إن التميز الذي تحوزه الوظيفة العمومية بمفهومها التقليدي، بما تحيل عليه من خاصيتي النظامية التي تعبر عن انفرادية إرادة الدولة في تنظيم وضعية موظفيها، والمسار (La carrière) حيث يلج الموظف الإدارة في سن مبكرة ليقضي فيها حياته المهنية إلى حين بلوغه سن التقاعد، يتأتى من اعتبارها لوقت طويل تجسيدا لسمو المصلحة العامة وقيم المرفق العام ونبل المهام المرتبطة بهما. وقد اقتضت هذه الخصوصية إحاطة موظفي الدولة بمنظومة حقوق وواجبات خاصة، وتوفير الحماية لهم من كل أشكال الضغوطات السياسية والمالية حرصا على حيادهم في خدمة مصلحة الوطن، وفي هذا الإطار أكد Gaston Jèze أن أعوان الدولة من الضروري أن يكونوا خاضعين ل"نظام قانوني متميز يقتضي التبعية التامة للمصالح الشخصية والمصالح الحزبية للمصلحة العامة". طبعا تطورات وضغوطات كثيرة ساهمت في إضفاء النسبية على هذه الصورة الأصلية للوظيفة العمومية، ودفعت العديد من الدول إلى إدخال إصلاحات همت بالأساس تطعيم هذا النظام بآخر تعاقدي يتسع ويضيق مداه حسب خصوصيات كل دولة وخياراتها السياسية، كما هو الشأن بالنسبة لتوجه حصر الوظيفة العمومية على المجالات المرتبطة بالسلطة العامة ... ضمن هذا الإطار نشير إلى أن فرنسا، التي سجلت تأخرا في اللحاق بركب نظيراتها في الديمقراطيات الغربية، على مستوى إدخال إصلاحات جوهرية على وظيفتها العمومية، قد بدأت بدورها تعطي مساحة أكبر للتعاقد، وإن أبقت عليه مكملا للتوظيف النظامي، مع العلم أن الأمر يتعلق في غالب الأحيان بعقود القانون العام التي لا تدبر عن طريق قانون الشغل، ولكن من خلال مقتضيات تشريعية وتنظيمية خاصة. قدم إشكالية التعاقد من اللازم التأكيد بداية أن السجال الدائر بخصوص التعاقد ليس بدعة دخيلة على الوظيفة العمومية بالمعنى الذي تحدثت عنه أعلاه، فبالعودة إلى النقاش المؤسس لتبني أول نظام للوظيفة العمومية الفرنسية سنة 1946، نجد أن موقف النقابات آنذاك كان رافضا لخضوع أعوان الدولة لنظام تصدره الحكومة بشكل انفرادي، وتطالب بالمقابل بتطبيق قواعد قانونية واجتماعية للقانون العادي كونهم عمالا كغيرهم، وبالتالي وجب أن يحدد نظامهم في إطار الاتفاقيات الجماعية والقانون العادي. وكان هذا الموقف يجد مبرره في كون فرض نظام (Un statut) للوظيفة العمومية يعني الحرمان من تأسيس الهيئات النقابية والانتماء إليها، طبعا هذا الوضع سيتغير لاحقا بعد التوافق على نظام الوظيفة العمومية لسنة 1946، مع الاعتراف بالمقابل للموظفين بالحق في العمل النقابي. بخصوص الوظيفة العمومية المغربية نجد أيضا أن إقرار آلية التعاقد ليس من الأمور المستجدة، إذ بعد سنوات قليلة من صدور ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ستستعين الإدارات العمومية بمتعاقدين، ولو أن ذلك تم خارج مقتضيات النظام الأساسي، واقتصر على منشور كان من نتائجه إيجاد فئة عريضة من المتعاقدين دون ضابط قانوني وفي وضعية هشة، وقد حاولت الحكومات فيما بعد تدارك الأمر من خلال عمليات ترسيم متتالية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الفراغ القانوني فيما يتعلق بالاستعانة بالمتعاقدين، ستتم معالجته بمقتضى الفصل 6 مكرر من القانون 50.05 المغير والمتمم للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، وكذا المرسوم التطبيقي رقم 2.15.770 الصادر في 09 غشت 2016 بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية. دفوعات المعارضين والمساندين للتعاقد غالبا ما يأخذ النقاش بخصوص التعاقد في الإدارات العمومية منحى متشنجا، بحكم تواجد المدافعين عنه والمعارضين له على طرفي نقيض، حتى أضحى الأمر شبيها بحوار الطرشان، فبينما يرى فيه طرف حلا لوضع الجمود الذي تعيشه الوظيفة العمومية، فإن الطرف الآخر يؤكد على قناعة أن التعاقد يستهدف تفكيك القطاع العام وتصفيته بتوجيه من المؤسسات المالية الكبرى... من هذا المنطلق يبقى من المهم الإجابة على السؤال المركزي التالي: ما هي التبريرات التي يقدمها كل طرف للدفاع عن وجهة نظره؟ أولا) لا يفتئ المعارضون لأي شكل من أشكال التطبيع مع آلية التعاقد في الإدارات العمومية، يوجهون أسهم النقد والنظر بعين الريبة إلى كل القاموس اللغوي الذي يؤطر إصلاح الوظيفة العمومية تحت عنوان التدبير العمومي الحديث، فمفاهيم المرونة والحركية والتكيف... اللصيقة بعالم المقاولة، لا يمكن النظر إليها بحسبهم إلا من زاوية كونها قيما جديدة، يراد لها أن تحل محل المبادئ الكبرى التي طالما أطرت المرفق العام كالمصلحة العامة والمساواة والحياد...، فداخل عسل التسويق لهذه المفاهيم وغيرها يتم دس سم تعبيد الطريق أمام مسلسل خوصصة مرافق الدولة الذي لن يستثني حتى الاجتماعية منها. ولابد من الإقرار هنا أن الانفتاح على المنطق الاقتصادي هو ما شجع التوجه نحو التوسيع التدريجي للمجال التعاقدي، وتضييق مجال الوظيفة العمومية بالمقابل. حيث الأولوية للنجاعة والبحث عن التكلفة الأقل ضمن منطق ربحي خالص، في ظل تراجع الدولة للتركيز على وظائفها السيادية وإعطاء المزيد من هامش التدخل للقطاع الخاص، باعتباره نموذجا للقيم التي يجب أن تسود التدبير....، لذلك لا يمكن إنكار أن فلسفة التعاقد تندرج ضمن إطار أشمل يتوخى حصر نطاق الوظيفة العمومية ضمن حدود ضيقة تجعل منها الاستثناء لا القاعدة، وهو أمر يمكن الاستدلال عليه من خلال العديد من التجارب المقارنة. غير أن إلقاء نظرة ولو خاطفة على هذه التجارب المقارنة، يفضي لاستنتاج مفاده أن الأمر يتعلق ببلدان رائدة على مستوى نماذجها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحقوقية، لذلك فالخشية أن تتم محاكاة هذه التجارب في الشق المتعلق بالوظيفة العمومية، دون مراعاة للفوارق والخصوصيات الأخرى التي لا تكتمل الصورة دونها. يستشهد المعارضون بالعديد من الأمثلة في المغرب ودول أخرى كفرنسا، والتي تثبت كيف ساهمت "الهرولة" غير المحسوبة نحو التعاقد في خلق فئة من الأعوان في وضعية هشة، حيث تبرز ثنائية الموظف المرسم في درجته، والعون غير المرسم المهدد بشكل دائم بفقدان عمله (غياب الأمن الوظيفي)، إضافة إلى هشاشة مالية حيث يتقاضى العون المتعاقد رواتب أقل، ويفتقد لحماية قانونية من المخاطر وحالات الاستغلال على خلاف الموظف المحمي بمقتضى نظام الوظيفة العمومية. إننا بصدد الحديث عن فئة من الأعوان العموميين يتمتعون بحقوق وضمانات أقل من الموظفين رغم أنهم قد يتقاسمون معهم نفس المهام ونفس مقر العمل، مما يجعل منهم عاملين من الدرجة