عاد دور "القوة الناعمة" وحروبها بأنواعها بين بكينوواشنطن، على الرغم من أنها لم تتوقّف لحظة واحدة، لكنها عادت إلى الظهور على نحو سافر وحاد إثر الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بسبب اجتياح جائحة كورونا "كوفيد -19" أرجاء المعمورة، لتنتقل بسرعة خاطفة من مدينة ووهان الصينية إلى العالم كله، الذي ما يزال يعيش منذ نحو شهرين حالة طوارئ وحجر صحي وأوضاع ما فوق استثنائية لم يعرفها حتى خلال اندلاع حروب كبرى. لقد تصدّرت الحرب الناعمة بأشكالها المختلفة، ولاسيّما الإعلامية المشهد الراهن والمحتدم بين الصينوالولاياتالمتحدة والذي يتخذ أبعاداً خطيرة، لاسيّما اتعكاساتها العملية في ظلّ الطور الرابع للثورة الصناعية وما حققه الذكاء الاصطناعي، ففي حين اتهمت الولاياتالمتحدةالصين بإخفاء المعلومات عن انتشار فايروس كورونا كما انتقدت في الوقت نفسه منظمة الصحة العالمية بزعم تواطئها مع الصين، ردّت الصين أن سبب انتشار الوباء هو الجنود الأمريكان الذين قدموا من أفغانستان لحضور استعراض عسكري صيني، وقد أصيب 67 جندياً منهم بعد عودتهم بيوم واحد، ويفسر الصينيون أن إقدام واشنطن على توقيع اتفاق سلام مع حركة طالبان الأفغانية بعد حرب ضدها زادت على 18 عاماً، سببه الخشية من تفشي الوباء في قواتها والتي ستضطر لسحبها خلال العام ونيّف المقبل. وبعيداً عن نظرية المؤامرة دون استبعادها، فإن أياً كانت الأسباب والمبررات، وأياً كان مرجع الاتهامات وخلفياته السابقة والحاضرة، وأياً كانت الحجج والمزاعم التي تساق على هذا الصعيد، فالمنافسة الصينية - الأمريكية الصناعية والاقتصادية والتجارية والمالية التي أصبحت شغلاً شاغلاً للبلدين منذ أكثر من عقد من الزمان على نحو هادئ وماكر ، ناعم وصاخب أحياناً، إلا أنها غدت مقلقة لواشنطن، خصوصاً حين أُعلن أن الصين ستكون الأولى اقتصادياً في العالم ببلوغ العام 2030، ولذلك استعرت نار الحرب الناعمة. فما المقصود بالحرب الناعمة؟ أو ما تسمى "الدبلوماسية الناعمة" وأحياناً يطلق عليها نظرية "الأمن الناعم". وإذا كانت الحرب والقوّة الخشنة، الوسيلة الأقصر والأسرع للوصول إلى تحقيق الأهداف، إلاّ أنّها في الوقت نفسه ستكون الوسيلة الأخطر والأكثر تكلفة، ناهيك عن امتداد تأثيراتها المادية والمعنوية، وخصوصاً البشرية، التي قد تبقى لعقود من السنين، بما تتركه من جروح وآلام وخسائر وفداحات. أما القوّة الناعمة فقد يكون طريقها طويلاً ومتعرّجاً وبطيئاً، ولكنه الأقلّ تكلفة بشرياً ومادياً ومعنوياً، خصوصاً إذا استطاعت الهيمنة على العقول وكسب القلوب، والتأثير في الوجدان والسلوك. والقوّة النّاعمة تتجلّى باستخدام وسائل مؤثّرة وفعّالة من غير الوسائل العسكرية في التأثير على الطرف الآخر لكسب "المعركة"، مثل الدبلوماسية والسياسة والعوامل الاقتصادية والفنون والآداب والإعلام والجوانب السايكولوجية للتأثير على الروح المعنويةً، وخصوصاً التشكيك بالقدرات الذاتية من خلال إضعاف الثقة بالنفس، فضلاً عن السعي لتعميم نمط الحياة، باعتباره هو النموذج الأمثل والأقوم والأرفع. ويعتبر الإعلام جزءًا من القوة الناعمة وبوصفه المجال الحيوي لسيطرة السرديات التي يتم صناعتها، وقد برعت الولاياتالمتحدة بهذا النوع الذي يطلق عليه إدوارد سعيد «استعمار الوعي»، فالصورة والشاشة والفيلم والخبر والكلمة والإنترنت وجهاز الموبايل وكل ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات، أصبح بإمكانه القدرة في السيطرة على الوعي. وقد سعت القوى المتنفّذة في العالم من خلال سردياتها المهيمنة التأثير على العالم، باستخدام سرديات القوة الناعمة من دون الحاجة إلى أسلحة تقليدية، فهذه السرديات لو أُحسن استخدامها ستكون سلاحاً فعالاً من أسلحة التدمير الشاملة ضد العدو، وهدفها ينصب على كسب العقول، وإفراغ الإنسان في مجتمعات "العدوّ" من قيمه وروحانياته، وإدماجه في قيم القوى المتسيّدة، لكي تتحقق غاية الهيمنة على الخصم أو العدو، ومثل هذه القدرة في التأثير، إذا ما استحكمت فإنها تستوطن في العقول، وهو ما يسميه مالك بن نبي «القابلية على الاستعمار»، وقد قال عبد الرحمن ابن خلدون إن قيم الغالب تنتقل إلى المغلوب، الذي يتبنّاها بحيث تصبح قيمه. وتعتبر وسائل القوة الناعمة جزءًا من الحرب الوقائية للدفاع أو الحرب الاستباقية بالهجوم، ولكن بوسائل غامضة وملتبسة، مثلما استخدمت «داعش» وسائل القوة الناعمة بصفتها مرادفة للإرهاب، بهذا المعنى يمكن استكمال الإرهاب بالعمل الإعلامي وبوسائل القوة الناعمة، وقد يكون الإعلامي شريكا للإرهابي، وكلاهما يسعى وراء الآخر، فهذا هو المجال الحيوي لاستخدام القوة الناعمة، وأحياناً يقوم الإعلامي غير المهني بنشر ما يفيد الإرهابي على نحو ساذج، خصوصاً إذا كان يريد السبق والتميّز في نشر الخبر. وإذا كانت رؤية المفكر البروسي كلاوزفيتز من أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل عنفية للوصول إلى الأهداف، فيمكن القول من زاوية معاكسة أن الحرب الناعمة قد تكون أكثر خطراً وإيلاماً من الحروب ذاتها، لاسيّما إذا كانت إحدى وسائلها العلوم البيولوجية ودليلنا أن كورونا ما زال يفتك بالملايين من البشر دون رحمة في حين تتبادل الجهات المتنفذة الاتهامات فيما بينها. باحث ومفكر عربي