إذا قمت بنزهة مشيا على الأقدام إلى ثيزرث صباحا ترويحا عن النفس، وابتعادا عن ضوضاء بني أنصار، ولممارسة رياضة المشي، واستنشاق النفس العليل المنعش البليل، والاستماع إلى أمواج اليم المتدحرجة المترادفة المصطدمة بحلزونيات مسحجة رمال الشاطئ ثم تسوخ فيها تاركة سينفونيات طبيعية، يعجز وعجز عن محاكاتها الموسيقيون الكبار والجهابذة الأفذاذ، إنك تمشي في حديقة طبيعية، أرضها سجسج شاسعة، مترامية الأطراف، مرتاح البال، منشرح الصدر، في فضاء إيكولوجي رحب بلوحة طبيعية تضم طيور اللواء والنوارس والبط والحلزونيات والمحارات والصدف والرمال الذهبية اللامعة، وبين البحرين اللذين يجلبان الزائر ويلهمان الكاتب والشاعر والرسام والموسيقار، هذه الحديقة لا تريد لا زفتا ولا رصيفا ولا شارعا ولا طريقا، هي حديقة خام منذ نشأتها القديمة، هي تاريخ وذاكرة أسرار، كم هي جميلة حينما تشرق الغزالة بأشعتها الذهبية المترقرقة فوق أديم اليم المتحرك، والبحيرة الهادئة تمخر مياهها قوارب صيد، محملة بأسماك غضة جذابة ذهبية وناصعة اللون، تسيل اللعاب ويتحلب لها اللسان حتى النوارس بدورها تحوم لتظفر بسمكة لذيذة، في هذا الفضاء تشعر كأنك في دولة خليجية أو فردوس الدنيا، أو ولدت من جديد، ومخك الأيمن لم يشعر بشيء والأيسر لم يقم بأي عمل حسابي، هذه الحديقة الطبيعية التي أتحدث عنها هي المتنفس الوحيد لساكنة بني أنصار خلال الربيع والصيف والخريف، لأن في فصل الشتاء الكل يهجرها لا يبقى فيها إلا أهلها، لا نريد أن يستثمرها أي أجنبي، وسنحافظ على طبيعتها الخلابة، بأشجار الآثال والباهرة والرتم وغيرها من النباتات والطيور والحيوانات… وإذا وصلت إلى الترعة الجديدة أو “الوادي” لتعاين شكلها، ستشعر بأنك واقف أمام جزء من نهر النيل بمصر، ينقصه شاعره حافظ إبراهيم، والموسقار محمد عبد الوهاب في أغنيته النهر الخالد، وإذا نظرت إلى هضبة أطلايون تعن لك كهرم طبيعي يشبه هرما من أهرام الجيزة بمصر، وجبل كوركو ينقصه ابن خفاجة لوصف طوله ووقاره، وهو يطل على البحيرة بأشجار نشيطة ومنتعشة، بدفء الشمس الذي يسري في عروقها وجذورها ويعمل على نموها وارتفاعها. وجبال كبدانة المناضلة شامخة كسور منيع يحفظ الإقليم من كل شر أو إعصار، أما الجزيرة الكبرى من الجزر الجعفرية تظهر في يوم صحو كسفينة عائمة ثابتة أو محطة للتنقيب عن البترول، ومن بعيد تبدو بني أنصار كأنها طنجة في موقعها وقربها من البحر، وصخور مينائها تقاوم العلاجيم المتلاطمة كلما هاجت واضطربت، وعنقاء جبل هرك يبدو رأسها، كرأس الديناصور الموغل في البحر كأنه يريد ابتلاع ماء البحر أو أن يسبح في اتجاه بحر الزقاق حيث عواميد هرقل أو جبل الفتح أو جبل طارق لصلة الرحم لأنه أخوه في النشأة الأولى… والبواخر الراسيات تنتظر الإبحار إلى الضفة الأخرى كأنها مدن عائمة، وآلات ورافعات ضخمة باسقة تمنح للميناء هيبة ووقارا، كأنها تناطح الغيوم، أما الخزانات الخاصة للغاز وغيرها تبدو كالمناطيد تستعد للصعود إلى الفضاء توحي بمحطة كانيبرال، ويجب أخذ الحيطة والحذر من هذه الصهاريج القريبة من