بعد مضي ستة عقود تقريبا على تبني نظام اللامركزية الترابية في المغرب وجعل التدبير العمومي شأنا محليا على الأقل من الناحية المبدئية والنظرية، فإن أياً من الأهداف التي ناد بها الخطاب الرسمي من نهج نظام اللامركزية الترابية لم تتحقق بعد بشكل دقيق، حيث تعثرت مسارات التدبير الترابي ولاتزال بمستوياتها الثلاث (المسار الجماعي، والمسار الإقليمي، والمسار الجهوي)، واتجهت فيها الأوضاع نحو تقدم وحركية ضعيفة ورتيبة . والدليل إذا كان من الناحية الظاهرية يبدوا الكثير من التغيير على مستوى تطور البنيات والهياكل الإدارية المحلية، وكانت قد تغيرت الكثير والكثير جدا من ملامح المدن القرى المغربية نحو “الأحسن” حيث تطور في البنيات والمظاهر المادية (طرق، مرافق عامة، تجهيزات….)، فإن مستوى بعض الآفات والظواهر مازالت في تفاقم كالفقر والهشاشة والبطالة والتفاوت الطبقي وغيرها. ولعل هذا يطرح سؤال من المستفيد من التنمية التي تحققت بفعل نهج أسلوب اللامركزية والإدارة المحلية بشقيها المنتخبة والمعينة؟ ولماذا اختل ميزان التنمية خاصة في جانبها المتعلق بالعدالة الاجتماعية؟ وأمام هذا الوضع المختل كيف يمكن تحقيق نموذج تنموي جديد؟ لا جرم أنه وإذا كان وإذا كان كثيرون يتطلعون إلى أن تكون المستجدات والتطورات التي جرت بعد دستور فاتح يوليوز 2011 وما ترتب عليها من إصلاحات بمثابة تصحيح لمسارات التدبير العمومي الترابي –خاصة على المستوى الإقليمي والجهوي-، فإن هذا الأمر لن يتحقق بالأماني والشعارات والخطابات، بل له شروطه ومتطلباته التي يتعين التعامل معها بجدية والتزام من قبل القائمين على إدارة الشؤون العامة المحلية خلال المرحلة الحالية. ولابد من التأكيد هنا أنه رغم تعدد أسباب تعثر التدبير العمومي الترابي ببلادنا، ومنه تعثر النموذج التنموي، فإن أزمة النخبة السياسية المغربية وما تعانيه من تشوهات فكرية وسياسية وأخلاقية يأتي في مقدمة هذه الأسباب. فإذا كانت حركة 20 فبراير قد كشفت عن مدى ضعف وهشاشة الكثير من المؤسسات والهياكل الإدارية للدولة، وأكدت على قدرة الشعب المغربي على إحداث التغيير السياسي، فإنها كشفت أيضاً عن مدى عمق الأزمة التي تعانيها النخبة السياسية المغربية بمختلف أجنحتها وانتماءاتها . حيث بدت هذه النخبة طوال الوقت متشرذمة وغارقة في دوامة لا تنتهى من الاعتلالات والاختلالات والانحرافات، الأمر الذى جعلها عاجزة عن بناء وتجويد وحوكمة التدبير العمومي الترابي، بل عن مواكبته ومجاراته والقيام بما نصت عليه القوانين المؤطرة لنظام اللامركزية الترابية وفق خصوصيات ومتطلبات النموذج المغربي للإدارة المحلية الذي يجعل من المجال المحلي الأبسط والأسهل مقارنة مع ما هو مركزي . كما أثبتت بجدارة أنها نخبة تسلطية فكراً وممارسةً، ينقصها الالتزام والمصداقية، كما ينقصها وجود أطر نخبوية مؤهلة فكرياً وإدارياً وتنظيمياً لممارسة “الحكم أو المعارضة” بقدر يعتد به من الفاعلية والكفاءة، ناهيك عن أنه ليس لدى أي من الأحزاب المنتمية إليها مشروع إصلاحي جامع مانع يمكن أن يكون وصفة علمية دقيقة لتخليص التدبير الترابي من إرث الماضي وتصويب الحاضر واستشراف المستقبل. وفى ضوء ما سبق، فإن الحديث عن وجود نخبة سياسية محلية حقيقية في المغرب بالمعنى العلمي المتعارف عليه لمفهوم «النخبة السياسية» هو أمر محاط بكثير من المحاذير. ولذلك سيتم استخدام المفهوم في إطار هذا التحفظ، حيث أن عناصر ما يُعرف بالنخبة السياسية المحلية كانوا ولازالوا في الأغلب الأعم مجرد أشخاص لهم مصالح ومأرب شخصية ذاتية ضيقة في مناصب سياسية بدرجة رؤساء مجالس الجماعات الترابية أو مستشارين لا أكثر ولا أقل. لقد ظلت الجماعات الترابية في المغرب تضم فئات كثيرة منغلقة ثقافيا وضعيفة فكريا وسياسياً، وعناصر من هواة السياسة والمتسلقين والمتربحين من العمل السياسي، ناهيك عن جحافل ما يُسمى ب«تجار