كان دعم روسياوإيران لنظام "بشار الأسد"، ومشاركتهما في الحرب الأهلية؛ باهظي التكاليف. لذا، فإنهما ستسعيان إلى أن تجنيا فوائد الانتعاش الاقتصادي السوري في مرحلة إعادة الإعمار، وتحقيق أهدافهما الاقتصادية المختلفة في إطار تفاعلهما مع النظام السوري بمؤسساته الرسمية، وكذلك الفاعلين المحليين بالدولة. في هذا الصدد، نشرت مؤسسة "تشاتام هاوس"، في مارس من العام الجاري، ورقة بحثية بعنوان: "روسياوإيران: النفوذ الاقتصادي في سوريا" للباحثة "سينان هاتاهيت" لتوضيح مدى الانخراط الروسي والإيراني في الاقتصاد السوري بعد انتهاء الحرب الأهلية، وكيفية تفاعلهما مع أصحاب المصالح المحليين في تشكيل مشاريعهما الاقتصادية المستقبلية، الأمر الذي قد يخلق مجالات من المنافسة والخلاف بينهما. تعويض التدخل: تشير "سينان" إلى أن مشاركة روسيا في الصراع السوري كانت بهدف الحفاظ على حليف موالٍ لها في دمشق، وذلك من خلال المساعدات الأمنية، والتأثير على القيادة السياسية، والعمليات العسكرية، وبناء القواعد العسكرية الروسية في سوريا، والتسلل إلى القطاعات الاقتصادية الرئيسة في البلاد. وتُضيف الباحثة أن روسيا لم تعتمد في إطار تحقيق مصالحها في سوريا على استخدام المساعدات الاقتصادية المباشرة؛ إذ تشير البيانات المتاحة إلى أن إجمالي المساعدات الخارجية الروسية لحليفتها في عام 2015 بلغ 1,6 مليار دولار، ولم يتم تسليم سوى جزء بسيط منها، باستثناء تكلفة التدخل العسكري. وتتوقع أن موسكو ستسعى إلى تشجيع مشاركة الأطراف الإقليمية والدولية على التجارة والاستثمار في سوريا طالما لن يقوِّض ذلك سلطة النظام أو يعطل جهوده لتحقيق الاستقرار. وتُضيف أنه يمكن للمشروعات الروسية الاستفادة من المساهمات المالية والاقتصادية المحتملة من الجهات الدولية الفاعلة، ومن ثمّ ستزيد موسكو من نفوذها في دمشق لتسهيل الوصول إلى القطاع الخاص بها، والقطاعات المربحة الأخرى في الاقتصاد، مثل: الطاقة، والسياحة، والزراعة، والأسلحة. وعن أهمية سوريالإيران، أوضحت "سينان" أن الاقتصاد السوري يمثل سوقًا محتملة للمنتجات الإيرانية، وأن من شأن دور طهران في النهضة الاقتصادية السورية أن يسمح لها بتعزيز سيطرتها على الحلفاء السوريين المحليين، والحفاظ على سيطرتها على دمشق. وقد قدَّمت إيرانلسوريا منذ عام 2013 ثلاثة خطوط ائتمان لاستيراد الوقود والسلع الأخرى، بقيمة تراكمية تزيد عن 6,6 مليارات دولار. وتُضيف الباحثة أن إيران لجأت إلى تبني مقاربتين غير مباشرتين لترسيخ نفسها في الاقتصاد السوري. تتمثل الأولى في أن وسَّعت طهران نطاق مشاريعها في المناطق النائية والمحرومة في البلاد، وخاصة في المناطق الريفية المحيطة بحلب ودير الزور، بما يزيد من نفوذها من خلال بناء دوائر نفوذ في المجتمعات المهملة في سوريا في ظل منافسة ضئيلة من النظام السوري أو روسيا. أما المقاربة الثانية فتنصرف إلى حصر إيران الشركات التابعة لها في الاستفادة من خطوط الائتمان التي تقدمها لسوريا، وهو ما يُمكِّنها من مواصلة تزويد النظام بالسلع والمنتجات وإمدادات الطاقة، في حين تعمل -في الوقت ذاته- على تعزيز أدوار تلك الشركات داخل الاقتصاد