لم يكن تخليد الجزائر يوم أمس الأحد للذكرى الثانية والأربعين لرحيل الرئيس الأسبق محمد إبراهيم بوخروبة، الشهير باسمه الحركي الذي عُرف به خلال إقامته بمدينة وجدة المغربية، هواري بومدين، (لم يكن) حدثا سنويا عاديا، إذ إن الذكرى حلت هذه المرة في وقت يتكبد فيه النظام الحاكم هناك هزائم ديبلوماسية غير مسبوقة في ملف الصحراء الذي بنى بومدين نفسه عقيدة بلاده الصدامية تجاه الرباط على فكرة انفصالها على المملكة ولو بقوة السلاح. فبومدين، الذي كان جزءا من "مجموعة وجدة"، التي ضمت أيضا عبد العزيز بوتفليقة، والتي احتضنت المملكة كفاحها ضد الاستعمار الفرنسي انطلاقا من أراضيها، كان أول من أشعل فتيل أعقد صراع في المنطقة المغاربية، الذي لم يجد طريقه إلى الحل طيلة 45 عاما، مخلفا تركة يرفض النظام العسكري المتحكم في دواليب قصر المرادية وضع نقطة نهاية لها حتى بعد حراك 2019 الذي رفع شعار "يتنحاوْا كاع"، مُلوحا بحرب مباشرة كان الرئيس الراحل يُمني النفس بها سنة 1975. حكرونا.. حكرونا! وبدأت العقيدة الصدامية لبومدين تتشكل عندما كان وزيرا للدفاع في عهد سلفه الرئيس الراحل أحمد بن بلة، عندما قررا معا دخول حرب غير محسوبة العواقب، بدأت يوم 8 أكتوبر 1963 بسقوط 10 جنود مغاربة برصاص قادم من الجانب الجزائري، وانتهت بالصرخة الشهيرة لابن بلة "حكرونا المغاربة.. حكرونا"، التي لا زال صداها يتردد إلى اليوم في الأوساط السياسية والعسكرية الجزائرية، حتى إن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة قال عنها ذات مرة أمام حشود مناصريه "هي صفحة أريد أن أطويها، لكنني لن أنساها". لكن بومدين كان أكثر إصرارا على تذكر هذه العبارة التي مثلت إقرارا رسميا بهزيمة الجزائر في "حرب الرمال"، لذلك وضع نصب عينيه أولا إزاحة ابن بلة أولا من منصب الرئيس في انقلاب 19 يونيو 1965 الذي نفذه رفقة عناصر "مجموعة وجدة" وانتهى باعتقال أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال بشكل مُهين من داخل منزله، وإطلاق ما سُمي بعملية "التصحيح الثوري" التي قادت بومدين إلى منصب رئيس "مجلس الثورة" وعبره إلى حكم البلاد لأكثر من 13 عاما. المسيرة السوداء ولم يكن بومدين دبلوماسيا في عدائه للمغرب، لذلك عجل باحتضان جبهة "البوليساريو" عقب تأسيسها سنة 1973 ووفر لها، إلى جانب العقيد الليبي الراحل معمر القذافي المال والسلاح لتحويلها من منظمة لمقاومة الاحتلال الإسباني إلى جبهة انفصالية تدعو لإقامة دولة مكونة ب80 ألف شخص على أرض مساحتها 266 ألف كيلومتر مربع، أي أكثر من مساحة بريطانيا. وشرع بومدين في الإعداد لانفصال الصحراء مستندا لقرار الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو إقامة استفتاء لتقرير المصير بالمنطقة سنة 1974، وهو الأمر الذي وجد فيه فرصة سانحة للصدام مع غريمه الحسن الثاني الذي لم يكن يخفي استعداده للتدخل العسكري بالمنطقة فور خروج إسبانيا منها، لكن تحركه على أرض الواقع كان مفاجئا للجميع بمن في ذلك الرئيس الجزائري، حينما بعث إلى المنطقة 350 ألف مدني في "المسيرة الخضراء". وفي واحدة من أقسى أوجه العداء المغربي الجزائري خلال تلك الفترة، لم يجد بومدين طريقة للرد على "المسيرة الخضراء" التي مهدت للسيطرة عمليا على أجزاء شاسعة من الصحراء بعد الاتفاق