الساكنة لأنها تشكل خطرا عليها. هذه المواقع الطبيعية الجميلة المحيطة ببني أنصار تدفعك إلى التأمل في تضاريسها من هضاب وجبال وما بها من آبار وعيون وآثار قديمة، ويستوقفك شفق الشمس أثناء غروبها، وكذا شروقها وكأنها تخرج من البحر يسحرك لونها وحجمها، ولا ننسى طلوع القمر في الليالي الصيفية الهادئة أيضا من موضع شروق الشمس، ضوؤه اللجيني الساطع المنعكس على وجه الطغم يرسم طريقا مترقرقا مسبوكا فضة، هذه الطبيعة الساحرة لولاها لمتنا من جراء الروتين والرتابة، لأن بني أنصار مغيبة من أي نشاط ترفيهي وتثقيفي وحتى الرياضي لأن الشباب وحتى الكبار يتمنون أيضا كباقي المدن الذهاب إلى الملعب البلدي لمشاهدة مقابلة فريقهم ضد الفرق الزائرة، لنسيان الروتين، ولكن أين الملعب؟ إن بني أنصار تقنيا وعمرانا وهندسة وشكلا ومضمونا وهلم جرا وكسرا ما زالت قرية، رغم مرور حوالي مائة عام عن تواجد بعض الدور للنصارى الذين كانوا يشتغلون بشركة استخراج المعادن بويكسان، وخزان المعادن المهدم الذي كان موجودا ببني أنصار كتب على جداره اسم الشركة والتاريخ سنة 1912 وبجانبه المؤسسة المراقبة بنفس التاريخ ولكن لم يبق أي شئء بالإضافة إلى الدور في المداشر القريبة من حي بني أنصار سابقا. ما يحيط ببني أنصار من طبيعة ومناظر ومآثر، هو دائم الجمال لا يتغير رغم مرور أزمنة غابرة، أما عقرها فلا يبعث على الراحة والاطمئنان، لأن بنيتها غير متينة، وبناياتها عبارة عن عمارات أو علب مستطيلة ومربعة بين حديثة وقديمة، الفن المعماري غائب، لا مكان فيها للخلق والإبداع والإنتاج كالأندية الثقافية والفنية والموسيقية ولا المكتبة العامة، ولا المتحف لجمع التحف، ولا الملاعب الرياضية، فهذه يجب أن تكون بيوتا للشباب بعد بيوت الله لتجنب تناول السموم الضارة التي لا دواء لها وعلى شبابنا أن يعي ذلك وأن يتعظ ويأخذ العبرة من الآخرين الذين يبحثون عن العلاج هيهات لأنه فات الأوان… ونكرر دائما وفي التكرار إلحاح وفي الإعادة إفادة والله يحب العبد الملحاح والمقدام لتحقيق ما هو خير للبشرية… إننا نطلب من وزارة الشبيبة والرياضة أن تبني ملعبا لكرة القدم لشباب بني أنصار الذين ينتظرونه على أحر من الجمر، لأنهم يقومون بالتداريب فوق أراض مليئة بالأحجار والأتربة، والرياضة خير من تصريف الوقت الثالث فيما يضر، لأن الفراغ يولد القلق والقلق يبعث على الإقدام على الرذائل وربما الإجرام، والرياضة لها دور إنساني واجتماعي لأنها تخلق التنافس المحمود، وتوحد الشعوب، وكيف لا وشباب بني أنصار لهم تاريخ عريق في ميدان كرة القدم ، ومعظمهم هم الذين أوصلوا هلال الناظور إلى القسم الوطني الأول، وتلامذة إعدادية بني أنصار تأهلوا إلى المشاركة في كأس العالم للألعاب المدرسية ولكنه لم ينظم… إننا دائما نندب حظنا العاثر منذ أمد بعيد، وقد مر تقريبا قرن من الزمن، وما زالت بني أنصار لا ترقى إلى مراتب المدن، لأن بها أتربة وأحجارا وعرصات وحظائر مسيجة بالأحجار والصبار والأشجار، تخترقها أودية، أحياء متفرقة غير منظمة، شوارعها غير معبدة ضعيفة الإنارة، شياه تمشي