من المنتصر في تونس؟ لا يحتاج الجواب هنا، إلى كثير كلام. إنه الشعب التونسي، الذي يؤسس للجمهورية التونسية الثانية. لقد قدم رجل الشارع التونسي، درسه الثاني للعالم، بعد درس الثورة ضد نظام بنعلي، يوم الأحد الماضي، حين نزل إلى مراكز التصويت بكثافة غير مسبوقة، كذبت كل التحاليل التي راهنت على أن التونسيين غير مبالين بما يجري من نقاش عمومي، ومن توالد للأحزاب قارب المائة حزب، بعد هروب بنعلي إلى الخارج. وبذلك قدموا درسا ثانيا في علو الوعي المدني المواطن هناك في بلاد أبو القاسم الشابي. وأكدوا فعليا مضمون قصيدته الخالدة، التي تحولت إلى حكمة كونية، أنه: «إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر». التونسيون، يوم الأحد الماضي، أكدوا للعالم أنهم يريدون الحياة، تلك التي عنوانها الكرامة والسيادة لمعنى المواطنة، من خلال صناديق الاقتراع. بل إن صور الطوابير الطويلة، التي ظل في بعضها المواطنون التونسيون واقفين تحت لهيب شمس حارقة لأكثر من ثلاث ساعات، من أجل ممارسة حقهم في التصويت، تكاد تشبه طقس تعبد في محراب الديمقراطية. وأعطتنا صورة واقع آخر، أن العربي ليس قدره الأبدي أن يقف في الطوابير من أجل كسرة خبز يابسة أو مواد غذائية متهالكة الصلاحية، أو الفوز بورقة إدارية يجود عليه بها موظف بليد في ممارسته للسلطة بتعالي الاستبداد، بل إنه يعرف كيف يقف في طابور بصبر وجلد وإصرار من أجل الديمقراطية. إن كثافة التصويت، التي تكاد تترجم واقعا مثيرا، جعل الملاحظين ينتبهون كما لو أن أجيال تونسالجديدة قد خرجت من أجل استقلال جديد، إنما تعكس درجة التحول التي تعيشها الأجيال العربية، بكل الألق التاريخي لهذا التحول. لقد أبدع التونسيون الأحد الماضي، معنى لهذا التحول، ورسموا له خارطة طريق، وبذلك انتصروا على العدو الأول للأمم والشعوب: اليأس من المستقبل.. بهذا المعنى، فقد منحنا التونسيون والتونسيات درسا للأمل أيضا، وأن التغيير ممكن. وأن من يتوهم أنه قد يشوش عليه بمساحيق عابرة، إنما يرسخ ذلك التغيير كقرار تاريخي، ويقويه في الوعي الشعبي العمومي للناس. وهذا هو معنى الانتصار الذي حققه الشعب التونسي الأحد الماضي. المؤكد أيضا، أن الشعب الذي قدم ذلك الدرس لنا جميعا، هو صمام الأمان أمام أي تراجع عن المنهجية الديمقراطية، كخيار مجتمعي تاريخي هناك، في المستقبل المنظور. وأن نتائج التصويت إنما ترجمت رسالة لممارسة التغيير فعليا على أرض الواقع، بما يمنح أفقا جديدا لتونس الدولة والمجتمع. هو جيل جديد أنجبته تونس، حلم جديد رسخه أبناؤها، ودرس بليغ قدمه لنا جميعا، حفدة النقابي الشهيد فرحات حشاد والشيخ السلفي المتنور والوطني الطاهر بن عاشور، وصف من نساء تونس البطلات في مجال الدفاع عن حرية المرأة والحقوق النقابية العمالية. وحين نتأمل تطورات الملف التونسي، منذ الإطاحة بزين العابدين بنعلي، ندرك أن إرادة الشعوب من إرادة السماء، التي من عناوينها العدل والإنصاف واحترام حقوق الإنسان في معانيها الكونية. هو مشتل جديد للفعل التاريخي قدمه لنا التونسيون يوم الأحد الماضي، عن معنى إصرار الناس، من كل الشرائح، على ربح المستقبل عبر بوابة ترسيخ الخيار الديمقراطي، الذي يعلي من سلطة الشعب وينتصر لمنطق المسؤولية والمحاسبة، ويعلي من روح القانون. وأكيد أن تونس جديدة قد ولدت، وأن نخبها قد أبانت عن وعي تاريخي بتحديات المرحلة، وأن تلك النخب حاولت وتحاول ترجمة حلم التغيير والإصلاح، بما يجب له من هدوء وصرامة في الآن نفسه. بهذا المعنى نوقن أن المنتصر الذي خرج من صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي، هو المواطن التونسي، وتونس البلد، الدولة الجديدة والشعب. وهذا هو معنى الثورة الحقيقي والعميق.