لم يكن المسرحي والكاتب الألماني برتولت بريخت واهماً أو حتى حالماً حين قال: "أيها الجائع تناول كتاباً، فالكتاب سلاح"، وهل يشبع الكتاب البطون الخاوية؟ لكن بريخت برؤية استراتيجية للمستقبل يدرك الترابط الوثيق بين الثقافة والتنمية والمواطنة، بل إنه يجعل من هذه الثلاثية محوراً مركزياً وعقلانياً للتقدّم، فلا تقدّم حقيقي دون التعليم، وفي التعليم تكمن فلسفة الدولة التربوية للنهوض بالمجتمع، وحسب أفلاطون وأرسطو وابن خلدون، فالإنسان مدني بطبعه وبالتالي ما يحكم علاقاته وسلوكه وتربيته هو مدني أيضاً. وبدعوة من مؤسسة هانز سايدل الألمانية والمعهد العربي للديمقراطية، إلتأم مؤخراً في تونس مؤتمر فكري شارك فيه خبراء ومفكرون وتربويون عرب وأجانب لمناقشة تجارب تاريخية في البلدان العربية والأوروبية في ما يتعلق بمدنية الدولة ارتباطاً باليوم العالمي للتعليم (24 يناير /كانون الثاني) الذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة، احتفاء بدوره في صنع السلام والتعايش والتنمية، إضافة إلى كونه حق من حقوق الإنسان وصالح عام ومسؤولية عامة . وتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 منه الدعوة إلى التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي. وكانت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 قد نصّت على ضرورة توفير التعليم العام للجميع، كما ذهب إعلان مبادئ التسامح الصادر عن المؤتمر العام لليونسكو (1995) إلى تأكيد مناهضة التمييز في مجال التربية (الديباجة) وأكّد في المادة 4 على أن: التعليم هو أنجع الوسائل لمنع اللّاتسامح، وهو ضرورة ملحّة، ويحتاج الأمر إلى أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح (التربية عليه) من خلال سياسات وبرامج، وهدفه مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلى الخوف من الآخرين واستبعادهم، وتربية النشء على تنمية قدراتهم (أي نبذ التعصّب والتطرّف)، وشدّد على أهمية إعداد معلمين ومناهج دراسية وكتب مدرسية ومواد تعليمية أخرى لاحترام كرامة البشر والتربية على ثقافة التسامح واحترام حقوق الإنسان واللّاعنف. وقد أقرّ المجتمع الدولي خطة التنمية المستدامة 2030 (أيلول /سبتمبر/2015) مؤكداً "أن التعليم ضروري لنجاح جميع أهداف الخطة ال 17 و169 مقصداً ، حيث نص الهدف الرابع على وجه الخصوص " ضمان توفير تعليم جيّد وشامل وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع" بحلول العام 2030. وتقتضي التربية على الثقافة المدنية، محاربة التعصّب ووليده التطرّف، وإذا ما انتقل هذا الأخير إلى التنفيذ وأصبح سلوكاً سيتحول إلى عنف، وحين يضرب هذا العنف عشوائياً يصير إرهاباً، ولعلّ غياب التعليم وتفشي الأمية يجعل البيئة مهيأة لتفقيس بيض العنف والإرهاب، وستكون الأرقام صادمة إذا ما عرفنا أن 258 مليون طفل وشاب لا يزالون اليوم غير ملتحقين بالمدارس، وهناك 617 مليون طفل ومراهق يعانون من الأمية (الأبجدية)، فما بالك بالأمية المعرفية والتكنولوجية، بضمنهم ما يزيد عن 70 مليون أمي عربي (أبجدي)، وهؤلاء الأكثر عرضة للتأثيرات الماضوية، تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم التقاليد، ناهيك عن كوابح عديدة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية ودينية ومذهبية وإثنية وعنصرية وغير ذلك. وبالعودة إلى حكمة بريخيت فقد أثبتت التجربة أن التعليم والتربية السليمة هما طريق التنمية للخلاص من الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية وتطويق عوامل وأسباب التمييز والتعصّب والحروب والنزاعات والعنف والهجرة، وأساساً للعيش المشترك والاعتراف بالآخر وبحقوقه وبالسلام وقيمه. وتزداد الحاجة إلى التربية والتعليم على جميع المستويات، وخصوصاً في البلدان النامية ومنها بلداننا العربية، لأهمية تأمين الحق وتعميم المعرفة وجعل الثقافة في متناول الجميع، ومثلما هي حق إنساني فهي حق قانوني، وقد ورد ذلك في العهدين الدوليين، الأول - الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والثاني - الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الصادران عام 1966 واللذان دخلا حيّز التنفيذ العام 1976، علماً بأن 82% من دساتير العالم تحفظ الحق في التعليم ، وأن 55% منها يستطيع المواطن اللجوء إلى القضاء في حالة انتهاك هذا الحق. وقد جرت في السنوات الثلاثين الأخيرة عمليات خصخصة للتعليم لقيت معارضة من جانب أوساط غير قليلة من الطبقات الكادحة ومحدودي الدخل، خصوصاً وأنها جعلت العديد من أبنائها خارج العملية التعليمية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وأجور الدراسة. وعلى الرغم من أن بعض البلدان العربية حقق بعض النجاحات إلّا أنه يحتاج إلى المزيد من التخصيصات المالية، ناهيك عن الارتقاء بالعملية التربوية لتنسجم مع روح العصر بحيث يكون التعليم شاملاً ومدنياً ووفق منهج موحد وعصري. ولكي تكون العملية التربوية مدنية لا بدّ من : الوعي بأهميتها وإقرار ذلك قانوناً للوصول إلى أهدافها ، واتخاذ طائفة من التدابير والإجراءات لضمان تأمين الحق للجميع (للإناث ولسكان الريف والبادية وللفئات الضعيفة ولذوي الاحتياجات الخاصة) فالتربية هي المدماك الأساسي لكل تقدم وتنمية ومواطنة، وتلك من أسس الدولة المدنية ، خصوصاً في ظل بيئة مناسبة بتأكيد قيم السلام والتسامح والمساواة وإقرار التعددية والتنوّع والاعتراف بالآخر. - باحث ومفكر عربي