السوري. وبالنسبة للنظام السوري، أوضحت "سينان" أن الهدف والاستراتيجية الروسية لتعزيز سلطة الأسد وسيادته على البلاد أكثر جاذبية من النهج الإيراني الساعي لتدعيم حلفائها المحليين. ومع ذلك، تظل طهران شريكًا اقتصاديًّا مهمًّا لدمشق. ولهذا تقول الباحثة إن "الأسد" يسير على خط رفيع بين إيرانوروسيا، بينما يسعى باستمرار إلى توسيع هامشه للمناورة، وإدارة الاتفاقيات الخارجية على أساس كل حالة على حدة، كما يكثف -في الوقت ذاته- جهوده لتعزيز استقلاله عن إيران أكثر من روسيا على أمل إعادة تأهيل علاقاته مع الدول التي تعارض السياسات الإيرانية التي تزعزع الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط. أسباب إشراك المجتمع الدولي: تؤكد "سينان" أن لدى موسكو ثلاثة أهداف من وراء إشراك المجتمع الدولي في إعادة إعمار سوريا. يتمثل أولها في أنها وسيلة لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد. ويتعلق ثانيها بكونها وسيلة لخفض تكلفة التدخل الروسي في سوريا. وينصرف ثالثها إلى أنها بمثابة اعتراف ضمني بدور موسكو كوسيط في استقرار الأوضاع في البلاد من خلال إدارة إعادة تأهيل نظام الأسد إقليميًّا ودوليًّا. ومع ذلك، ترى الباحثة أنه على الرغم من الخطاب الرسمي الروسي الذي يطالب المجتمع الدولي بالمساهمة دون قيد أو شرط في إعادة إعمار سوريا؛ تدرك موسكو أن الاستثمار الغربي سيضخ أموالًا قليلة بصورة غير منتظمة في هذه العملية المكلفة. لذا، فإنها ستسعى إلى إشراك الدول التي ليس لديها موقف سياسي ضد نظام الأسد، مثل دول البريكس وبالتحديد الصينوالهند، أو الدول التي تسعى لتعزيز أجندتها الأمنية في سوريا. وفي المقابل، فإن إيران تعتبر عدم الاهتمام الدولي بالاقتصاد السوري وإعادة إعماره بمثابة فرصة لإحداث تأثير مستدام في البلاد. وعن الصين، أشارت "سينان" إلى أنها من الممكن أن تلعب دورًا هامًّا في عملية إعادة الإعمار، بيد أن هذا الدور محكوم بعدة عوامل، منها: مدى تسامح روسياوإيران في دخول الاستثمارات الصينيةلسوريا، فضلًا عن تخوفات عدم الاستقرار، بالإضافة إلى تهديد الوقوع تحت العقوبات الأمريكية بما يهدد الشركات الصينية متعددة الجنسيات مثل هواوي التي أعلنت مؤخرًا انسحابها من سورياوإيران. وبرغم أهمية الموقع الجغرافي لسوريا في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية؛ إلا أن الصين أبدت عدم ثقتها في الاستثمار في سوريا نتيجة تخوفها من تعطل أي استثمارات مستقبلية نتيجة الفساد والمحسوبية، فضلًا عن أنها لا ترى أي فائدة حقيقية من الدخول في منافسة شرسة مع روسياوإيران للتأثير على النظام. وفيما يخص دور الهند في إعادة إعمار سوريا، تتوقع "سينان" أنها لن تنخرط بشكل كبير، وذلك لعدم وجود ضمانات أمنية لحماية الشركات والخبراء الهنود بها. كما أن معدل التبادل التجاري بين البلدين ما زال محدودًا، وبلغ في عام 2017 حوالي 175 مليون دولار، ومن المتوقع أن تظل مشاركة نيودلهي في الاقتصاد السوري مقصورة على التجارة والتصدير. وفي الوقت ذاته، تشير الباحثة إلى أنه يمكن لدول إقليمية أخرى، مثل لبنان والأردن والعراق وحتى تركيا، النظر إلى