كانت صحيفة " الباييس" الإسبانية التي تُعتبر من أوسع الجرائد انتشاراً في إسبانيا في الوقت الراهن قد أجرت حواراً مع الشّاعر السّوري أحمد سعيد إسبر المعروف بأدونيس والمقيم حالياً في فرنسا عن أهمية التمدرس، والتعليم، وويلات الحروب الأهلية، وحلم الرّبيع العربيّ ، والهجرات المتوالية ،وعن داعش عندما كان هذا التنظيم يثير الرّعب، وينشر الفزع والهلع فى المناطق التي كانت تحت هيمنته، ولم يكن يتورّع من تحطيم القصور والدور، وتدمير التماثيل والمجسّمات والمنحوتات الأثرية التاريخية ، في العراق وسورية، وكانت هذه الآثار تعود لعصور قديمة ومنها ما كان مدرجاً ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو مثل مدينة الحضر وآشور والتي تدعى بقعلة الشرقاط وكالح في العراق، بالإضافة إلى مدينة تدمر الأثرية في سوريا، فضلا ً عن تدمير عدة مساجد قديمة مثل مسجد النبي يونس في الموصل، والتي يعتقد بأنها تحوي رفاة النبي يونس أو يونان وكذلك مسجد النبي شيث، بالإضافة إلى تدميره لعدة مساجد وكنائس ومعابد يزيدية قديمة بالإضافة إلى المراقد الشيعية. أدْخِلني إلى المدرسة ! استهلّ الصحافي الإسباني "غيّيرمُو ألتاريس"، الذي أجرى معه هذا الاستجواب حديثه، مشيراً إلى أنّ الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي كان قد زار ذات مرّة ضيعة القصابين عام 1943، وخلال هذه الزّيارة عُهد إلى طفل صغير ذي نبوغ أدبي مبكّر يُدعى علي أحمد إسبربقراءة قصيدة أمام الرئيس القوتلي، الذي في غمرة سروره بذلك سأله ما إذا كان يريد أن يفعل شيئاً من أجله، فأجابه الطفل الصّغير قائلاً أمام الملأ : "أدخلني إلى المدرسة"، ذلك الطفل الصغير هو الذي أصبح يُعرف اليوم بأدونيس، والذي يُعتبر من كبار الشّعراء العرب، وقال الصحافي أنّ أدونيس هاجر في البداية إلى لبنان عام 1956 ثم انتقل إلى باريس عام 1986، وقد جاوز اليوم التسعين من عمره ليس شاعراً كبيراً فقط، بل إنه من الأصوات الناقدة والمشعّة في العالم العربي، حسب ما يعكس كتابه الأخير الذي يحمل عنوان "العنف والإسلام"، الذي نقل إلى لغة سيرفانتيس، وصدر عن دار النشر الإسبانية " أرييل" ، كما صدر في لغات حيّة أخرى . أشار الشاعر أدونيس في بداية حديثه الذي لم يخلُ من بعض المبالغات والتضخيم والتهويل حول بعض القضايا التي أثارها الصحافي الإسباني، والتي لها صلة بالعالم العربي، والأوضاع التي يعيشها في ظلّ الظروف الصّعبة التي أصبح يعرفها العالمان العربي والغربي، على حدّ سواء، خاصّة بعد الأحداث الدامية التي كانت قد عرفتها باريس منذ بضع سنوات . على ضفاف نهر السّين يشير الصحافي الإسباني إلى أنه أجرى معه هذا الحديث في أحد المقاهي الباريسية الشّهيرة التي يؤمّها صفوة المثقفين والفنانين الأوروبيين، التي كانت غاصّة بالسيّاح والباريسيين،على ضفاف نهر السّين ، وبعد أن أورد الصحافي مقتطفاً من قصيدة نثرية لأدونيس يقول فيها ما معناه: "إذا كنتُ مواطناً مشرقيّاً ،فذلك لأنني خلقتُ مشرقي الخاص بي، إنني أنتمي إليه بقدر ما ينتمي هو إليّ.. هذا المشرق هو كذلك الذاكرة والنسيان، والحضور والغياب". وأضاف الصحافي مشيراً إلى، " أنّ هذا المرشّح الأبديّ لجائزة نوبل في الآداب (حتى ولو حصل على عدّة جوائز مهمة أخرى منها جائزة "جوته" المرموقة، لا يتردّد في تقديم نظرته الخاصّة به حول المشرق فيقول: "لا يمكن أن تكون هناك ثورة عربية حقيقية بدون الفصل التام والجذري ما بين الدّين والثقافة، والمجتمع والسياسة" . ونقدّم في ما يلي مقتطفاتٍ لبعض ما جاء في هذا الاستجواب لهذا الشاعر المثير للجدل دائماً : عن سؤال كيف يشعر عندما رأى الحربَ السّورية تصل إلى قلب باريس؟ أجاب قائلاً: هذا أمر لم يباغته، فتنظيم " داعش" والإرهابيون كانوا يسعون ليصبحوا دوليين، ليبيّنوا أنهم هناك، وأنهم أقوياء" . الثقافة في مواجهة داعش وعن تأثير "الدولة الإسلامية" البليغ في بعض الشباب؟ قال أدونيس : «لا شكّ أنهم يؤثّرون على بعض العقليات، لأنّ هناك ذاكرة تاريخية نحو الغرب، كما أنّ هناك حالة نفسية راجعة للإحباط الذي يعتري العربَ على جميع الأصعدة، ولهذا يمكن ل" داعش" أن يؤثّر في العديد من الأشخاص، كما أمكنه أن يجد له مكاناً في عقلية بعض العرب الذين يعيشون في جوٍّ من العدمية، إنه من الضروري البحث عن جذور هذا التأثير، ومحاربة " داعش" ينبغي أن تكون بواسطة بالثقافة كذلك ، إذ لا يمكن للجيوش فقط القيام بذلك. وعن اعتقاده إذا ما كانت الثقافة هي أهمّ من العمليات الحربية؟ قال أدونيس : «إنّها بالفعل أكثر أهمية، فالجيش في نظره لا يمكنه القتال، بل التصفية، إلاّ أنه لن يحصل على الكثير من جرّاء ذلك. إذ لا يمكننا أن نهزم العنف بمزيد من العنف، بل ينبغي البحث عن وسائل أخرى». وعن سؤال ما إذا كان يرى أنّ هناك مخرجاً للنزاع السّوري؟ أجاب: " ينبغي لنا أن نتوقّع دائماً أنّه يوجد مخرج، فالشّعب يستطيع دائماً أن يجد مخرجاً، لا ينبغي لنا أن نيأس، فالأمل هو جزء من شخصية جميع الشعوب" . جِراح الحروب الأهلية الغائرة وعن الجراح العميقة التي سبّبتها «الحرب الأهلية السورية» التي يبدو أنها أصبحت غائرة وعميقة جداً، والتي تحوّلت إلى نزاع وحشيّ، قال الشاعر أدونيس: «إنّ جراح أيّ حرب أهلية هي دائماً عميقة، وخاطب الصحافي الإسباني قائلاً:" وأنتم في إسبانيا تعرفون ذلك جيّداً خلال حربكم الأهلية ( 1936- 1939) " وأضاف أنّ الحرب الأهلية هي جرحٌ غائر في حدّ ذاتها، إلاّ أنه مع ذلك ما زال متفائلاً بالنسبة للشعوب، وأشار بغير قليل من المبالغة إلى "أنّه ليس هناك نظام عربي ديمقراطي"، وفي رأيه "أنّ العرب لم يعرفوا الديمقراطية قطّ في تاريخهم"، وتحدّث عن حقوق الإنسان، وعن وضع المرأة في العالم العربي، وعن النصوص الدينية، كما تهجّم بدون هوادة على المعارضة في البلدان العربية. وقال: «وما هو أكثر إثارة للدّهشة هو أنّ جميع المعارضين وكأنّهم صيغوا من المادّة نفسها، أو من الخشب نفسه، إنهم يقدّمون الوجه الآخر للعملة نفسها، لأنّ معظمهم ليس لديهم أيّ مشروع للقطيعة مع الدّين»، وقال "كان هناك بعض التقدّم في تونس"، وقال " إنّ السياسة بالنسبة له هي جزء من الثقافة، ولا يمكن أن تكون هناك ثورة عربية بدون فصل تام وجذري ما بين الدّين والثقافة، والمجتمع والسياسة " . عن الربيع العربي ومآله وبسؤاله عن الربيع العربي إن كان قد أمسى فرصة ضائعة؟ ، قال: «مع الأسف، نعم، لقد كتبتُ الكثيرحول هذا الموضوع، لقد انتهى كلّ شيء، وتحوّل إلى نزاع دولي بعد أن تجاوز العنف سوريا بشكل كبير». وباعتباره مواطناً سورياً، وباريسياً في الوقت ذاته، سأله الصحافي الإسباني عن شعوره عن أحداث العنف التي كانت قد عرفتها باريس؟ فقال: «ذلك كان فظيعاً، والذين قاموا بهذه العمليات كانوا مرتزقة، ف"داعش" يحارب ومعه أناس من 80 بلداً، لقد ذبحوا الناس، ووضعوا النساءَ داخل قفص وباعوهنّ كما لو كنّ سلعة، هذا شيء رهيب، لقد حطموا أعمالاً كبرى للمعمار والفنون، ودمّروا ونهبوا المتاحف، هذا ليس بثورة، فالثورة ينبغي لها الحفاظ على التاريخ، وعلى الفنون، أيّ ثورة هذه التي دمّرت سوق حلب الذي كان عملاً رائعاً؟ هل في مقدور ثورة سورية حقيقية تدمير حلب أو تدمر؟. الهجرات وويلاتها وقال له الصحافي الاسباني إنه فرّ من بلاده عام 1956، وهرب إلى بيروت، ومنها في الثمانينيات من القرن الفارط إلى باريس بسبب الحرب الأهلية ذاتها... بماذا يشعر عندما يرى آلاف الأشخاص في الطرقات الأوروبيّة بحثاً عن ملجأ أو مأوى؟ فقال: «إنها مأساة بالنسبة له أن يرى هؤلاء الأشخاص الذين يُسامون سوء المعاملة من طرف الأوروبيين الذين يتردّدون في قبولهم»، ووجّه تحية إلى ألمانيا التي قال عنها: «إنها كانت من أكثر الأقطارالأوروبية كرماً، حتى إن لم تكن قد استعمرت البلدان العربية، وأمّا الدّول التي استعمرت البدان العربية مثل المملكة المتحدة، وفرنسا، وبلجيكا، وإيطاليا، فقد كانت أقلّ كرماً من ألمانيا»، وتساءل: «هلاّ تشعر هذه البلدان بأن عليها دَيْناً خلقياً نحو العرب؟» وعن الواقعة الطريفة إيّاها التي وقعت له شخصياّ في صباه مع الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي حيث ألحّ أنّه على الاطفال العرب أن يذهبوا إلى المدرسة، حتى تعمل الثقافة على إيجاد الحلول لمثل هذه المشاكل. قال: «إنّ ذلك كان في الأربعينيات، وكان شيئاً آخر»، وهو يرى أنّ الثقافة شيء ينقص العرب، كما ينقصهم العمل كذلك، فالبطالة تعتبر مشكلة كبرى، فضلاً عن المشاكل الاجتماعية والقبلية، وجرّ المعتقدات البالية والروابط الأسرية والعِرقية، كلّ هذه العناصر ما زالت هناك وقال: «إننا لم نتمكّن من إيجاد الحلول بعد لأيّ شيء، لأننا -حسب اعتقاده- لم نتمكّن من فصل الدّين عن الدّولة». وقال: «إننا ما زلنا في القرون الوسطى (!) لم تتغيّر سوى الواجهة، لدينا سيارات وطائرات، إلاّ أنّ الثقافة ما زالت قبلية وقديمة ودينية». وعن سؤال إن كان كلّ ذلك قد وصل أيضاً إلى الشباب العرب في الضواحي والأرباض الفرنسية؟ .قال: نعم إنه الشيء نفسه، فالجمهورية الفرنسية تشعر بأنه لا علاقة لها بهم، مثلما يشعرون هم كذلك حيال الجمهورية، هناك جدار ضخم يفصل بينهما، كيف يمكن تدمير هذا الجدار؟... قال: «إنه ليس لديه الجواب على ذلك، لأنه لا يزاول السياسة " .! * كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا