الأحزابُ الحاكِمَةُ مسؤولةٌ عن شَعبٍيْن: اجتِماعي وسيّاسي.. الاجتماعي هو المُواطنُ السّاكِن.. والسياسي يُمارسُ الانتِخابات.. وسياسيّونا يَعبَأونَ بمَن يُمارسِ الانتِخابات، ولا يَهتمّون بالساكِن، رغم أنّ الساكِنَ هو يُشكلُ الأغلبيّةَ المُواطِنة.. والحالُ أنّ هذه الأغلبيّة - عندنا - لا يُعبَأ بشؤونِها، وكأنها غيرُ موجودة.. والنتيجة: شعبيّةُ الحُكومةِ تتَقلّص، وأحزابُها مُهددَةٌ بالانشقاقِ ثمّ بالانقراض.. ورغم ذلك تتَبَجّحُ أنها حكومةُ أغلبيّة.. وهي ليست كذلك.. * واحسبُوها كما شئتُم! المجموعةُ الحِزبية التي شارَكت في انتِخاباتٍ سابقة، هي أكثرُ عددًا من حيثُ الأصوَات.. ومعه العُزوفُ عن التّصويت، هو أيضًا أكثرُ عددًا.. ومهما نفَختُم في النتيجة - أيها السادة - تجدُون أنكُم أنتُم أقلّية.. * لستُم أكثرية! وفي كل الأحوال، وحتى بكلّ الأصواتِ المُدلَى بها في البلد، هذا لا يُخوّلُكم صلاحيّةَ خرقِ المواثيقِ الدولية التي تُعطِي لكل الأقلّيات، بأنواعِها وأشكالِها، حُقوقًا منصوصًا عليها عالميّا وَوطنيّا.. هذه حواجزُ مَبدئية، عليكم واجبُ الالتزامِ بها، لدى وُصولكُم للحُكم.. وأنتُم عمليّا "حكومةُ أقلّية"، لا أغلبيّة.. وعلى هذه الحال، لا تَجذبُون غيرَكُم إلى صفُوفكم.. لا تُفكرون إلاّ في أنفُسكم.. ولا تبذلُون المجهودَ الكافي لاستِقطابِ غيرِكم.. وليس لكم أيُّ تأثيرٍ اجتماعي، وعملٍ بنّاء، وسلوكٍ خَدُوم، ولا تُطوّرُون أنفُسَكم بالفكرِ والعَمل.. وما فَتوَاكُم في مُرشّحِين من صفوفكم قد جاؤوا للحُكم كي يَغتَنُوا؟ وما زالوا على مِنوالِهم، وفي مَدارِهم يَدُورُون؟ ويُذكّرون الناسَ بأسلوبِ الطّاحُونة.. وحسب مَنطق "حِمار الطّاحُونة": الحُكمُ يُنتجُ الثروةَ الذاتية، في حالةِ انعدامِ الضّمير.. والثروةُ تُشتَرى بها الأصواتُ الانتخابية.. هذا منطقُ "حِمار الطّاحُونة".. مُرشّحون يدُورُون حولَ السلطة.. وبهذا الدّورَان تُنتَجُ الثروة.. وهو لا يتَوقّف عن الدوَران حول نفس الطّاحُونة.. ويُضيفُ إلى الجَشعِ المالي، توابلَ الجهلِ والفَقر.. ويُوظّفُ لفريقه "فُقهاءَ" ما هم فُقهاء: سماسرةٌ بأبوابِ المساجد، يُردّدون فتاوَى الشّعوذة، ويجذِبون أصواتَ من لا استقلاليةَ لهُم، ولا قرارٌ ذاتي يُحرّكُهم.. هُم تابعون لمَن يَدفَع.. توابعُ على استِعدادٍ لبيعِ الأصوات، والسّمسرة في الأصوات، والتّزوير، وتحويلِ الأقلية العدَديةِ إلى أغلبيةٍ تنقادُ لهُم، وتسِيرُ خلفَهم، وهُم لا يُريدُون للانتِخابات إلا أن تَصنعَ لهُم جَماهيرَ منَ المُحتاجِين المُستضعَفين.. لا يريدُون من هُم واعُون، مُقتنِعون ببرنامج انتخابي، ومن يُناقشون المرشّحين في حاضرِ ومُستقبل البلد، بل يُريدُون أشباهَ القطيع.. على استعدادٍ لفعلِ أي شيء، مُقابل أيّ شيء.. وينطلقُ الجهلُ في البرلمانِ والحُكومة لاستخراجِ قوانينَ غرِيبة، بعضُها لا مثيلَ له في العالم.. ومِن نماذجِ هذه القوانينِ الشاذّة - عندنا - أن على المرء أن يُراجِعَ المُحافظةَ العَقارية، كلّ أربعِ سَنوات، للتّأكّد من أن مَنزلَه المُحَفّظ ما زال مُسجّلاً في اسمِه، وأن لا أحدَ من اللصُوصِ لم يُفوّتوا لأنفُسِهم هذا العقارَ.. حكومةٌ تُصدِرُ مثل هذا النّصّ القانوني، أليست حكومةً تعارضُ الدستور الذي ينصّ على أن الدولةَ تحمِي المِلكيّةَ الخُصوصيّة؟ ها هو الدّستورُ في واد، والحكومةُ في وادٍ آخر.. وللعقارِ كوارثُ في القوانين التي استَصدرَتها الحكومةُ لتفقيرِ الفُقراء، وإغناءِ الأغنياء.. وحكومةُ الأقليةِ هذه، تفعل ببلادنا ما تفعل، دون رقيب وحسيب.. لو كان لها ضميرٌ مهني، ومسؤولية وطنية، وخَلفَها مُراقبةٌ قانونيةٌ صارِمة، لكانت وفيّةً لنفسِها، صارمةً مع حالِها، وتعملُ بجدّ للانتقالِ بقاعِدتها الانتخابية إلى جذبِ الأغلبيّة، لا بالغش والتّواطؤ، بل بأفكارٍ بنّاءة، ومشاريعَ ميدانيةٍ ناجِحة، وخدماتٍ اجتماعية لا غُبارَ عليها، وإداريةٍ صافية صادقة.. وبهذا الصدقِ والابتِكار- والابتكارِ الصادِق - بإمكانها أن تجذبَ لصفُوفها شعبيةً أكبر، وأن تجعلَ فكرَ الأقلية، وهو بهذا الإبداع، جذّابا للأكثريةِ السياسية.. وبهذه الجدّية، كان بإمكانِها وسلوكِها المسؤول، أن تكُون حكومةَ أكثريةٍ بامتياز، وأن تُحوّلَ الصناديقَ إلى انتخاباتٍ فعّالةٍ حقيقيّة، لا إلى مَسرحيّة.. أمَا وقد حوّلَتنا حكومةُ التّمَسرُح إلى كل هذا العبث، فهي نفسُها ما زالت تَضحَكُ على نفسِها وعلى أغلبيةٍ فقيرةٍ جاهِلة.. ثم تُردّدُ بلا خجلٍ أنها أكثريّةٌ سياسيّة.. * وهي أكثريّةٌ بالعدَد، لا بالسّياسة.. أكثريّةٌ بحَجمٍ "قطِيعي"، لا بالمَضمُون.. أكثريّةً بالُونيّة، منفُوخًا فيها.. أكثريّةً بالنّفخ، لا بالفعَاليّة.. وشتّانَ ما بينَ الفعَاليّة السّياسة، المَيدانية، وفعاليةٍ مفقودة.. غيرِ مَوجُودة.. وهذا حالُ حُكومتِنا التي يقودُها حزبُ "تُجّار الدين".. حكومةٌ في ظاهرِها أصواتٌ مُتَديّنة، وفي أغلبِها بعيدةٌ عن الحَداثة، بينما الواقعُ السّلوكي التّدبيري يطرحُ علاماتِ استِفهام في جدوَى حكومةٍ يقالُ إنها أغلبيةٌ انتخابية، وفي الحقيقةِ ما هي إلاّ حُكمٌ للأقليّة.. انتِخاباتٌ مشكوكٌ فيها.. الفِعلُ يُكذّبُ الغَطّاس.. أصواتٌ تمّ شِراؤها.. والنتيجة: فَبرَكةُ المَجالس المَحلّية، والبرلمانِ بغُرفتيْه، والحكومة المَبنيّة على صُورةٍ للأغلبيّة، ثم يَتبيّنُ أن الصورةَ مغشُوشة، وأنها ليست إلاّ أقلّيّةً قد اشتَرت الانتِخابات.. وفي تاريخِنا، منذ الاستقلالِ إلى الآن، لا وجودَ لانتخاباتٍ نزيهة.. كلُّ انتخاباتِنا مَغشُوشة.. وما بُنيّ على غِشّ هو غِشّ.. وعلى رأسِ حكومةِ أقلية، تحت الغطاءِ الدّيني.. يستَغلّ الدينَ لأهدافٍ سياسية.. والتّديُّنُ المُتسيّس، حتى وهو مَبنيّ على خُرافات وشَعوَذاتٍ وأكاذيب، لأهدافِ الحُكم السياسي، هو فخّ تعيشُه البلاد تحت الغطاء الديني.. وهذا أيضا خطَر.. خَطرٌ أن تتَواصلَ عندنا مهزلةُ الغشّ في الأصوات، وفي صناعةِ الخريطةِ السياسية، لفبرَكةِ نتائجَ مُهترِئة، ليست صحِيحة.. خطرٌ يبدأ بالأصوات الانتِخابيّة، ويستمرّ بتَفرّدِ الحُكم، وبقطعِ الطريقِ على الحُرّيةِ والكرامةِ وحقوقِ المُواطِن، ووُقوفِ البلادِ على ديمُقراطيةٍ وتنميةٍ اقتصاديةٍ واجتِماعية، ثم يتّضحُ بعد ذلك أن الحُكومةَ لا تقفُ على أساس.. كما يتّضحُ أنّ ما يهُمّ الحكومةَ وأحزابَها الهزِيلة هو الحُكمُ واستمرارُ الحُكم، لا خِدمةَ البلاد.. حكومةٌ حسِبناها واقفةً على أكثريّة، وفي واقعِها، ما هي إلاّ أقليّة.. أقلّيةٌ ينفُخُ فيها أباطرةُ المالِ والمصالح وشبكاتُ الأعيَانِ والإقطاع.. أباطرةٌ قد تسلّقُوا إلى السياسة، لهدفٍ واحد هو الثّروةُ والاستيلاءُ على ما تبقّى من مُمتَلكاتِ المُواطنين، وعلى مَصالحِ البلد، من أجل قضاءِ مآربَ ذاتية.. وبهذا غشّت الحكومةُ قواعدَها.. وأتباعُها قد صدّقَتها ثم اتّضح أنها عاجزةٌ عن ممارسة حُسن تدبيرِ وتسيِير الشأنِ العمومي، وعن التفريق بين العبادات والحياةِ اليوميةِ المشترَكة، بما فيها الحقوقُ والواجبات.. وهكذا تتسَلقُ حكومةُ الأقلّيّة إلى السلُطاتِ الأساسية: التشريعية والتّنفيذية وغيرها...، وتفرضُ على البلادِ الاستِبدادَ والطّغيانَ والفسادَ وقمعَ الحُرّيأتِ والحُقوق.. * ويَتقمّصُ أباطرةُ المالِ والأعمال بذلاتِ الديمُقراطية.. ويُفَوّتون لأقاربِهم وزُبنائِهم مناصبَ عُليا، ومن ثمّةَ يَضغَطُون للتّحكّمِ في الإعلام، والضميرِ المهنيّ، من أجل ترويضِ المجتمع، وصناعةِ نُخبةٍ جديدة لها تابعة، ورأيٍ عام آخر ما هو إلا انتِهازيّةٌ لإحكامِ السيطرةِ على أيةِ مُعارَضة، مع إنجاح تخطيطاتِ حُكمِ الأقلّية الهادفةِ لتطويقِ كلّ من يُحاولُ الإفلاتَ من حُكمِ المالِ والقبيلةِ والعائلة.. والمصالحُ لدى حكومةِ الأقلّية هي فوق المسؤوليةِ والواجباتِ الوطنية.. * ويُصبحُ المالُ هو المتحكّمُ في دواليبِ البلد.. فئة قليلةٌ هي الكلّ في الكلّ، لا بالكفاءةِ ولا بقُوةِ صناديقِ الانتخابات، بل فقط بالنّفوذ المالي.. وبهذا يتَحكّمُ الطّغيانُ المالي، ويعملُ على شلّ مَفاصيلِ الدولة.. وتكبُرُ الأقلّيةُ الحاكِمةُ بالتواطؤ مع أقلّياتٍ أخرى من ذوي المال والأعمال.. وهذه تُشكلُ عَرقلةً أمام أستِصدارِ أيّ قانُون مُحاسباتي: "من أين لكُم بكلّ هذا؟".. وتُواصِلُ حكومةُ الأقلّيّة عرقلةَ تفعيلِ الدستور، عبر استصدارِ قوانينَ تنظيميّة، لمُحاسبةِ المسؤولين عن الشأن العمومي.. وتبقى حكومةُ الأقلّيّة فوقَ المحاسبة، وفوق أركانِ الدولة.. هي تحرّك كل الدواليب: التّتشريعية والتنفيذية وغيرِها... حكومةُ الأقلّيّة تفعلُ ما تريد، وكأنّ البلادَ سِيبةٌ في سِيبَة.. كلّ الحقوقِ لها ولأتباعِها، وكلّ الواجبات وأكثر، لمَن ليسوا إلى جانبِها.. ومن ليسوا معها، تُؤخذُ أراضِيهم، ويُغضّ الطرفُ عن حقُوقهم.. ما عرَفت بلادُنا حُكومةً مثلَ هذه.. وهذا لا يعني أن الحكوماتِ السابقة كانت نزيهة.. كلّها منذ الاستقلال إلى الآن، على نمَطٍ واحد، وبعقليةٍ واحِدة، واستراتيجيةٍ سياسية لا تتَغيّر.. ولكن حكومةَ تُجّأرِ الدّين، بأنماطِها، حطّمت كلّ الأرقام القياسية في مُمارسة الهبَل.. تبيعُ وتشتَري في أيّ كان.. ولا ثقةَ فيها.. وهي قد أغرَقت بلادَنا - وَعلَنًا - في القرُوض الدّولية.. وزُعماءُ حِزبِ "تُجّارِ الدين" يتَكلمُون للناس، وكأنهُم وُسطاءُ بينَنا وبينَ السماء.. * ولا وُسطاءَ مع الله! [email protected]