طوال أسبوع كامل لم يكن للتونسيين وإعلامهم ولمواقع التواصل الاجتماعي من حديث سوى ما يجري تحت قبة البرلمان من هرج ومرج، بعد اعتصام نواب كتلة «الحزب الحر الدستوري» (ترأسه قيادية سابقة في حزب بن علي معادية لكل ما حصل في تونس منذ الإطاحة به) على خلفية خلاف بين نوابه ونائبة من حركة النهضة نعتتهم بالمشردين، فرد عليها أحدهم بوصف عنصري بسبب بشرتها السمراء... ثم احتدت النقاشات المطالبة بضرورة الاعتذار من قبل هذا وذاك. تحول المشهد إلى ما وصفه البعض في تونس ب «الحمّام» ويمكن أن نزيد عليه الوصف المشرقي الذي يقول «حمام وانقطعت عنه المياه» إمعانا في وصف الفوضى التي تعم مكان علا فيه الصياح فلم تعد تميز شيئا مما يحصل أو يقال. ليس جديدا أن يحدث ذلك في أي برلمان في العالم عندما تحتد الخلافات، لكن أن تصل الأمور إلى اعتصام داخل القاعة الرئيسية واحضار البطانيات والمبيت هناك، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل الجلسات التي كانت تنظر في إقرار الميزانية الجديدة للدولة، فأمر لم يحصل من قبل في أي مكان.. وله ما وراءه بالتأكيد. عندما جرت الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في تونس، قدّم هذا البلد الذي منه انطلق الربيع العربي، أحب هذه التسمية من أحب وازدراها من ازدرى، نموذجا رائعا جديدا في التداول السلمي على السلطة وفي احترام ما تفرزه صناديق الاقتراع بعد عقود من الاستبداد وتزوير إرادة الناس. انتخب التونسيون برلمانا متعدد الاتجاهات وانتخبوا رئيسا بنسبة عالية ولم يكونوا ينتظرون سوى أن يشمرّ هؤلاء عن سواعدهم لإيجاد الحلول الملائمة لمشاكل البلاد المتفاقمة اقتصاديا واجتماعيا.. وسريعا. تبدو المشكلة الأخيرة قد حلت إلى حد ما، ولو أن النائبة إياها التي اعتصمت وجماعتها في مقر المجلس تريد من زميلة أخرى لها أن تعتذر لأنها تماهت مع الوصف الذي وُجه إليها فرددته هي الأخرى. هذا يعني، في الغالب، أننا سائرون من أزمة إلى أخرى سواء من قبل هذه المجموعة، التي ربما لن يرضيها سوى أن يعتذر لها مجمل الشعب التونسي على ثورته على بن علي، أو من قبل مجموعات أخرى داخل المجلس لا تقل سوءا في نظرتها الاستئصالية الخطيرة. من لا يعترف بأن تونس شهدت ثورة، ولم يهضم بعد أن زمن الديكتاتورية قد ولى، وأن الشعب الذي انتخب «الخوانجية» هو نفسه الشعب الذي انتخب «الأزلام»، من الصعب أن يجد نفسه مرتاحا في مشهد تعددي يحترم إرادة التونسيين، بالجملة وليس بالتفصيل. التعايش بين جميع المكوّنات السياسية هو التحدي الأبرز الآن بين التونسيين. ليس ممكنا ولا مقبولا أن يكون بين من ارتضى بالدستور وصناديق الاقتراع حكما أن يكون إقصائيا واستئصاليا تجاه الآخرين سواء كانوا من الإسلاميين أو اليساريين أو القوميين أو الليبراليين أو بقايا النظام السابق أو أي مكوّن آخر... وليترك الصراع السياسي والتدافع بين الرؤى والبرامج ومقارنة الانجازات على الأرض هو المحدد لصعود فئة ونزول أخرى عبر العودة الدائمة للشعب الحكم الأول والأخير عبر صناديق الاقتراع. طبعا هذا يحتاج إلى دربة وإلى الوقت حتى يترسخ في أذهان الناس والطبقة السياسية على حد سواء، لكن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى ظاهرة خطيرة للغاية بدأت منذ اليوم الأول للإطاحة ببن علي وتدعّمت تدريجيا حتى وصلت ذروتها الحالية في اعتصام مجلس النواب والفضائح التي صاحبته. هذه الظاهرة هي سعي أطراف سياسية وإعلامية على مر هذه السنوات إلى ترذيل الحياة السياسية التعددية والديمقراطية في البلاد، أي تقبيحها وتشويهها في نظر الناس حتى لا تبدو في أعينهم سوى عوراتها بهدف دفعهم إلى الكفر بالديمقراطية وربما الحنين لزمن الاستبداد باعتبار أن هذا الشعب «لا يساق إلا والعصا فوق رأسه!!». بدأ ذلك من وسائل إعلام معينة، تقف وراءها جهات فاسدة أو مشبوهة، لم تبدع في شيء إبداعها في التنمر على كل الناس وكل شيء وبطريقة لا علاقة لها بالمهنة ناهيك عن أخلاقياتها. لقد «نجح» بعض «نجوم» هذا الاعلام في تبخيس السياسة في البلاد، رغم وجاهة المشاكل التي يثيرونها، ذلك أن مقاربة التناول هي المشكل وليس القضايا المطروحة. المصيبة أن سياسيين ونوابا في البرلمان ينتهجون حاليا نفس التوجه في تناغم غريب استطاع بدرجة كبيرة في جعل الناس تشعر بنوع من «القرف» من الطبقة السياسية برمتها. هذه الطبقة السياسية التونسية تعاني فعلا من عيوب جمة بل وقد تكون البلاد في حاجة إلى طبقة جديدة بالكامل متخلصة من أدران الأيديولوجيا، بكل تلويناتها المتخشبة، والفساد، ومن عقد الماضي، لكن ذلك لن يتم سريعا لاسيما بوجود سياسيين هدفهم تخريب العملية السياسية بممارسات كتلك التي وقعت مؤخرا بعد ما ظن الجميع أنهم تخلصوا من شخصيات فلكلورية هزيلة من المجالس السابقة. من له مصلحة في أن يصل الناس إلى نبذ الجميع وفقدان الثقة من الجميع؟!! من يريد إجهاض التفاؤل الجديد بين التونسيين وتبديده بسرعة؟! هذا الشعور القاتل إذا ما استقر بالكامل، لا سمح الله، وتشابك مع وضع اقتصادي خانق لا يمكن أن يقود سوى إلى المجهول. المصدر: القدس العربي