الانتخابات وسماسرة الأصوات» الذين تكاثروا وانتشروا، واحترفوا مهنة ممارسة العمل السياسي من خلال المحطات الانتخابية. هذا وتعاني النخبة السياسية المحلية بالمغرب من اعتلالات وتشوهات عديدة يمكن إجمال أهم مظاهرها فيما يلي: ضعف القدرات والمؤهلات : يُعد غياب أو تواضع القدرات والمؤهلات الفكرية والإدارية والتنظيمية من أبرز سمات النخبة السياسية المحلية بالمغرب، فهي نخبة تجيد رفع الشعارات في الحملات الانتخابية، والحديث عن إنجازات وهمية، والانشغال بقضايا وصراعات صغيرة، لكنها بالمقابل هي نخبة متعثرة وفاشلة وعاجزة مهترئة بمعايير المهنية والكفاءة سواء على مستوى المبادرة أو الممارسة. فتدنى مستوى أداء النخبة الحاكمة خلال العقود الخمسة الماضية كان العامل الرئيس في تفاقم حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، واستشراء الفساد، وانتشار الفقر والبطالة والهشاشة. الفجوة بين الخطاب والممارسة أو ما يسمى بمعضلة انعدام أو ضعف المصداقية : تعانى النخبة السياسية المحلية من غياب أو ضعف المصداقية، حيث تمثل الفجوة بين القول والفعل ملمحاً جوهرياً في أداء هذه النخبة. فالخطاب السياسي الخشبي للأحزاب يؤكد ليل نهار على أن المغرب يعيش أزهى عصور التنمية والحكامة الترابية والديمقراطية خاصة المحلية، وأن معدلات النمو الاقتصادي العالية دليل على سلامة التدبير العمومي، وأن المغرب نموذج تنموي صاعد يقتدى به من طرف الدول الأخرى. ولكن على صعيد الواقع كانت تجرى عمليات ترسيخ التسلطية من خلال وسائل ديمقراطية شكلية، وكانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لقطاعات واسعة –خاصة على المستوى المحلي- تتجه من سيئ إلى أسوأ، ناهيك عن استشراء الفساد وتحوله إلى مؤسسة ضخمة وقوية، بل والأخطر من ذلك تحوله إلى ثقافة والتطبيع معه. كما أن روابطه على المستوى المحلي كانت ولا تزال تزداد عمقاً ورسوخاً. إن أزمة النخبة السياسية المحلية بالمغرب ليست وليدة عوامل ظرفية مؤقتة، ولكنها نتاج لمجموعة من العوامل والممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية السيئة التي تراكمت على مدى عقود من الزمن السياسي والتنموي المهدور، ويمكن إجمال أبرزها فيما يلى: – رسوخ التسلطية والاستبداد المحلي على المستويين الثقافي والسياسي؛ – اعتماد الثقة والنفعية الضيقة وليس الكفاءة كمعيار للتنخيب السياسي؛ – هشاشة التنظيمات الحزبية والمدنية (ظاهرة الدكاكين الحزبية)؛ – تعدد مسالك الفساد والإفساد (الزواج غير الشرعي بين السلطة والمال). أما بخصوص آثار وتداعيات ما تعانيه النخبة السياسية على التدبير العمومي فمهما قيل من قبل ومهما ما قد يقال في هذا المقام، فإنه يبقى غيضا من فيض. فظاهرة الفساد الإداري بالوحدات المحلية المنتخبة تعتبر من الظواهر التي تنخر في جسم مكوناتها وبدأت بالتدبير الإداري، وما تبعه من شلل في عملية البناء والتنمية الاقتصادية والقدرة الحكماتية. وبالتالي عجز تلك الجماعات الترابية على أداء وظائفها الإدارية والتأطيرية والتدبيرية، وبالأحرى عن مواجهة تحديات التنمية البشرية المستدامة في كل تجلياتها وبمفهومها الشمولي ومقوماتها المختلفة. أو بعبارة أخرى فقد تم بفعل اعتلالات النخب السياسية تكريس انتشار ظاهرة الفساد الإداري التي أصبحت هي الأصل أو القاعدة، في حين أصبح التدبير الترابي المناسب والمطلوب استثناءات في تجربة المقاربة الترابية المغربية. ولا مظنة أن ظواهر أو مظاهر الفساد هي التي أضحت تعرقل التنمية بجميع الجماعات الترابية، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بينها، حسب الظروف والأحوال والمحيط، ومختلف الأوضاع والعوامل المتحكمة في كل جماعة ترابية على حدة. ويمثل الفساد الإداري هنا -الذي هو الانحراف والجنوح السلبي والوظيفي داخل الجماعات الترابية- سلوكا مخالفا ليس للقانون فقط، بل للأعراف