سوريا كسوق محتملة لسلعهم رغم مواقفهم المختلفة تجاه "الأسد". ومع ذلك، ترى "سينان" أنه لا توجد مؤشرات على أن هذه الأساليب العملية يمكن أن تترجم إلى أي استثمار كبير في إعادة إعمار سوريا على المدى القصير. آثار مستدامة: تشير "سينان" إلى أن إيرانوروسيا تتنافسان على التحالفات مع اللاعبين الرئيسيين من رجال الأعمال في المجالين السياسي والاقتصادي السوري لتسهيل صفقاتهم التجارية، والحفاظ على مصالحهم. لذا، أنشأ كلٌّ منها مجالس اقتصادية للإشراف على مشاريعهما ولتنظيم العلاقات مع شركائهم السوريين في المجالات الاقتصادية المختلفة. وتُشير الباحثة إلى أن روسيا قد حققت نجاحًا أكبر في هذا الصدد، وأنها تستخدم أجهزة الأمن السورية لشراء الحلفاء داخل جهاز الدولة، بينما تعمل إيران على المستوى المحلي من خلال بناء شبكات قائمة على الانتماءات الطائفية والثقافية والقبلية. وقد فصّلت الباحثة في مجالات التنافس بين روسياوإيران للسيطرة على الاقتصاد السوري، والتي تتمثل فيما يلي: 1- النفط والغاز: منذ عام 2015 كانت الحكومة الروسية أكثر حزمًا في استهداف حصة أكبر من سوق النفط والغاز السورية، فقد دخلت شركات جديدة للاستثمار في هذا القطاع وعلى رأسها "غازبروم". وحتى الآن، تمكنت موسكو من الوصول إلى موارد النفط والمعادن السورية على المدى الطويل من خلال عقود الإيجار التي تُغطي الأصول البحرية، واحتياطيات الغاز والفوسفات في حمص، والوصول إلى خطوط أنابيب النفط والغاز الحالية أو المستقبلية التي تمر عبر البلاد. على الجانب الآخر، كانت مشاريع إيران أقل نجاحًا؛ إذ إن العقوبات الدولية تعوق طهران، وقدرتها محدودة على التنافس مع الشركات الروسية. وقد أعطى آخر خط ائتمان تم التفاوض عليه مع دمشق في يناير 2017 ألف هكتار إلى طهران لإنشاء محطات للنفط والغاز، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم لاستخراج الفوسفات في وسط سوريا. ومع ذلك، تم عرض هذه المشاريع المستقبلية لاحقًا على الشركات الروسية. لكن "سينان" تشير إلى أن إيران لا تزال هي المورّد الرئيس للمنتجات النفطية إلى سوريا، وقد استفادت في مناسبات متعددة من هذا الموقف للحصول على تنازلات مهمة من دمشق. 2- الكهرباء: وقَّعت دمشق عددًا من مذكرات التفاهم مع إيرانوروسيا، في سبتمبر 2017 ويناير 2018 على التوالي، لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء. وتضمن الاتفاق الإيراني إعادة تأهيل محطات الطاقة الحرارية في حلب واللاذقية وبانياس، فيما وقَّعت روسيا مذكرة تفاهم بشأن بناء محطات توليد طاقة وتوربينات جديدة بإنتاج إجمالي قدره 2650 ميجاوات في حلب ومحردة ودير الزور والزارة. ولكن في كلتا الحالتين، فشلت الحكومة السورية في تأمين الأموال اللازمة لمساهمتها، ونتيجة لذلك انسحب النظراء الروس والإيرانيون. وحتى الآن، فإن مشاريع إعادة بناء قطاع الطاقة التي تم تنفيذها قام بها برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، والذي استخدم التمويل الياباني لبناء مصانع في جندار وبانياس. 