزابٍ تُتاجِرُ في الدّين.. والبَونُ شاسِعٌ بين السّياسة والدّين: السياسةُ نَشاطٌ بَشَرِي تَدبِيرِي للشّأنِ المَحَلّي والعُمُومِي، بينَما الدّينُ مُعتَقَدٌ وعِبادةٌ شخصيّة.. وفي هذا السّياق، يقول القُرآن: "لا إكراهَ في الدّين".. إن السياسةَ والدّينَ مَجالانِ مُختَلِفان.. أحدُهُما رُوحِي، والآخَرُ مادّي.. والمكانُ الطّبيعي هو أن يبقَى كلٌّ مِنهُما في مَجالِه.. وإلاّ، أَقدَمَ "تَسيِيسُ الدّين" على تقسِيم الناسِ إلى طَوائفَ ومَذاهِب، وبالتالي تُفتَحُ جَبَهاتٌ لمُواجَهاتٍ تقُودُها مَصالحُ كامِنةٌ في "تَسيِيسِ الدّين"، وهذه قد تُعرَفُ بِدايتُها ولا تُعرَفُ نِهايتُها.. 2- تسيِيسُ العادَاتِ والتّقالِيدِ والشّعوذةِ والخُرافة: وهذه طبائعُ اجتماعيةٌ مُوغِلةٌ في القِدَم.. وحالتُها تُوصَفُ بالمُستَقِرّة، لدَرجةِ عَدمِ التّنازُلِ عَن إثارةِ الشّكُوكِ في شأنِ وُجُودِها وفَعاليّتِها.. أمّا إضفَاءُ الشرعيةِ على تَسيِيسِها، وتَقديسُ بعضِ حالاتِها ومَظاهِرِها، هذا يَرفَعُها إلى مُستوًى قد يفُوقُ النّقاشَ والمُساءَلة، رغمَ أنّ تسيِيسَ هذه العادَاتِ لا يَخلُو مِن سلبيّات، مِنها تكريسُ التّخلُّف الجَماعِي، لدَرجةِ الإبقاءِ الفِكرِي في ماضٍ هو عمَليًّا قد انتَهى، ومِنها أيضًا بيعُ الأصوَاتِ الانتخابية، وبالتالِي إفسادُ المُسَلسَلِ الدّيمُقرَاطِي.. فكيف يُفكّر شخصٌ في بِناءٍ المُستَقبَل، على أساسِ ماضٍ لَم يعُد له وُجُود؟ 3- السياسةُ في اتّجاه.. والتّسيِيسُ في اتّجاهٍ مُعاكِس! السياسةُ المُتّزِنةُ تعتَمِدُ نُصُوصًا دُستُوريّة.. والأحزابُ الحاكِمةُ من المَفرُوضِ أن تُراجِعَ دُستُورَ البَلَد، لكي تتَأكّدَ أنّها لا تُعارِضُ الدّستُورَ في قَراراتِها ومَشاريعِ القَوانِين.. ▪︎ولْنَفرِضْ أنّ مُظاهراتٍ قد اندَلَعَت من أجلِ مَطالبَ اجتِماعيةٍ مَشرُوعة: السياسةُ العاقِلةُ تَعمَلُ على حلّ المشاكِل، أمّا التّسييسُ فيَسِيرُ في الاتّجاهِ المُعاكِس.. يَركَبُ على ظهرِ المُشكِل لتحقيقِ فوائِدَ ومَصالحَ شَخصيّةٍ وحِزبية... ▪︎التّسيِيسُ - عَكسَ السيّاسة - يُعَقّدُ المُشكِل.. ويَذهَبُ أبعَد، فيَختَلقُ وُجودَ جِهةٍ ما، ويُلصِقُ بها تُهمَةَ فِعلٍ ما.. ثُمّ نَسمَعُ في الأخبار أنّ الحُكُومةَ لها دَلائِلُ ثابِتَة، تُفيدُ أنّ "جهاتٍ خارجيةً قد قامَت بتحرِيض، وتجيِيش، وتوجِيه، وتموِيلِ العَناصرِ المُحرِّضة والمُحرِّكة للمُظاهرات.. وبتَسيِيسِ الحُكومةِ للمُظاهَراتِ المَطلَبِيّة، تكُونُ قد اختَلَقَت مُشكِلاً إضافِيّا مُوَجَّهًا لاستِهلاكٍ داخِلِي.. وهذا هو التّضليلُ الرّسمِي.. ▪︎وما أكثرَ النّماذِج الإخبارية التي لا دَورَ لها إلاّ تَسيِيس قضايَا كان يُمْكِنُ أن تُعالَجَ بعَقلانيّة، وبدُونِ تَهريجٍ إعلامِيّ تَضلِيليّ! 4- كلُّ ما يُحدِثُ ضجِيجًا اجتِماعيّا مُعرّضٌ للتّسيِيس.. وهذا هو تَوَجُّهُ أحزابِنا.. كلُّ ما تَبحثُ فيه السياساتُ قابلٌ لتَسْيِيسِهِ من أجل إبقاءِ الحالةِ على ما كانت عليه.. والهدفُ هو أن تتشَرّبَ الاجيالُ الصاعدةُ نَفسَ تفاعُلاتِ وسُلوكاتِ الأجيَالِ السابِقة، وعلى نَفْسِ الوَتِيرَة، سياسيّا واجتِماعيّا.. وهذا ما صارَ عليهِ دورُ الأحزاب التي أصبَحت عندنا كثيرة، ومَردُوديّتُها: إبقاءُ السياسةِ "الإقطاعيّةِ" لحُكوماتٍ تُدافِعُ عن مَصالحِ فئاتٍ قد اغتَنَت منَ التّقرّبِ للحُكومة، وما زالت أحلامُها تَدُورُ حولَ مَصالِحَ انتِخابية.. ▪︎وهذا ما يُؤَزّمُ البِلادَ في تعقيداتٍ للتّربيةِ السياسيةِ التي أصبَحَت عاجِزةً عَن إبقاءِ الأحوَالِ على ما كانت عليه.. وأمام تصاعُدِ الوَعي المُجتمعِي، ورغم الإصرارِ الحكومي على تسيِيسِ الدّينِ والتّعليم، فإنّ استِمرارَ الجَمعِ بين الفَتوَى الدّينِيّة والخِطابِ الثقافي أصبحَ مَشهَدًا مَكشُوفًا، والناسُ لا تَجهَلُ أنهُ يسعَى إلى تقسِيمِ المُجتَمَع.. ▪︎وهذا الدّورُ الذي تلعبُه نُخَبٌ دينيّة وسياسية يَصبُّ في اتّجاهِ الحُصولِ على شهاداتٍ بدُون ثقافةٍ مُتَجدّدة.. وهو ما يُفسّرُ انتِشارَ الأمّيةِ الدّينيةِ والثقافية، حتى في أوساطٍ تَقرأُ وتَكتُب.. ▪︎وعلى مُؤسّساتِ بلادِنا أن تَعِيّ مَخاطرَ "تَسيِيسِ الثّقافةِ" بشَكلٍ تُخضِعُ فيه الثقافةَ العامّة لتَأثيراتٍ إيديُولوجيةٍ مِنْ شأنِها الانحرافُ بالمُجتَمعِ عن القيَّمِ والأخلاقِ المُتعارَفِ عليها دوليّا.. * وعَلَينَا بتَجنُّبِ تكبِيلِ الإبداعِ الإنسانِيّ! [email protected]