على رصيف الطريق مترادفة بدون راع، البغال والحمير تجثم وتجثو، الكلاب تنبح وتتهارش في الحديقة… دون رقيب ولا حارس… مدينتي مدينة “معليهش” مدينة “لمزوق من بر أش اخبارك من داخل” مدينة “حيد على راسي أوشقف” مدينة “إوسلك وها” مدينة “أقضي أو عدي” مدينتي مدينة رفض الآخر والنفور والهروب والدنفش والشزر والنشز، بين هذا وذاك ينعدم الجوار والحوار والاجتماع والتماسك، حتى الجمعيات تجتمع ثم تتفرق، وتضمحل وتندثر، وحتى بعض فروع الأحزاب تنسلخ لم يعد لها أي دور في تأطير الشباب…!!! نحن الذين نتحمل هذا الخطأ، لأن القيم الأخلاقية منعدمة، وطغت علينا غريزة حب الذات والتملك، وانعدم فينا الإيثار واحترام الآراء… آراؤنا واتجاهاتنا اليوم بعيدا عن الإيديولوجيات والموضات والبدع، فقد كثرت الفتاوى من طرف بعض الأميين خدمة بني أنصار وأن يقوم بذلك شبابها الواعي ودائما نكرره، لأننا انتهى دورنا ويكفي ما عشنا فيه من قمع وبؤس واستفزاز وتهديد ولا نستطيع أن ننبس ببنت شفة في العهود السالفة. إن بني أنصار ببناياتها وشوارعها وأرصفتها وبنيتها التحتية وأحيائها وحدائقها… تستدعي إعادة النظر، لقد طالها التغب والإهمال، فلا تجد حيا منظما بشوارعه المعبدة وأرصفته المرصعة… إن ما يحيط بها أجمل بكثير منها. لذا نريد لبني أنصار أن تنبثق من بين جدرانها إبداعات فنية وإشعاعات ثقافية ومنافسات رياضية، إذ لابد من إيجاد دور لمزاولة الأنشطة والعروض والتداريب وحتى المرأة ستعرض انتاجاتها المختلفة… بدلا من الانعزال والسكوت، ففي هذه الحالة سنكون كدمى جامدة راكدة، فلئن لم نحافظ عليها فالأجدر أن نحافظ على شبابنا وتلامذتنا من التيارات المشحونة بالحقد والعنف والظلامية والسموم القاتلة والبدع والمذاهب والموضات الزائلة… فأين جيل الضياع والعبث والغثيان والوجودية والهيبية والبوهيمية والبونكية والطوباوية والماكنوهاليزمية.. و.. و… لقد انتبهت الشعوب التي تدعي التقدم إلى الأخطار التي تحدق وستحدق أكثر بالشعوب من جراء الموضات الفاشلة القاتلة، فأصبحت تنادي بالتربية المدنية والتربية على المواطنة، والتيار الأخضر الذي ظهر أخيرا، يدعو إلى التربية العمومية لمحو الأمية ونشر الوعي، وتوخي الحذر والتطلع إلى المستقبل بنظرة سليمة، للخروج من الأزمات النفسية والاقتصادية والأمراض التي لا علاج لها من نتاج سلوكات انهزامية، تهرب من الواقع ولا تواجه الصعوبات التي تعتريها بمنطق سليم ناجع … وفي الختام: إن الطبيعة ثروة عظمى، وكنز لا يفنى، وهي مصدر قوتنا، ومدرستنا التي تلهمنا، وتدفعنا إلى الإبداع والاختراع، وقد علمتنا كثيرا… دورنا المحافظة عليها لأننا نلجأ إليها كلما ألمت بنا مصائب نفسية كاليأس والقنوط بعد الله سبحانه وتعالى، فهي دائما جميلة أكثر من مدننا، رغم الإهمال وتلويثها بالملوثات التي تحدث الأمراض الخبيثة. لأننا تنقصنا ثقافة المحافظة على البيئة. إذا لم نحافظ عليها فكأننا لم نحافظ على قريتنا ووطننا. واختم بمأثورة لتشي جيفارا “الذي باع بلاده وخان وطنه، مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه”.