الثانية مع ما يترتب من هوة ثقافية واجتماعية عن هذه الوضعية، والتي لا يمكن إلا أن تنعكس سلبا على محيط العمل، وبالتالي الإنتاجية. لطالما ارتبط إدخال التعاقد للإدارات العمومية بسياق الحديث عن الإكراهات المالية، والتي ترتبط في جزء كبير منها بكتلة الأجور المرتفعة التي تتحملها ميزانية الدولة، ولأن نظام الوظيفة العمومية يجعل مسطرة التخلص من الموظفين وتسريحهم معقدة بحكم الحماية التي يوفرها لهم، فإن الحل يكمن في الانتقال لمنطق القطاع الخاص الذي يجعل فسخ العقود، خاصة إبان فترة الصعوبات المالية، أمرا ميسرا وممكننا. وقد يضيف المعارضون للتعاقد أنه حتى مع التسليم بكون نظام الوظيفة العمومية الحالي مسؤول عن ارتفاع كتلة الأجور، فإن لا دليل يثبت أن التوجه نحو التعاقد سيساهم في التقليص من هذه النفقات، كما أن الدولة لا تمتلك دراسات استشرافية ولا مقارنة تثبت أن هذا الأمر سيمكن فعلا من تحسين الخدمات والرفع من جودتها، فالأمر يبقى في نطاق العموميات واستحضار أمثلة لا تتوفر فيها الدقة ولا مقومات جعلها نماذج صالحة للمقارنة. ثانيا) يجزم الطرف المتحمس لإدخال التعاقد للإدارات العمومية أن هناك حاجة تدبيرية لاعتماد آلية التعاقد، ويستشهد في هذا الإطار أساسا بمسوغ ضرورة الاستجابة لحاجيات مؤقتة ومناسباتية، كما هو الشأن بالنسبة لتعويض ظرفي لموظف غائب بسبب رخص مرضية أو إجازات عمل مؤقتة، وكذا مواجهة تزايد مرتقب في الطلب على مهن معينة (عرضي أو موسمي)، أو الاستفادة من كفاءات غير متوفرة بشكل كاف لدى الأعوان المرسمين أو أنها ليست في المستوى الذي تبحث عنه الإدارة المعنية. ينطبق هذا الحال على بعض المؤهلات التي تتزايد الحاجة إليها بشكل جد سريع، لمبررات ظرفية أو هيكلية وكذا بسبب ضعف حركية الموظفين، وحالات اللجوء هذه إلى العقد لا يمكن أن يتم تقليصها إلا إذا قامت الإدارات العمومية بتوظيفات أكثر تنوعا وتعمل على تطوير الحركية فيما بينها. هناك داع آخر يتعلق بالأخذ بعين الاعتبار الحركية بين القطاع الخاص والقطاع العام، بما يساهم في إغناء الإدارة بتوظيفات لأشخاص قادمين من القطاع الخاص يتوفرون على بروفايلات ومؤهلات وتجارب مهنية متنوعة (خاصة على مستوى شغل مناصب المسؤولية). ثم أيضا الاستجابة لحالات المهن والتخصصات التي تجد بشأنها المرافق العمومية نفسها في وضعية منافسة مع القطاع الخاص أو في سباق عالمي، مما يهدد بالتسبب في مغادرات واسعة وصعوبات دائمة في التوظيف، ولعل أبرز مثال هنا هو مجال البحث عالي المستوى والعاملون بالمرافق الصحية (هذه المسوغات منقولة من تقرير الكتاب الأبيض حول مستقبل الوظيفة العمومية الفرنسية الصادر سنة 2008 بتصرف). ضمن هذا السياق يمكن أن نفهم قرار إخراج مهني الصحة من نطاق تطبيق النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، بمقتضى القانون رقم 39.21 بتتميم الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، كون المنظومة القانونية الحالية للوظيفة العمومية غير قادرة على تلبية طموحات هذه الفئة، خاصة فيما يتعلق بمنظومة الأجور. ثم إن مشروع تعميم التغطية الصحية الذي أطلقه المغرب باعتباره ورشا استراتيجيا، يتطلب مواجهة ضعف معدل التأطير الطبي والعجز الكبير في الموارد البشرية وعدم تكافؤ توزيعها الجغرافي، لذلك فالتعاقد يعد من منظور مختصين وأطراف حكومية إحدى مداخل رفع هذا التحدي. إن توجه المغرب نحو إحداث وظيفة عمومية طبية أو استشفائية مستقلة عن الوظيفة العمومية للدولة كما هو عليه الحال في فرنسا، الغرض منه التحرر من جمود نظام الوظيفة العمومية، والسعي بالمقابل إلى جعل التعاقد ركيزة لتحفيز الموارد البشرية، بالنظر لما يوفره من فرص على مستوى تفريد (L'individualisation) الأجور ثم تثمينها تبعا لمعايير تتعلق بالكفاءة وطبيعة المجهود المبذول، وهو ما سيمكن المرفق الصحي من الحفاظ على تنافسيته في جذب الكفاءات والحفاظ على تلك التي يتوفر عليها. يضيف المؤيدون في مرافعتهم أن إدخال التعاقد وتوسيع مجاله لم يعد مطلبا حكوميا فقط، بل إن أعدادا متزايدة من الأجيال الجديدة من الموظفين تعبر بدورها عن هذا المطمح، كونها تتطلع لحركية أكبر سواء داخل إداراتها أو بين الإدارات (والقطاع العام ككل) والقطاع الخاص، وترغب في تثمين أكبر لكفاءاتها المهنية وأن تتمكن من التفاوض بخصوص شروط وأدوات العمل، لذلك لم يعد الترسيم بالنسبة لها بتلك الجاذبية التي كان عليها بالنسبة لمن سبقوهم. ملف أساتذة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين لا يمكن أن ننكر أن صدور المقرر المشترك لوزير التربية الوطنية والتكوين المهني ووزير الاقتصاد والمالية رقم 7259 بتاريخ 7 أكتوبر 2016 في شأن وضعية الأساتذة المتعاقدين مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، في عهد حكومة عبد الإلاه بنكيران قد وضع عقبة إضافية في مسار التأسيس لمناخ صحي تسوده الثقة وحسن النوايا بخصوص مستقبل التعاقد في الإدارات العمومية. لقد كان لهذا القرار انعكاسات سلبية على جميع المستويات نتيجة تنزيله المتسرع، وإقصاء مكونات منظومة التربية والتكوين والفعاليات السياسية والنقابية والمدنية من مسار التشاور بخصوصه قبل تنفيذه، خاصة وأن الأمر يتعلق بقطاع استراتيجي ويهم كل المغاربة. والمؤسف أن تداعيات هذا القرار لا زالت مستمرة وتتراكم في ظل إصرار أساتذة الأكاديميات الجهوية على خوض إضرابات وتنظيم وقفات احتجاجية خلال كل سنة دراسية، إذ لم تنجح كافة التطمينات التي قدمت لهم في تبديد مخاوفهم وإقناعهم بانتفاء وضعية التعاقد عنهم بعد إدخال تغييرات على الأنظمة الأساسية الخاصة بهم بتاريخ 15 مارس 2019. وإذا كان التبرير الرسمي في مواجهة أساتذة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين قد استعاض عن التعاقد بالتوظيف الجهوي، فإني أعتقد أن هذا "الاستدراك" قد أكد أكثر حالة التخبط، إن لم نقل غياب الوضوح، الذي رافق تدبير الحكومة لهذا الملف، كوني أعتقد أن مبرر إدخال التعاقد لقطاع التعليم يبدو على الأقل منسجما في طرحه وله مرجعية تؤطره، ناهيك أن دولا عديدة قد سبقت إلى اعتماد هذا الخيار. أما وأن القضية لم تعد تتعلق سوى بإرساء الجهوية المتقدمة وتفعيل ميثاق اللاتمركز الإداري، فإن الأمر يطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص الخلفيات الحقيقية لهذا القرار، لكون تحقيق هذا الهدف ممكن من خلال تفويضات إضافية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين تمكنها من تدبير