إن التعويل على الديموقراطية لإحداث الفارق وتغيير مسالك الربيع، أمر ضروري لا غنى عنه في تجاوز حالات الهجانة والتشوه والاستعصاء، كما أنه مشروط بثورة هادئة، يفترض أن ننخرط فيها جميعاً، عنوانها العريض هو " التربية على الديموقراطية" نزار قباني صاح يوما "أيامنا كلها محن، وتاريخنا كله كربلاء"، فهل نستعير منه النظم الشعري، ونقول معه بكل ألم وامتلاء "أيامنا كلها حزيران وربيعنا كله نكسات"؟ فما نعيشه حالياً من ردة حقوقية وانتكاسات ديموقراطية، يدعو إلى استدعاء نكسة 67 من القرن الفائت، والمناسبة شرط طبعاً، للتدليل على حجم الإحباط الذي بات ملازما لكثير من المتتبعين حيال ما يجري في النسخة الثانية من ربيع الكرامة ومقاومة الاستبداد. ما أن يفرح المواطن بهبوب رياح التغيير وتنسم أجواء الديموقراطية، حتى يتأكد له بعد زمن محدود بأن الديموقراطية العربية هي بين قوسين، الأول يُفتح اضطراراً وتحت ضغط الشارع، والثاني ينغلق سريعاً بمجرد تأكد مالكي وسائل الإنتاج والإكراه من تجذر سلطاتهم المرئية واللامرئية. ذلكم ما لاح في تونس ومصر، والسودان أخيراً، فقد أُقْفِلَ القوس الثاني لتأكيد فرضية التغير ضمن نسق الاستمرارية، وألا شيء يتغير إلا في مستوى الشكل، فيما البنيات العميقة تحافظ على مصالحها واستبداديتها بالرغم من كل الانتصارات التي قد تحققها "استراتيجية الشارع". لقد بدا الربيع الديموقراطي في مصر مثلا، كمشروع مجتمعي تجديدي يُبشر المواطن، بحريته، بقدرته على الفعل، مؤكدا انتهاء شرطٍ وانبناء آخر، لكن الربيع لم يُزهر إلا ديموقراطية على المقاس، تتحكم في تفاصيلها قرارات العسكر وحسابات الأشقاء من الدول التي اعتادت التدخل في "تحويل" مسارات التغيير، أو بالأحرى "تزوير" إرادة الشعوب والالتفاف على مطالباتها السياسية. في تقرير لمؤشر الديموقراطية في العالم، أصدرته مجلة "إيكونوميست" سنة 2018، والذي هم 165 دولة، جاءت "الديموقراطيات" العربية في المراتب الأخيرة، إذ وُضعت غالبيتها ضمن "الأنظمة الشمولية والسلطوية". فلم تصنف، وفقا لذات التقرير، سوى تونس ضمن "الديموقراطيات المعيبة"، فيما حلّت دولٌ مثل لبنان والمغرب وفلسطين والعراق ضمن "الأنظمة الهجينة". وبذلك لم يضع التقرير أي دولة عربية في خانة "الديموقراطيات الكاملة". فمن المسؤول عن استعصاء الديموقراطية في الحالة العربية؟ ومن الذي يجعل من "دويلاتنا" مجرد حالات "ما قبل ديموقراطية" معيبة أو هجينة أو شمولية وسلطوية في مطلق الأحوال؟ لنفكر بهدوء تام، بعيدا عن "نظرية المؤامرة"، ولنطرح سؤالاً مربكاً لذواتنا. أولا: فهل نقبل بالديمقراطية فكرةً وممارسةً؟ هل تعلّمناها قبلاً في مؤسساتنا التنشئوية؟ أليست هناك من مسببات ذاتية تمنع تبلور هذه "اللعبة" في سياقاتنا المأزومة؟ لربما تفيدنا العودة إلى محمد عابد الجابري لاكتشاف إخفاقات توطين الديموقراطية في السياق التداولي العربي الإسلامي، خصوصا في مستوى اشتغاله على محددات العقل العربي، والتي تتلخص برأيه في القبيلة والغنيمة والعقيدة، والتي تتدخل، جميعها، وبمقدار ما، تبعا للوضعيات، في إنتاج المخيال وترتيب السلوك وتقعيد الممارسة ووَسْمِ الخطاب. إن عقلاً سياسياً يرتهن إلى العصبية والتقليد، ويفكر بمنطق الريع والغنائم، ولا يضع حدوداً فاصلة بين الدين والسياسة، لا يمكنه بالمرة أن يَعْبُرَ نحو الديموقراطية، إلا باعتماد التجديد منهاجًا وخلاصًا، فالحل برأي الجابري يكمن في"تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الإيديولوجية والاجتماعية واللاهوتية والفلسفية"، فضلا عن "اعتماد أساليب الديمقراطية الحديثة، التي هي إرث للإنسانية كلها". وكل هذا لا يصير مُعاشاً ومُختبراً في تفاصيل اليومي إلا بالخروج من عباءة القبيلة إلى سجل الدولة المدنية، وكذا بالتحرر من ريع الغنيمة إلى الاقتصاد الإنتاجي، بالإضافة إلى الخروج من سلطة الإجماع والائتلاف إلى حرية الرأي والاختلاف. أحياناَ، بل كثيراً ما يُمارس علينا التاريخ إغراءً مضاعفاً، وتستبد بنا عقدة التفوق والسبق، وندعي خطأ أننا سباقون إلى الديموقراطية تحت مسمى الشورى، فيما تاريخنا الفجائعي يكشف زيفنا وسوء لقائنا بثقافة الاختلاف. ألم يَعْتَلِ المنبر والي البصرة، على عهد الأمويين، خالد بن عبد الله القسري، ليخطب فيهم: "أيها الناس انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، فإني مضحٍ اليوم بالجعد بن درهم"، ليذبحه أمام المصلين وهم ينظرون؟ ألم تحرق كتب ابن رشد؟ وألم يصلب الحلاج؟ وألم يسجن ابن حنبل؟ وغيرهم كثير، من كل الذين أتوا بالمختلف وشذوا عن القاعدة، فلم نقبل باختلافهم ولم نسمح لهم بالتعبير عن طروحاتهم المضادة لثقافة الطاعة والإجماع، "فكم من نبي قتلناه وكم رسول ذبحناه، أيامنا كلها محن، وتاريخنا كله كربلاء"، عفوا نزار. إن استعصاء الديموقراطية نابع من تاريخنا الذي لم يكتب بعد، والذي يستند إلى معجم لا ديموقراطي في الأصل، فما نتوفر عليه هو سجل الرعايا لا المواطنين، ومنطق التعيين لا الانتخاب، وتديين السياسة لا مدنية التدبير والحكم. ما جعلنا نصنع "ديموقراطية" هجينة تسمح للرئيس المنتخب أن يحكم البلاد والعباد لثلاثة عقود كما حدث مع مبارك في مصر، وأن تجدد العهدة لرئيس مشلول فاقد للقدرة على الكلام كما حدث في الجزائر. فلم نمارس الديموقراطية في تدبير كثير من القضايا الخلافية والاختلافية، وإنما كان السيف سباقاً إلى جز الرؤوس، بغاية "تمليحها" وتعليقها في أبواب المدن لتكون عبرة لمن يعتبر، ذلكم ما أجدناه في تاريخ النكسة المتواتر، وهو ما نختبره اليوم بصيغ جديدة. فلم نمارس الديموقراطية حتى داخل بيوتنا الصغرى حيث الأبوية والذكورية تحسم النتيجة لصالحها دوما، ولا في مدارسنا حيث مصطبة الأستاذية تتعالى وتستعين بالعصا تلقيناً وحشواً، ولا حتى في مجالنا العام حيث يغدو التجمع شبهة والاحتجاج جريمة. لقد استوردنا شكليات الممارسة الديموقراطية انتخاباً وتمثيلاً، ومع ذلك لم نستطع لحد الآن الانتصار إلى مضامينها وقواعد لعبها النظيفة، نريدها فقط بين قوسين، تنفتح وتنقفل تبعاً لضرورات التلميع واستراتيجية التطبيع، فالحاكم يصير مولعا باقتداء الدرس الديموقراطي كلما ضاق عليه الخناق، واستشعر النهاية، لهذا تراه مبشراً بانتخابات شفافة وسابقة لأوانها، إلا أنه وبمجرد تأكده من استدامة الدعم الخارجي، فإنه يكفر بما أعلنه إيماناً واعتقاداً، ليستعير قاموسا جديدا يتأسس على "مصلحة الوطن" و "الاستقرار" و "الإجماع"، فضلا عن "الخيانة العظمى" و "التشويش" و "العدمية" لمواجهة المحتجين وقص الأجنحة. وإن اقتضى الأمر اللجوء "السعيد" إلى خدمات الأجهزة القمعية، فلا بأس من رميهم بالرصاص وخراطيم المياه في ساحات الاعتصام، فديموقراطية النكسة والأقواس المغلقة كفيلة بتبرير ما حدث وما سيحدث. كل هذا جعل من الديموقراطية فعلا مشوها وغير مكتمل، يختزل عربياً في تنظيم انتخابات بصناديق زجاجية، تأكيداً للشفافية، فيما المحتجب، الذي هو الحقيقة بتعبير هيدغر، وباستمرار هو، عدم تجذر الممارسة الديموقراطية في مجمل البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. والنتيجة أننا نتوفر على مؤسسات نيابية وتمثيلية بدون روح ديموقراطية، وعلى تحديث بدون حداثة، وعلى تغيير في ظل اللا تغيير. إن ما يحدث آنا في السودان وغيره من الدول العربية، يدل على أن الحاكم يريد اللعب بالديموقراطية لأجل الاستحواذ على المزيد من السلطة لا غير، هنا تصير الديموقراطية مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها، ولهذا يتم إيلاء بالغ العناية للأشكال الرمزية للفعل الديموقراطي، فيما لا يُنتبه بالمرة لضرورات الأجرأة والإعمال الواقعي لمضامين هذا الفعل. وهو ما يزكيه الفهم المبتسر والمختزل الذي تتعرض له الديموقراطية كإمكان حكم وتدبير، حيث تُحشر في الزاوية الانتخابية الضيقة، وتسحب عنها المفاعيل الحقوقية والإنسانية التي تضمن للمواطن الإفادة من خيرات النسق الذي ينتمي إليه. إن التعويل على الديموقراطية لإحداث الفارق وتغيير مسالك الربيع، أمر ضروري لا غنى عنه في تجاوز حالات الهجانة والتشوه والاستعصاء، كما أنه مشروط بثورة هادئة، يفترض أن ننخرط فيها جميعاً، عنوانها العريض هو " التربية على الديموقراطية"، وفي مختلف البنيات والمؤسسات. فهل نستطيع قبول هذا التحدي؟ وهل ننجح في هذا "التمرين السياسي" الصعب؟ لا خيار أمام شعوب الربيع الثاني إلا فرض هذا المسار تحصينا للمكتسبات ودفعاً بعجلة التغيير نحو "الديموقراطيات الكاملة والمكتملة" حسب تقرير الإيكونوميست، أملا في الخروج من الأنساق السلطوية المكتفية آنا باغتيال الربيع وتجديد الاستبداد. المصدر: TRT عربي