في بادرة طيبة جلس إسلاميون ويساريون مغاربة حول طاولة واحدة بدعوة من مركز ابن رشد للديمقراطية والتواصل. كان الموضوع هو خوض تمرين التعرف عن قرب بين التيارين، والقفز فوق الكليشيهات المترسخة في ذهن كل واحد حول الإسلامي الظلامي، واليساري المعادي للدين، والعلماني المتحالف مع الاستبداد... كان المشاركون في الندوة، من العدل والإحسان إلى العدالة والتنمية إلى النهج الديمقراطي إلى الاتحاد الاشتراكي... اتفقوا على أن الديمقراطية هي الحل، وأن لا بديل عنها سواء نظرنا إليها كفلسفة في الحكم أو كآلية لإدارة السلطة. في السبعينيات عندما كان الإسلاميون أقلية وسط المجتمع، كانوا يخافون الديمقراطية، لأنهم يعرفون أنها ستحمل خصومهم على ظهرها، لهذا توجه كثيرون منهم إما إلى التحالف مع المخزن باعتباره الأقل ضررا، وإما إلى إعلان الحرب على اليسار على قاعدة إيديولوجية وعقدية. في التسعينيات عندما صار الإسلاميون أكثر قوة، وأصبح لهم نفوذ كبير في مجتمع محافظ، صار العلمانيون هم الذين يخافون الديمقراطية لأنهم يعرفون أن قانون الأغلبية والأقلية في صف خصومهم الملتحين، ولهذا اتجهوا إما إلى التحالف مع السلطة، أو إلى إعلان الحرب على الإسلاميين على أرضية إيديولوجية، والنتيجة أن الطرفين معا اكتويا بنار الاستبداد، وضيعا على مجتمعهما فرصة التحول إلى الديمقراطية. أين المشكل؟ المشكل أن العلمانيين والإسلاميين كلاهما جديد في مدرسة الديمقراطية، وكلاهما ينظران إليها من زاوية ضيقة، ولا يعتبران أنها تحمي الجميع في دولة حديثة... لا يرى التياران في الديمقراطية سوى قانون الأغلبية والأقلية، ويتصوران أن الذي يصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع فأول شيء سيقوم به هو سحب السلم الذي صعد به إلى الحكم، وبالتالي حرمان خصومه من إمكانية أن يتحولوا من أقلية إلى أغلبية. كلاهما يتصور أن الحزب الذي سيحصل على 50 في المائة زائد واحد سينكل بخصومه وسيشردهم، ويفتح لهم الزنازين أو الباب مشرعا نحو الهجرة إلى الخارج. مازلت أذكر السيد عبد الكريم الأمراني، رئيس التحرير السابق لجريدة «الأحداث المغربية»، وهو يقول قبل 15 سنة في قاعة التحرير: «لو وصل الخوانجية إلى السلطة في المغرب سأهاجر إلى إسرائيل، وأعمل هناك ماسح أحذية «سيرور»، هذا أهون لي من العيش في دولة يحكم فيها الإسلاميون باسم الله...». هذه الجملة الصادمة تقابلها جمل أخرى كان بنكيران يرددها وهو شاب وسط الحركة الإسلامية، من أن العلمانيين واليساريين أخطر على الدين من الاستبداد الملكي، وأن الإسلاميين يجب أن يضعوا أيديهم في أيدي المخزن لحراسة الدين وحماية بيضة الإسلام، على الأقل ستحفظ إمارة المؤمنين الشعائر الدينية، حتى وإن لم تحقق العدل الإسلامي... نسي الطرفان أن الديمقراطية «حزمة» مبادئ وقواعد وممارسات، منها: وجود دستور ينظم توزيع السلطات، ويحدد الثوابت والمتغيرات في نظام الحكم، ومن الثوابت حماية الحريات الجماعية والفردية وحرية ممارسة الشؤون الدينية، وتوازن السلطات واستقلاليتها. ومن قواعد الديمقراطية حرية الإعلام والصحافة، وضمان حقوق الأقلية، وفي مقدمتها أن تصير غداً أغلبية، وسلطة الرأي العام على من يحكم، ورقابة المحكمة الدستورية على القوانين، وانتظام الدورات الانتخابية، واحترام التعددية، وفاعلية المجتمع المدني وقدرته على التأثير في من يحكم، والحق في التظاهر والاحتجاج والإضراب، وحتى العصيان المدني، إذا تجاوزت الحكومة قواعد الممارسة الديمقراطية. هذه المبادئ، وغيرها، قواعد للنظام الديمقراطي، وليس فقط قانون الأغلبية والأقلية. إن أفضل نظام يحمي حقوق الأقلية هو النظام الديمقراطي، وإلا ما الذي يجعل الطرف الذي يخسر الانتخابات ب49٪ يقبل حكم الطرف الذي حصل على 51٪؟ الذي يجعل صاحب 49٪ يقبل حكم صاحب 51٪ هو أن الثاني سيحترم حقوق الأول، وسيعطيه إمكانية الرجوع إلى السلطة. لا يجب أن نخاف الديمقراطية ودولة المواطنة، يجب أن نخشى الاستبداد، ولا نتصور أن أية حكومة باستطاعتها أن تقوم بانقلاب على صناديق الاقتراع وعلى اللعبة التي أوصلتها إلى الحكم، وإذا فعلت ذلك فإن الديمقراطية لها أسنان، والمواطن الذي يجرب تنصيب من يحكم مرة واحدة لا يتخلى عن هذا الحق أبدا. انظروا الآن إلى ما يجري في مصر، وكيف أن قطاعات حيوية من المجتمع المصري ترفض الانقلاب («الواشنطن بوست» كتبت أول أمس أن ثلثي المحتجين على سلطة الانقلاب لا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين)، وسترفضه أكثر عندما تتضح أمامها الصورة كاملة.