الاجتماعية والقيم الدينية والأخلاقية، ويقصد منه تحقيق منافع ومآرب شخصية وامتيازات ذاتية غير مستحقة . وتعتبر كل السلوكيات التي تنطوي عليها منظومة الفساد الإداري متفشية ومنتشرة بالجماعات الترابية نتيجة اعتلالات النخبة السياسية المحلية، وهي مظاهر لا شك أنها مؤثرة في نجاعة التدبير العمومي ككل، وفي التنمية البشرية الوطنية نظرا للعلاقة الجدلية الموجودة بينهما . وإذا كانت تلك المظاهر كثيرة ومتعددة ولا يمكن حصرها بأي حال من الأحوال، فإننا نجد منها على سبيل الذكر لا الحصر، التباطؤ في أنجاز المعاملات وخاصة المهمة والمستعجلة منها، وسوء التدبير والتماطل في تنفيذ المشاريع التنموية. واتساع دائرة الشطط والتعسف في استعمال السلطة، وانغلاق التدبير المحلي وثقل البيروقراطية . وكذا تعقيد المساطر الإدارية وضعف التواصل، وغياب المساهمة الفعالة في إعداد وتنفيذ مخططات ومشاريع التنمية المحلية. هذا ناهيك عن تفشي الظواهر أو مظاهر الفساد التقليدية المعروفة، والتي غالبا ما يكون لها طابع بنيوي عميق يضرب في جذور المجتمع المحلي. حيث انتشار وتفشي مظاهر الرشوة والمحسوبية والمنسوبية والمحاباة والوساطة، والابتزاز والتزوير وغيرها من الظواهر التي تنتشر نتيجة عدم الالتزام بسيادة القانون. أو نتيجة لعدم تحكيم القيم والمبادئ الأخلاقية في التعامل الإداري والتساهل في المتابعات وشيوع حالات اللاعقاب والتواطؤ أو التكالب من أجل تحقيق المآرب الضيقة. وإذا كان لاعتلالات النخب السياسية المحلية تبعات سلبية، كثيرة ومتعددة على التدبير الإداري بالجماعات الترابية، فإن تأثيرات وتداعيات ومخلفات ذلك على التدبير المالي بتلك الجماعات أدهى وأمر، وأكثر وقعا وهولا على التنمية المحلية وعلى الحكامة الترابية عموما. حيث أن بعض الجماعات الترابية لا تعرف أخطاء واختلالات مالية وانحرافات في الميزانيات من المستوى الاعتيادي المألوف، بل يحدث فيها أحيانا من السلوكيات والأفعال والتصرفات ما يمكن تصنيفه ضمن الجرائم المالية الكبرى. هذا فضلا عن كون الممارسة والتجربة الواقعية قد أثبتت أن الأصل في التدبير المالي للجماعات الترابية -وبدون مبالغة- هو الاختلالات والعلل والنواقص المتعددة ، إذ ناذرا إن لم يكن معدما ما تكون السنة المالية بإحدى الوحدات المنتخبة، سليمة من الانحرافات والاختلالات المالية الكبرى. وذلك بصرف النظر عن الأخطاء الصغرى المعتادة، وبصرف النظر عن الاختلالات المصرفية أو المحاسبية أو التدبيرية أو غيرها من المظاهر المالية المشينة، التي تعتري النفقات والموارد المعتادة والمألوفة بالجماعات الترابية . ومن هنا ولكل تلك الاعتبارات، يمكن القول بصدد تأثير اعتلالات النخبة السياسية على التدبير المالي بالجماعات الترابية، أنها ظاهرة أخطر وأسوء من الفساد الإداري. وقد أفرزت تلك الاختلالات واقعا محليا سيئا، عليلا ومختلا، يسوده الفساد المالي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومن ثم لا يصلح للتنمية أو للحكامة الترابية، أو حتى لتأطير المواطن إداريا من خلال التدبير والتسيير الروتيني أو تصريف أعماله اليومية. ولعله من كثرة مظاهر وتجليات الاختلال المالي بالجماعات الترابية وتمظهراته بات يصعب كثيرا أو يكاد يكون مستحيلا، حصر مختلف مظاهر وتجليات تأثير اعتلالات النخبة السياسية على التدبير المالي المحلي. أو بعبارة أخرى أكثر وضوحا، استعصاء الإحاطة بجميع تجليات وتمظهرات الفساد المالي بالجماعات الترابية، والناتجة عن اعتلالات النخب السياسية. ولعل ما ترصده المجالس الجهوية للحسابات في هذا الإطار وتتضمنه تقارير المجلس الأعلى للحسابات سنويا، لخير دليل على ذلك. هذا ناهيك عن ما ترصده وتتحدث عنه بشكل دائم وسائل الإعلام المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني ومختلف مكونات الرأي العام الوطني والمحلي وغيرها. الدكتور عماد أبركان