الثلاثي المغربي الموريتاني الإسباني، إلا عبر "المسيرة السوداء"، العبارة التي يوصف بها قراره المفاجئ والصادم بطرد 45 ألف مغربي كانوا مقيمين في بلاده يوم 18 دجنبر 1975 قبل يوم واحد من عيد الأضحى. ما عنديش الرجال! وكان بومدين يمني نفسه بصدام أكبر من ذلك، حيث كان يرغب في حرب مباشرة مع المغرب سنة 1975 لعله يمحو بها أثر هزيمة 1963 التي ظل عاجزا عن هضمها، إلا أنه صُدم بمعارضة قادة الجيش الجزائري لذلك، حسب ما حكته مذكرات رئيس الجمهورية الأسبق الشاذلي بن جديد التي نشرتها جريدة "الشروق" سنة 2012. الحسن الثاني في استقبال الرئيس الجزائري هواري بومدين في لقاء "نادر" جمعهما وأورد بن جديد "في أحد اجتماعات مجلس الثورة ناقشنا مطولا مشكل الصحراء الغربية من كل جوانبه، وكان هواري بومدين حريصا على معرفة رأي كل واحد منا، طرح بومدين مسألة جاهزية الجيش الجزائري في حال وقوع حرب، ولم يتدخل أي عضو من أعضاء مجلس الثورة، وحين طلب مني رأيي قلت له "إن الجيش يفتقد الإمكانيات، ويفتقد إلى التنظيم، وإننا موضوعيا غير جاهزين لتموين الوحدات بعيدا عن قواعدها في حالة حرب". وتابع الرئيس الراحل في مذكراته "كان بومدين هو وزير الدفاع، وهو المسؤول الأول عن القوات المسلحة، ولم يكن من حقي أن أكذب عليه في مثل هذه المسألة الحساسة، لكن ما سمعه في الاجتماع لم يعجبه، فقال في لحظة غضب: إذا ما عنديش رجال". ورغم أن وقع كلام الشاذلي بن جديد كان قاسيا على بومدين، إلا أنه كان كافيا لإقناعه بالتوجه إلى "الحرب الدبلوماسية" بدل الحرب العسكرية المباشر مع المغرب، لذلك خاطب عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان وزيرا للخارجية حينها قائلا "حضِّر كتائبك إذا يا سي عبد العزيز"، لكن هذا المعطى كان، في المقابل، واضحا ل"رفاقه" في مجلس الثورة الذي خاطب أحدهم بن جديد قائلا "لو كان (بومدين) رجلا لرمى برنوسه (سلهامه) وذهب إلى بيته". محاولة اغتيال تعارضها الأقدار وعندما تأكد بومدين أن هزيمة الحسن الثاني على ميدان الحرب أمر ميؤوس منه، خاصة وهو يرى سيطرة المملكة تدريجيا على تراب الصحراء، قرر اللجوء إلى خيار آخر مَثَّلَ ذروة اندفاعه المحكوم بعداء أزلي لجيرانه الغربيين، حيث قرر اغتيال الملك في قلب الرباط، مستعينا بأحد أبرز منفذي عمليات المسلحة، الفنزويلي "إليتش راميريز سانشيز" الملقب ب"كارلوس الثعلب". وتروي مذكرات "العالم كما يراه كارلوس" التي دونها على لسان هذا الأخير الكاتب الفرني "لازلو ليزيسكاي"، والتي صدرت سنة 2017، أن هواري بومدين اختاره من بين 3 قتلة مأجورين لتنفيذ عملية اغتيال الحسن الثاني، وأحضره إلى الجزائر من أجل التخطيط لهذه المهمة التي تقرر تنفيذها عبر فريقين من القتلة المحترفين. وبإشراف مباشر من قائد المفوضية المركزية في الجزائر صالح حجاب، جرى الاتفاق على وضع خطتين لاغتيال الملك، كل واحدة يتولى تنفيذها فريق مكون من 4 أشخاص دون علم الفريق الآخر، استنادا إلى معلومات كان يقدمها للجزائر الجنرال أحمد الدليمي الذي كان يُبطن بدوره رغبة ملحة في الإطاحة بالحسن الثاني، لكن رغم وصول الفريقين إلى الأراضي المغربية إلا أن التنفيذ سيفشل 3 مرات، قبل أن تُلغى العملية نهائيا إثر إحدى أغرب ألاعيب القدر، حيث سيُعلن يوم 27 دجنبر 1978 عن وفاة هواري بومدين.