3- الزراعة: منذ عام 2015، زادت سورياوروسيا تعاونهما في القطاع الزراعي؛ وشمل ذلك توقيع اتفاقيات ترخيص تصدير الزيوت النباتية والأسمدة، وكذلك اتفاقيات لإعادة تأهيل وبناء وإدارة مطاحن الدقيق وصوامع الغلال ومرافق معالجة المياه، فضلًا عن أن موسكو أصبحت المورّد الرئيس للقمح لسوريا؛ فارتفعت كميات إمدادات القمح الروسي من 650 ألف طن في عام 2015 إلى 1,2 مليون طن في عام 2017، وقُدر بنحو 1,5 مليون طن في العام التالي. أما بالنسبة لإيران، فبالرغم من تسويقها اللقاحات الحيوانية ومنتجات الدواجن الإيرانية، إلا أنها فشلت في مضاهاة نفوذ روسيا في القطاع الزراعي المحلي السوري. ومنذ عام 2015، وقّعت طهرانودمشق على عدد من مذكرات التفاهم لبناء مطاحن الدقيق والسكر في جنوبسوريا، وتصدير المعدات الميكانيكية الزراعية، وتسويق الفائض من المنتجات الزراعية السورية، لكن لم يتم التنفيذ على أرض الواقع نتيجة للاختلاف في شروط التفاوض. 4- السياحة والعقارات: تُولي روسيا أهمية كبرى للمنطقة الساحلية السورية، وجعلتها مركز استراتيجيتها للاستثمار السياحي في سوريا، فيما تُركز إيران على السياحة الدينية. ويرتبط قطاع السياحة بشكل مباشر بسوق العقارات؛ إذ يمثل الحصول على الأراضي والعقارات أحد المكونات الرئيسة لاستراتيجية إيران في سوريا، وحتى الآن اعتمدت في الغالب على الوسطاء السوريين لشراء العقارات، كما اعتمدت أيضًا على جمعيات سورية لتوسيع واكتساب أراضٍ جديدة بعدد من المدن السورية. تأثير العقوبات: تؤكد "سينان" أن للعقوبات المفروضة على سوريا آثارًا مختلفة على الاستثمارات الإيرانية والروسية، وقد اشتد الضغط على البلدين بعد إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي قانون قيصر سوريا لحماية المدنيين لعام 2018، والذي يسمح للإدارة الأمريكية بفرض عقوبات على الكيانات الأجنبية التي تتاجر مع النظام السوري وتموله. وسيحدد تطور العقوبات الدولية على القطاعات الاقتصادية السورية الرئيسة والأشخاص بشكل كبير حدود الاستثمارات الروسية والإيرانية في البلاد؛ فإذا فرضت واشنطن عقوبات إضافية على الشركات الأجنبية العاملة في سوريا، فسيؤثر ذلك بالضرورة سلبًا على المشاريع المالية لطهران في دمشق، خاصة بعد انخفاض قيمة الريال الإيراني في سوق العملات الدولية، والذي بدأ في فبراير 2018، والذي أدى إلى انخفاض كبير في استثمارات القطاعين العام والخاص الإيراني في سوريا. كما ستؤثر العقوبات على قدرات الاستثمارات الروسية في القطاعات الرئيسة للاقتصاد السوري، خوفًا من تعرض مشاريعها للخطر في أماكن أخرى، ومن ثم قد يتم جذب شركات روسية أصغر إلى سوريا للتغلب على الشركات الإيرانية ذات الخبرات المتشابهة. ومن ثمّ فقد أدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي على القطاعات الرئيسة للاقتصاد السوري والأفراد إلى إعاقة قدرة النظام على بدء ودفع مرحلة إعادة الإعمار. علاوة على ذلك، فإن هذه العقوبات ساهمت في تحجيم الشركات الأجنبية الكبرى على الاستثمار في دمشق، لكن الباحثة ترى أنه يمكن أن تكون تلك العقوبات أكثر فعالية إذا تم توظيفها كجزء من إطار شامل لمساعدة سوريا في انتقال سياسي ذي معنى ومصداقية. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة