(1) (اللادينيةُ) في تونس العربية الإسلامية هي من غِراس الاستعمار وثمار التغريب. وقد حظي هذا الغرسُ الاستعماري في العهد البورقيبي برعاية خاصة إلى درجة أن المجاهرة بانتهاك مبادئ الإسلام، وإلغاء بعض أحكامه القطعية، والتنكر لأخلاقه وآدابه، باتت من مميزات الدولة العصرية البورقيبية المستبدة. ثُم جاء وريثُ بورقيبة الجنرالُ بنعلي، فسار على نهج سلفه في رعاية اللادينية بقبضة من حديد، وواجه الإسلاميِّين بسياسة قمعيّة استئصالية، في جو بوليسي مرعب، وبأدوات نظام ديكتاتوري فاق في بشاعته كلَّ تصور. وقد شاء الله، عز وجل، أن تُنشَر مخازي هذا النظام، ويقفَ العالم بالتفصيل على فظاعات ديكتاتورية بنعلي، بعد نجاح الثورة المجيدة، التي اندلعت في دجنبر2010، وهروب الديكتاتور خارج البلاد. إن سياسة القمع المتطرفة التي انتهجها نظامُ الديكتاتور بنعلي لاستئصال الحركة الإسلامية في تونس، جعلت كثيرا من الناس، ومنهم دارسون متابعون، يظنون أن الإسلاميِّين في تونس باتوا في خبر كان، وأن وجودهم الاجتماعي والسياسي انتهى إلى غير رجعة. وما يزال كثيرٌ من الناس يعتقدون أن تونس أضحت من قلاع اللادينية الحصينة في البلاد العربية، حتى بعد هروب الديكتاتور، وسقوط دولة البوليس والاستبداد والاستئصال. سقطت الديكتاتوريةُ، وأخذ الشعب التونسيُّ الحر زمام المبادرة، فبدأت فترةٌ انتقالية حُدِّد لها أن تنتهيَ بإقرار دستور ديمقراطي، وتنظيمِ انتخابات عامة، ثُم بعدها تنطلق مسيرةُ العهد الجديد ببناء مؤسسات الدولة، وحماية مكتسبات الثورة. (2) في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي(أكتوبر2011)، لم يكن اللادينيّون، وغالبيّتهم من التيارات اليسارية، يتوقعون ذلك الفوزَ الساحق الذي حققته حركةُ النهضة الإسلامية. فقد قامت قيامتُهم، وما تزال إلى اليوم، وضربوا في كل الاتجاهات، وجرّبوا مختلف الوسائل، ووَظّفوا كل ما يمكن توظيفُه، من أجل عرقلة السير، ووضعِ الحواجز في الطريق، حتى لا تنتهيَ الفترة الانتقالية بسلام لقد تفاجأ اللادينيّون بذلك القدر الهائل من الشعبية، الذي تتمتع به حركة النهضة الإسلامية، والذي كشفته الانتخاباتُ، ومن ثَمَّ بات بالُهم مشغولا، أساسا، بالعمل من أجل التشويش على المسار الديمقراطي، والسعي بكل الوسائل لمنع وصول الإسلاميين إلى السلطة في أجواء صافية. اللادينيون هم أولُ من يعلم أن حظوظهم في التغلب على الإسلاميِّين في منافسات شريفة ونزيهة، في مجتمع مسلم، ضعيفة جدّا، إن لم تكن منعدمة، فلهذا، فليس عندهم من وسيلة في المواجهة إلا التشويش والتأزيم والتعطيلُ والعرقة، ليحافظوا على وجودهم، ولتظل الأنظار متجهة إليهم. بالرغم من المرتبة الأولى التي حصلت عليها حركةُ النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فإنها حرصت على تكوين حكومة توافقية، فلجأت إلى التحالف مع حزبين محسوبَيْن على التيار العلماني المعتدل، فيما عُرف بحكومة الترويكا(حزب النهضة، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات). ورغم كل ما قدمته حركةُ النهضة من تنازلات ومرونة في التفاوض وتحقيق التوافق، من أجل أن تنتهيَ الفترة الانتقالية إلى أهدافها المرسومة، فإن سهام اللادينيِّين ظلت تستهدفها من كل جانب، بسبب وبغير سبب، مع أن الحكومة يسيرها تحالفٌ من ثلاثة أحزاب، وليس حزب النهضة وحده. اللادينيون لا يعرفون حكومةَ الترويكا، وإنما يعرفون حزب النهضة الإسلاميَّ وحده، ومِنْ ثَمَّ فإنهم ظلوا يُحمّلونه المسؤوليّة عن كل مشاكل البلاد، بما فيها أحداثُ القتل التي سقط فيها اثنان من قيادات اليسار(البراهمي وبلعيد)، والتي انتهت التحريات الأمنية فيها أنها من توقيع التيار السلفي المتطرف، الذي تمثله جماعة (أنصار الشريعة)، التي يُعدُّ حزب النهضة هو الآخر من خصومِها المستهدفين. كلُّ هذا لم يشفع لحركة النهضة أمام تهجمات اللادينيِّين المتطرفين واتهاماتهم الباطلة وكراهيتهم وعدائهم المستحكم للإسلاميين. وفي هذه الأجواء الملوثة التي صنعها اللادينيون من رافضي المسار الديمقراطي، وبعد انسحاب ممثلي هؤلاء اللادينيِّين من المجلس الوطني التأسيسي، ونجاحهم في تعليق أعماله لبضعة أشهر، وتوجههم لإثارة الشارع على الحكومة الشرعية، وإصرارهم على المطالبة بحل المجلس المنتخب، وتكوين حكومة جديدة لاحزبية، ومراجعةِ القرارات التي اتخذها وزراءُ محسوبون على حركة النهضة، وغير هذا من الشروط التي فرضوها حتى يرجعوا للمشاركة في المسار السياسي-في هذه الأجواء المضطربة، التي خيّمت على تونس طيلة سنة 2013، توسّطَ بعضُ العقلاء بين الطرفين، لإنهاء التوتر والجمود الذي طبع الحياة السياسية، فكانت النتيجة، بعد جولات من اللقاءات والمفاوضات، أن الجميع، الترويكا الحاكمةَ والمعارضةَ، اتفقوا على بدء حوار وطني، بعد قبول الترويكا، وحزب النهضة أساسا، بحلّ الحكومة الحزبية الحالية، وتكوين حكومة لاحزبية جديدة برئاسة شخصية يرضى عنها الجميع، ورجوع المنسحبين إلى المجلس التأسيسي لإنهاء أشغاله، وفي مقدمتها المصادقة على مشروع الدستور الجديد، الذي ينتظره الشعب التونسي. لقد قبِل اللادينيون المُمَثَّلون في (الجبهة الشعبية)، التي تضم أكثرَ من عشرة تنظيمات سياسية، منها أحزابٌ محسوبة على اليسار العدمي المتطرف، والتي تجمعها إديولوجية الكراهية المبدئية الراسخة للإسلاميِّين، على مضض وبكثير من التحفظات، الاتفاقَ التي تم التوصل إليه بين الترويكا، وفي قلبها حركةُ النهضة، ومعارضيها من مختلف الأحزاب والتيارات. ويجب التذكيرُ في هذا السياق أن مكونات هذه (الجبهة الشعبية) المعاديةِ للإسلاميِّين لم تحصد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي إلا بعض الغبار من أصوات الناخبين، أيْ أن صناديق الاقتراع، في أول انتخابات نزيهة تجري في البلاد، بعد الثورة، أظهرت أن اللادينيِّين، في وجههم المتطرف، لا يمثلون شيئا في المجتمع التونسي، وإنما وجودهم السياسي مرتبط، في حقيقته، بما يتقنونه من زعيق وقدرة على التشويش والتهريج ونشر الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، وبرصيدهم الضخم من الخبرة الفائقة في التأقلم مع الأجواء الوبيئة، واستغلال ما يكون في هذا الأجواء من ثغرات وفرص وتناقضات وتوترات، للفت الانتباه وإثبات الذات. (3) قبِل اللادينيون المتطرفون، وهم كارهون، ما انتهت إلى المفاوضات في أواخر السنة الماضية، لكنهم ظلوا ينشرون خطابات التشكيك، والتشويش، والاتهام، التي لم يسلم منها رئيسُ الحكومة الذي تم التراضي حوله، وهو السيد مهدي جمعة، الذي سيُكَلف بتأليف الحكومة الجديدة اللاحزبية، التي ستحل محل حكومة السيد علي العريض. قبْل أيام استأنفَ المجلس الوطني التأسيسيُّ أعماله، وبدأ في المصادقة على المشروع النهائي للدستور التونسي الجديد. وما هي أيام معدودات حتى عاد اللادينيون إلى عادتهم في العرقلة والتشويش واصطناع الأزمات، فتوقفت بسبب ذلك أعمالُ المجلس التأسيسي لبعض الوقت. الذي حصل هو أن نائبا من اللادينيِّين المتطرفين المنتمي إلى (الجبهة الشعبية)، اتهم نائبا من حزب النهضة بأنه أفتى بقتله، وزعم أنه مهدد بالتصفية خلال 48 ساعة. ولم يكد الناسُ يسمعون الاتهام حتى قامت قيامةُ عصابة اللادينيِّين، فجعلوا يرددون الاتهامات الجاهزةَ في حق حزب النهضة، ونادوا بضرورة حماية أرواحهم من الظلاميِّين، ووجوب اتخاذ العقوبة اللازمة في حق المتهم الإسلامي، إلى آخر ما تحمله جعبة اللادينيِّين المتطرفين من الأباطيل والأكاذيب والتلفيقات. وملخصُ ما قاله النائب الإسلامي المتهم في حق النائب اللاديني، في برنامج إذاعي، أنه وصفه بما فيه، أي بأنه يكره الإسلام، وما من كلمة أو جملة أو معنى يُشتم فيها رائحة الدين، إلا ويقف النائب اللاديني رافضا لها ومحتجا على ورودها ومطالبا بحذفها. لقد وصفه بأنه من الكارهين الحاقدين المعادين لكل ما له علاقة بالإسلام. فتلقّف أهلُ الإفك والبهتان تصريحاتِ النائب الإسلامي، فأولوها تأويلا فاجرا، وحمّلوها ما أرادوا لها أن تحمله، وانتهوا إلى فهمها على أنها فتوى بالقتل. ومع كلّ هذا البهتان اللاديني الفاجر، فقد اعتذر النائبُ الإسلاميُّ عما صدر منه من كلام، واعتذر لكل عضو من أعضاء المجلس التأسيسي أحسَّ بأن كلامه كان فيه أذى له أو تجريح أو انتقاص. كما أصدرت حركة النهضة بالمناسبة بيانا عبرت فيه عن عدم رضاها عما صرح به النائب المحسوب عليها، وبينت أن ما قاله النائب الإسلامي في حقّ نائب الجبهة الشعبية لا تعبر عن توجهات حزب النهضة، وإنما هو رأي لا يلزم إلا صاحبه. أشغالُ المجلس التأسيسي اليوم مستمرةٌ وفق الخريطة المتفق عليها، وليس هناك ما يؤكد أن المسيرةَ ستنتهي بسلام ما دام هناك متطرفون لا يمكن أن يعيشوا في أجواء الصفاء والتوافق والتنافس الشريف. فاللادينيون المتطرفون يتربصون بالإسلاميِّين، ويحسبون عليهم الأنفاس، ويترصّدونهم أن تصدرَ عنهم نأمةٌ لا تعجبهم، لكي يشعلوا النار من جديد. إن اللادينيِّين اليوم في تونس، وأشغالُ المجلس التأسيسي مستمرةٌ على قدم وساق، يعيشون في حزن وتعاسة وضيق، وهم يتحيّنون أيّ هفوة تكون من الإسلاميِّين ليقلبوا الطاولة من جديد، ويعودوا بالبلاد والعباد إلى شقاوة التوتر والاختلاط والالتباس. (4) إن حركة النهضة الإسلامية في تونس قد قدّمت الكثير من أجل أن تمر الفترة الانتقالية بسلام، حتى ينطلق الشعبُ في بناء مؤسسات دولته الديمقراطية، لكن الأعداءَ المتربصين، والمنافسين المتطرفين الفاشلين، وخاصة من اللادينيِّين، يكرهون أن يروا الشعبَ يمارس اختيارَه وسيادتَه بكل حرية، ويكرهون أن يروا الإسلاميِّين في السلطة، ويكرهون، بصفة عامة، أن يصفوَ مشربُ الحياة السياسية. إن التطرفَ، من أيِّ جهة كان، لا يمكن أن يثمر توافقا ولا أمنا، ولا سلاما، كما لا يمكن أن يوفرَ ظروفا طبيعية ومواتية للعمل السياسي الجاد والبناء. في جملة، التطرفُ والخرابُ توأمان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.