ينشر بالاتفاق بين أريفينو و الكاتب د.جميل حمداوي عن كتابه ثقافة الأمازيغيين وحضارتهم المسرح الأمازيغي : من الماضي إلى الحاضر نعني بالمسرح الأمازيغي ذلك المسرح الذي أنتجه الإنسان البربري أو الأمازيغي منذ تواجده فوق أرض تامازغا (شمال أفريقيا) أو خارجها. ولايمكن الحديث عن المسرح الأمازيغي إلا إذا أنتجه أو ساهم فيه المبدع الأمازيغي ذاتا ولغة وهوية وموضوعا وقضية. وبالتالي، لا يمكن اعتبار المسرح إرثا أو إنتاجا أمازيغيا إلا إذا كانت الذات الأمازيغية حاضرة على مستوى الإبداع والإنتاج، أو كانت اللغة الأمازيغية حاضرة على مستوى الكتابة والتشكيل والتوصيل ، أو كانت الأمازيغية موضوعا وقضية محورية للفرجة المسرحية. وعليه، فلقد مر المسرح الأمازيغي بمراحل أساسية هي: u مرحلة التأثر بالمسرح اليوناني والروماني إبان المرحلة اللاتينية؛ v مرحلة الركود والتوقف النسبي إبان الفتوح الإسلامية؛ w مرحلة الأشكال الفرجوية مع فترة الحماية الأجنبية؛ مرحلة التأسيس والتجريب والتأصيل. سنحاول في هذه الدراسة رصد ماضي المسرح الأمازيغي وحاضره، في ضوء رؤية تاريخية تعتمد على التصنيف والتحقيب والتوثيق والاستنتاج المنطقي والتفسير الحجاجي. D مرحلة التأثر بالمسرح اليوناني واللاتيني: عرف الأمازيغيون – ساكني شمال أفريقيا- أثناء الفترة اللاتينية تمدنا واسعا وازدهارا حضاريا كبيرا في ظل القرطاجنيين والرومان، كما تأثروا بالثقافة الفينيقية والثقافة المصرية الفرعونية. وإذا استقرأنا البنية التحتية لمنطقة تامازغا، فقد بنيت مدن كثيرة تحوي مجموعة من المسارح كمسرح صبراتة و لبدة بليبيا[1]، ومسرح قرطاج وتيليبت ( Thelepte) ودكة بتونس، ومسرح تيبازة وتيمكاد بالجزائر، ومسرح وليلي وليكسوس بالمغرب. وقد تحدث شارل أندري جوليان في كتابه ( تاريخ أفريقيا الشمالية) عن علو كعب مدنية شمال أفريقيا في عهد الإمبراطورية الرومانية. وفي الوقت نفسه، تحدث عن كثرة المسارح الفنية التي كانت من مظاهر حضارة الرومان في منطقة تامازغا[2]. وفي هذا الصدد، يقول شارل أندري جوليان:" كان عدد المسارح في أفريقية يفوق عدد الملاعب ، وكان مسرحا تيمكاد ودكة منحوتين في ربوة كما هو الشأن في اليونان، أما مسرح تيبازة فقد كان بالعكس مبنيا ومن الممكن أن يتبين المرء إلى اليوم في مسرح تيمكاد الثقب المستطيلة الشكل التي كانت تمكن من تحريك الستار. وكان مسرح دكة المشيد في عهد مرقس أوريليوس يحتوي على( 21 ) مدرجا تنقسم إلى ثلاثة أقسام بواسطة درابزين. وتوجد في مؤخر الركح خمس درجات كبرى توضع فوقها مقاعد متنقلة. ويتركب الجانب الأمامي من الركح من مشاك عديدة لا تزال ماثلة إلى اليوم. وكان طول الركح 75.36 م وعرضه 50.5 م مفروشا بفسيفساء، تحملها ترابة معتمدة على أقبية. وكانت توجد ثلاثة أبواب في الجدار الخلفي من الركح كما يوجد بابان على جانبي الركح يمكن منهما التوصل مباشرة إلى مجموعة من الأعمدة قائمة أمام المسرح"[3]. ويعني هذا أن المسارح التي كانت تبنى في شمال أفريقية إما مسارح طبيعية منحوتة في الجبال وإما مسارح مبنية من قبل السلطات الحاكمة. وكانت هذه المسارح واسعة الركح طولا وعرضا، مبنية بطريقة المدرجات من أجل استيعاب الكثير من النظارة على غرار المسرحين: الروماني واليوناني. ويحتوي هذا المسرح كذلك على أبواب منفتحة على الكواليس والجمهور، وستار واسع يفصل الجمهور عن الممثلين، كماهو حال المسرح الغربي اليوم، وكانت أرضية الركح منقوشة بالفسيفساء الملونة والزخارف المرصعة. أما