كافة العمليات المرتبطة بالمسار المهني لهؤلاء الأساتذة، كما هو الشأن بالنسبة للتوظيف والحركية، مع الإبقاء على مناصبهم المالية مقيدة في الميزانية العامة للدولة، مادامت هذه المناصب هي في الأصل تحويلات من قطاع الاقتصاد والمالية، كون الأكاديميات الجهوية لا تتوفر على موارد مالية خاصة. إن هذا الإصرار على تضمين المناصب المالية لهذه الفئة من أساتذة التعليم في ميزانيات الأكاديميات الجهوية لا في الميزانية العامة، لا يمكن فهمه إلا في سياق تشجيع وتحضير هذه المؤسسات العمومية مستقبلا للبحث عن مصادر تمول بها هذه النفقات المخصصة لأعوانها بعيدا عن مساهمات الدولة، وهو ما لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال خوصصة جزء من الخدمات التي تقدمها، وهو ما يخشى ربما المسؤولون الإفصاح عنه في الوقت الراهن على الأقل. مع الإشارة هنا أني لست معنيا بالجانب الأخلاقي والقانوني الذي يثار بخصوص مطالب هؤلاء الأساتذة، لأني أعتقد أن ما يستحق التركيز والتنبه له هو النتائج والمخرجات المترتبة عن هذا القرار الذي يهم سياسة عمومية ذات أولوية، والتي تساءل عنها الحكومة أولا وأخيرا. ومن هذا المنطلق أعتقد أن إخراج أساتذة الأكاديميات من الوظيفة العمومية وخلق ثنائية موظفي الدولة وأساتذة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين داخل نفس المرفق العمومي لم يكن قرارا صائبا بقياس ما ترتب عنه. على سبيل الختم يبدو من الواضح أن التعاقد في الإدارات العمومية على درجة كبيرة من الحساسية، ليس فقط لكونه موضوع استغلال سياسي أحيانا أو ورقة تستخدم في التدافع بين النقابات والحكومة، ولكن لأن الخيارات التي تتخذ بخصوصه لها تبعات على مستوى تحديد نطاق ومفهوم المصلحة العامة وكذا شكل المرفق العام ووظائفه. المستفاد من الخطوات الرسمية في المغرب بخصوص التعاقد، أنها لا تحمل إشارات توحي بوجود نية التخلي عن الوظيفة العمومية في نطاقها الحالي، بل هناك قناعة بضرورة البقاء داخل النموذج الذي يؤطرها، وبالتالي لا مجال للحديث عن الخوصصة بقدر ما يتعلق الأمر بالتوجه نحو السعي لإرساء وظيفة عمومية توفر مرونة أكبر، في انتظار ما قد تكشف عنه قادم الأيام بخصوص الوظيفة العمومية الاستشفائية، وكذا النظام الأساسي الخاص بموظفي إدارة الجماعات الترابية الذي من المفترض أن يصدر بمقتضى قانون. مسألة أخرى لابد من التأكيد عليها هنا تتمثل في كون الانتقادات الموجهة لنظام الوظيفة العمومية لا ترتبط فقط بما تراكم عبر كل هذه السنوات من ممارسات وتقاليد سلبية، بل يتعلق جزء منها بكنه هذا النظام، لذلك لا يمكن لأحد أن يدافع عن الإبقاء عليه كما هو وشيطنة كل تغيير يلحقه. لكن هذا لا يعني الدعوة ليكون التعاقد مزاحما للوظيفة العمومية، بل فقط ضمن إطار يجعله مكملا لها، وهو الحاصل حاليا مع عدم الخوض في التفاصيل. ولابد من الإشارة إلى أن التعاقد هنا ليس واحدا، فهناك عقود القانون العام وعقود القانون الخاص، وتلك المحددة المدة وأخرى غير محددة المدة، والتي تحتاج بدورها للكثير من التوضيح، والاختيار والمفاضلة فيما بينها ليس بالسهولة التي قد نتصورها، في ظل صعوبة التوصل لمعايير حاسمة ترجح هذا الخيار أو ذاك. *باحث في مجال الإصلاح الإداري