من حيث الطاقات البشرية الأمازيغية على المستوى العطاء الفني في مجال المسرح، فنقول إذا كان أغلب الملوك الأمازيغيين وزعمائهم، كماسينيسا وصيفاقس وتكفاريناس ويوغرطة، قد اهتموا بمقاومة الرومان على سبيل الخصوص، فإن الملك يوبا الثاني على العكس كان مواليا للقيصر الروماني . وفي الوقت نفسه، انشغل ببناء المدن وإرساء الحضارة الرومانية في نوميديا وموريطانيا الطنجية. وقد اهتم بشكل خاص بالفنون والعلوم والآداب، فأنشأ المتاحف في مدينة الجزائر وعاصمتيه شرشال ووليلي، بله عن تشييد المعابد الدينية والقصور الفخمة والمسارح . ويقول شارل أندري جوليان في حق يوبا الثاني:" ولم ينشط العاهل الجديد نشاط آبائه. ولما لم تترك له الحماية الرومانية إلا المظاهر فقد تسلى بالاعتناء بالمجموعات الفنية والأدب الرخيص".[4] ومن مظاهر اهتمام يوبا الثاني بالفن الدرامي تأليفه لكتاب تحت عنوان( تاريخ المسرح)، لكنه ، ويا للأسف! ضاع مع مرور الزمان، ولم يصلنا شيء من أوراقه وآثاره. وليس لدينا من ذلك سوى الشهادة التقريضية التي أدلى بها المؤرخ الفرنسي لاكروا الذي قال في حق يوبا الثاني:" اشتهر يوبا على الخصوص بعلمه الواسع، فقد ألف كثيرا من الكتب التي ردد ذكرها القدماء، وبقي منها قطع مبثوثة هنا وهناك... أولا: تاريخ بلاد العرب الذي وضعه لتعليم يوليوس قيصر. ثانيا: تاريخ آشور ، وقيل أنه كتبه بعد أن شاهد هذه البلاد. ثالثا: آثار الرومان القديمة. رابعا: تاريخ المسرح، تحدث فيه عن الرقص وآلاته والموسيقى ومخترعي هذه الفنون. خامسا: تاريخ الرسم والرسامين. سادسا: كتاب منابع النيل، زيادة على كتاب النحو والنبات.".[5] ويتبين لنا – مما سبق ذكره- بأن الأمازيغ كانوا يقدمون عروضهم المسرحية مستعينين بالرقص والموسيقى والتشكيل البصري على غرار العروض المسرحية التي نشاهدها اليوم. وإلى جانب يوبا الثاني، نجد المسرحي الأمازيغي الليبي ترنيوس آفر، وهو من كبار مبدعي المسرح في المرحلة اللاتينية ، له ست مسرحيات مشهورة تجمع بين التراجيدي والكوميدي، وهذه المسرحيات هي : (فتاة أندروس)، و(الحماة)، و(المعذب نفسه)، و(الخصي)، و(فورميو)، و(الأخوان). وهناك أيضا شخصية أمازيغية أخرى مهووسة بفن المسرح، وهي شخصية الفنان و الروائي النوميدي أفولاي (أبوليوس عند الغرب) صاحب أول نص روائي عالمي يعرف باسم( الحمار الذهبي). وقد مارس أفولاي الفن المسرحي تشخيصا وإبداعا وكتابة وإخراجا. فقد ورد أنه زار قرطاجنة للتعلم، فاندهش بها أيما اندهاش. كما اندهش منه القرطاجنيون لما له من معرفة موسوعية في جميع الفنون والمعارف والآداب ، فكان القرطاجنيون يهتفون به كلما صعد إلى المسرح ، وهو بدوره يهتف بهم قائلا:"إني لا أرى في مدينتكم إلا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة، وتبحروا في جميع العلوم: أخذوا العلم صغارا، وتحلوا به شبانا، ودرسوه شيوخا. إن قرطاج لهي المدرسة المقدسة في مقاطعتينا، وهي عروس الشعر في أفريقيا، وهي أخيرا ملهمة الطبقة التي تلبس الحلة"[6]. ويمكن القول: إن أفولاي كان شاعرا متنوع الأغراض ، يبدع الشعر الملحمي والشعر الغنائي الوجداني . كما كان كاتبا مسرحيا غزير الإنتاج، إذ ألف مجموعة من التراجيديات والكوميديات مستعملا في ذلك الشعر على غرار المسرحيين اليونانيين والرومانيين. ويقول أفولاي في إحدى اعترافاته الصريحة:"أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان، لمرح الملهاة أو جلال المأساة. وكذلك لا أقصر لا في الهجاء ولا في الأحاجي ولا أعجز عن مختلف الروايات، والخطب يثني عليها البلغاء، والحوارات يتذوقها الفلاسفة، ثم ماذا بعد هذا كله؟ إني أنشئ في كل شيء سواء باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس ونفس الأسلوب"[7] ونفهم من هذا أن قرطاجة كانت عاصمة تامازغا في مجال المسرح والشعر والثقافة والسياسة إبان المرحلة اللاتينية، وكان البرابرة لهم باع كبير في مجال الثقافة والفنون المسرحية، وكان الرومان والمؤرخون الأجانب القدامى والمحدثون والمعاصرون، بالإضافة إلى المستمزغين، يعترفون لهم بذلك أيما اعتراف. وأقصد المثقفين الذين تعلموا اللغة اللاتينية باعتبارها لغة رسمية وأداة للتعليم والتعلم، و ووسيلة للترقية المادية والمعنوية، وتولي المناصب الإدارية والسياسية والمدنية والدينية. ومن الطبيعي أن يكون جل المتعلمين ينحدرون من طبقة أرستقراطية مقربة من السلطات الرومانية. وفي هذا السياق، يقول شارل أندري جوليان:" وكان الطلبة ينحدرون بصفة عامة من الطبقة الأرستقراطية القاطنة في البلديات. وكان بعض الأغنياء يشمل أحيانا برعايته أحد الشبان البربر النجباء، فيمكنه من تنمية ملكاته في قرطاج. ولم يكن هؤلاء الشبان جميعهم، مثلا يحتذى في المواظبة والفضيلة. فكانوا يرتادون المسارح والملاهي وينغمسون فيما سماه القديس أغسطنيوس متندما" مرجل الأهواء التي يندى لها الجبين". وكان عدد منهم مثل أغسطنيوس لا يقل ولوعهم بحبيباتهم عن ولوعهم بالدرس. وكان آخرون يؤلفون عصابات من المشاغبين، فيهجمون على قاعات الدرس، ويشاكسون الأستاذ، ويشيعون الطلبة الوديعين لكما وضربا. وكان التعليم الذي يقوم به النحاة يزود أفريقية بالإداريين والمحامين البارعين وبعض الحكام الأعلام، وأشهرهم سالفيوس جوليانوس أصيل حضر موت (سوسة) وصاحب القانون الأبدي، ويزودها أيضا برجال كانت ثقافتهم إلى السطحية أقرب منها إلى العمق"[8] وعلى العموم، فقد تأثر المسرح الأمازيغي بالمسرح المصري الفرعوني ذي البعد الكهنوتي والطقوسي والجنائزي. كما تأثر بالمسرح اليوناني والروماني على مستوى المعمار الهندسي والجمالي من جهة، وعلى صعيد السينوغرافيا وكتابة المسرحيات التراجيدية والكوميدية من جهة أخرى، سواء أكان ذلك قد تم فعلا باللغة اليونانية أم باللغة اللاتينية أم باللغة الأمازيغية الأفريقية. وقد يتشكك البعض في أمازيغية هذا المسرح جزئيا أو كليا ، إلا أننا نرد عليهم بأن ثمة معايير ثلاثة لإثبات هوية المسرح الأمازيغي هي: u أن المسرح الأمازيغي هو الذي يكون من إنتاج الإنسان أو الذات الأمازيغية أو البربرية؛ vأن المسرح الأمازيغي هو الذي يتخذ القضايا الأمازيغية موضوعا له؛ w أن المسرح الأمازيغي هو الذي يستعمل اللغة الأمازيغية أداة للتعبير والتبليغ والتوصيل.[9] [1] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، تعريب: محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الأولى سنة 1969م، ص: 234-231. [2] – شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، ص: 234-236. [3] – شارل أندري جوليان: نفسه، ص: 242. [4] – شارل أندري جوليان: نفسه،ص:172. [5] – نقلا عن لاكروا: نوميديا وموريطانيا، أورده إبراهيم حركات وآخرون، دار الكتب، لبنان، ص:143. [6] – شارل أندري جوليان: نفسه،ص:249. [7]– شارل أندري جوليان: نفسه، ص: 252. [8]– شارل أندري جوليان: نفسه،ص: 549-250. [9] – انظر جميل حمداوي: المسرح الأمازيغي، منشورات الزمن، العدد 25، سلسلة شرفات، الطبعة الأولى سنة 2009م.